القصة أكبر من وزير الإعلام اللبنانى جورج قرداحي ، ومن تصريحات صدرت عنه قبل توليه منصبه ، تناولت باللوم حرب السعودية وتحالفها فى اليمن ، وإن كان غاب عنها ما لا يصح أن يغيب ، وهو دور "الحوثيين" المقابل فى حرب التدمير الشامل لليمن ، و"الحوثيون" أداة إيرانية بلا شبهة إنكار ، وهم قوة رجعية عنصرية سلالية طائفية بامتياز .
ولا يبدو ميل السعودية للانتقام من لبنان فى محله ، فهو لن يجلب نصرا استحال
فى حرب اليمن عبر سبع سنوات ، وليست القصة أن يبقى قرداحى فى منصبه ، أو أن يذهب ،
والسعودية نفسها تقول ذلك ، ومشكلتها المعلنة فى "حزب الله" ونفوذه اللبنانى
، وتتصور السياسة السعودية أن بوسعها إنهاء سيرة حزب الله ، أو دفع اللبنانيين تحت
ضغط الخنق الاقتصادى ، إلى شن حرب إفناء ضد حزب الله ، وهذه وصفة مضمونة للفشل ، وقد
أخفقت إسرائيل نفسها فى تقويض الحزب ، وفشلت عقوبات أمريكا فى المهمة ذاتها ، وليس
بوسع "الرياض" أن تفعل ما عجزت عنه "واشنطن" ، فصحيح أن
"حزب الله" مرتبط عضويا بإيران ، وزعيمه حسن نصر الله أعلن مرارا تلقيه كل
صنوف الدعم من طهران ، وأن مرجعيته هى فتاوى المرشد الإيرانى على خامنئى ، لكن حزب
الله له وجوه أخرى غير الوجه الإيرانى ، فقد قاوم وصمد وهزم "إسرائيل" مرات
، وكان عنوانا لمقاومة عربية استشهادية من نوع مختلف ، أجلت الاحتلال الإسرائيلى بالقوة
عن جنوب لبنان ثم عن غزة ، ولا تخاف إسرائيل قوة فى المشرق العربى المحطم ، أكثر مما
تخشى من "حزب الله" ، وترسانة أسلحته وصواريخه المتطورة ، برغم أن حربا شاملة
لم تقع بين الطرفين منذ نحو 15 سنة ، تحول فيها سلاح حزب الله إلى العناوين الخاطئة
بالجملة ، من تورطه الطائفى فى مستنقع حروب الأزمة السورية ، وإلى دعمه السياسى والميدانى
لحروب دمار ، قادها الحوثيون فى اليمن ، ومن دون أن تكون هناك حسابات وطنية ولا قومية
عربية منظورة ، بل سيطرت الاعتبارات الإيرانية المحضة على سياسات الحزب ، الذى اشتهر
أساسا بحروب المقاومة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى ، لكنه تناسى الدرس الجوهرى لنجاح وسمعة أى مقاومة ضد إسرائيل ، وهو أن تقف بسلاحها
بعيدا عن التورط فى أى شئون داخلية لأى قطر عربى ، وأن لا يكون السلاح الذى يقتل الغزاة
الصهاينة ، هو نفسه السلاح الذى يوجه لصدر عربى .
نعم ، فقد سلاح حزب الله كثيرا من جاذبيته وبريقه عند الشعوب العربية ، وتورط
فى قتل السوريين والعراقيين واليمنيين وغيرهم ، وهو ما جعل الدعاية ضد حزب الله ، تجد
آذانا تصغى وتصدق ، ودون أن يكون من طرف مستفيد أكثر من إسرائيل أولا ، فالذين يناهضون
حزب الله بدعوى إيرانيته ليسوا أكثر عروبية من قادة حزب الله ، اللهم إلا من باب التظاهر
بعروبة مريبة ، تجعل خدمة إسرائيل والتطبيع المجانى معها ، شرطا من شروط الانتساب لقومية
عربية مهينة مهانة ، تتذرع بمواجهة تفشى النفوذ الإيرانى ، بينما هى التى كانت سببا
فى توحش التوسع الفارسى ، من حروب احتلال العراق إلى حروب تحطيم سوريا .
ومع التسليم بأخطاء حزب الله ، إلا أن اقتلاعه من لبنان ، يبدو هدفا مستحيل
التحقق ، فهو ليس حزبا طافيا على سطح الحوادث ، وقاعدته الاجتماعية الشيعية بالغة الاتساع
، وهو مغروس بعمق فى تربة التاريخ اللبنانى المعاصر ، وقوته المفرطة لبنانيا ، تحرم
أى طرف مغامر من فرصة التفكير بحرب أهلية جديدة ، وتوازنات لبنان الطائفية الحرجة ،
لا تتيح لأحد ترف مسايرة السياسة السعودية فى هدفها العبثى بقