ربما لا يكون لهذا المقال من مناسبة ، سوى أن المعنى به لايزال يعيش بيننا ، وندعو الله أن يمد فى عمره ، وأن يظل يضئ حياتنا ، فهو كيان إنسانى عظيم التفرد ، يصعب أن نعطى له لقبا ونكتفى به ، وقد فكرت أن أكتب عنوانا لمقالى عنه ، وخطرت فى ذهنى ألقاب بينها "مفتى اليسار" و"معلم الأجيال" و"الرجل الذهبى" ، ثم وجدت عسرا فى أن أكتفى بأى لقب أو عنوان ، ووجدت الكفاية كلها فى ذكر اسمه الجليل "عبدالغفار شكر" .
هو رجل
البسالة الإنسانية بلا ضجيج ، وبوسعه أن يضفى حتى على الأشياء الجامدة حيوية
متدفقة ، تأمل ـ مثلا ـ مقاله الموسوم "مجتمع الكراسى المتحركة" ، وقد
نشرته له "الأهرام" فى 14 نوفمبر 2015 ، مع اكتمال عام بالضبط على
اكتشافه إصابته بجلطة فى المخ ، وهو يصحبك من غرفة نومه التى فوجئ فيها بما جرى
فجرا ، إلى عيادات الأطباء ، وإلى صالة العلاج الطبيعى ، فقد أصبح من ذوى الكراسى
المتحركة على مدى شهور طويلة ، لا تلحظ فيها أنه يشكو من ألم ، أو يتخوف من عجز ،
بل تصحبك وجوه أطبائه ، ويرسم لهم صورا مؤثرة ، تجعلهم من أصدقائه وأصدقائك ، مع
أقسام العلاج بالماء والعلاج بالعمل فى مركز عسكرى يضج بالمدنيين والمجندين ،
وهيئة التمريض من العقيد "سهير" إلى الصول "جيهان" والنقيب
"رشا" ، ولا ينسى بطله مساعد التمريض المتفائل "وجيه" ، الذى
كان صوت غنائه الصباحى من آخر الممر ينشر الارتياح فى النفوس الحالمة بالشفاء ، وبينها نفس
"راقصة الباليه" التى أصابها فيروس فتخشب جسمها ، وفى نهاية مقطوعة
التعاطف الإنسانى العذبة ، يقول لك عبدالغفار شكر خلاصته ببساطة ، ويلخص العبرة
والعظة بقوله نصا "ما أعيشه الآن هو تجربة إنسانية . لم أشعر خلالها باليأس
أو بالإحباط . ولكنى أتمسك بالأمل فى الشفاء . وعلى استعداد لترتيب أولوياتى
وحياتى على ضوء الوضع الطبى الجديد" .
أعدت
قراءة المقال مرات ، وتذكرت أننى جبنت وتراجعت ، ولم أكن من الأصدقاء الذين زاروا
عبدالغفار شكر فى رحلة العلاج ، واكتفيت بالاطمئنان عبر هاتف ابنته الوحيدة
"أميمة" ، فلم أكن أجرؤ على رؤيته فى وضع الضعف ، وهو الرجل الذى عرفته
أكبر من كل ضعف ، كنت طالبا فى جامعة المنصورة ، وانضممت لحزب التجمع أواخر
سبعينيات القرن العشرين ، وكنت أسيرا لشخصية عبدالغفار شكر بالذات ، لم يكن الرجل
وقتها من الأسماء الرنانة التى تتداولها الصحف والإذاعات ، لكنه كان حزبا فى رجل ،
كان طاقة عمل ديناميكى معجزة ، وذهنا مرتبا صافيا ، كان ينطق الكلمات فى سلاسة
كأنه يتلوها من اللوح المحفوظ ، وكانت أغلب وثائق التجمع ولوائحه وتقاريره
الأساسية من صناعة يده ، لا تلحظ اهتزازا ولا شطبا فى كلماته الناصعة المنسابة فوق
ورق مسطر بعناية ، وكان بوسعه أن يكتب بيانا سياسيا ضافيا بليغا دقيقا فى ثلاث
دقائق ، كان الرجل فى نصف عمره الآن ، وكان مثالا مبهرا يشدنى إليه ، وسرعان ما
وجدت نفسى زائرا مرحبا به فى بيته ، لم يكن بيتا مما تتوقع لابن عمدة قرية
"تيرة" الذى مات فى حربه مع الإقطاع ، بل مجرد شقة متواضعة فى المساكن
الشعبية المطلة على نيل "طلخا" المواجهة لأضواء "المنصورة" ،
كنت أناقش الرجل فى حدة أحيانا ، وكان يرد بوضوحه وهدوئه الذى غلبنى ، وجعلنى
معتادا على المشى معه عبر "الكوبرى" العتيق فوق النيل ، وإلى حيث مقر
ندوة "الأربعاء" فى حزب التجمع أعلى مقهى "أندريا" الشهير ،
كان شكر هو مؤسس الندوة، وقد أسس مثلها فى المقر الرئيسى لحزب التجمع وسط القاهرة
، كان الرجل يقضى نصف يومه هنا والنصف الآخر هناك، ولم ألحظ تعبا على الرجل
الأربعينى وقتها ، وإلى أن أصابنى الفزع على السلم متسع الدرجات فى المبنى
"الباشاواتى" العريق ، كان شكر يصعد فى تؤدة ظاهرة إلى حيث مقر
"التجمع" بالمنصورة ، كانت تؤدة الرجل منضبطة كانتظامه العملى الفائق ،
وكنت نادرا ما أعبر عن فضولى ، لكنى تورطت فسألته ، وكان الجواب مفاجأة ، فقد
أخبرنى الرجل بهدوء عن السبب فى تؤدته بصعود السلم المضاء ، وقال أنه أصيب بأول
ذبحة صدرية فى الثلاثين من عمره ، ولم يكن أمامى سوى أن أصدق الصادق ، برغم أن
أحدا كان لا يمكنه أن يتوقع ، فقد كان الرجل يبذل نشاطا لا يستطيعه أشد الأصحاء ،
وهو الذى تولى تربية وتثقيف قرابة النصف مليون مصرى بمنظمة الشباب الاشتراكى فى
الستينيات ، بدأ الرحلة الشاقة وعمره أقل من الثلاثين ، ولم تمنعه الذبحات الصدرية
المتوالية من مواصلة أشواط تثقيف الأجيال وراء الأجيال، وبصورة مكثفة لا تصدق معها
أنه يكاد يناهز الثمانين الآن .
وقد
تأثرت بمئات الكتب التى قرأتها ، وبعشرات الكتاب والمفكرين والسياسيين ، منهم من
أحب ومن أكره ، لكنى لم أعترف بالأستاذية لأحد سوى لعبدالغفار شكر الذى خالفته
مرات ، وقد كتبت ممتنا لأستاذيته قبل عشرين سنة من الآن ، وقبل أن تلهج الألسنة
بذكر اسمه ، وتعرف كتبه التى تأخر صدورها باسمه طويلا ، فقد كان الرجل يكتب ويكتب
دون أن يضع اسمه ، وكانت كتبه ـ بدون اسمه ـ أشبه بالمقررات الدراسية الأساسية
لأحزاب ومنظمات اليسار المصرى العلنية والسرية ، ولم يضع الرجل اسمه سوى فى مرحلة
متقدمة من عمره ، وعلى الكتب التى لا يتصور أحد أن تصدر سوى عن عبد الغفار شكر ،
ومن أول "التحالفات السياسية" و"تجديد الحركة التقدمية" فى
سنوات التسعينيات ، وإلى تجربة "منظمة الشباب" و"الطليعة العربية"
فى السنوات والشهور الأخيرة ، فالرجل لا يدبج مقالات ، ولا يؤلف كتبا يبحث لها عن
مصادر ، بل يكتب نفسه باقتصاد ودقة ، فهو من أغزر المفكرين والمثقفين إنتاجا
وتأثيرا ، لكن أحدا لا يجاريه فى دور المثقف (بكسر القاف) ، وهو الوحيد الذى أنشأ
"مدرسة تثقيف" سياسية مصرية بالغة الكمال والامتياز ، لا تغلق أبوابها
أبدا فى وجوه الطالبين .
* المقال منشور في الأخبار
بتاريخ
1-12-2015
0 comments:
إرسال تعليق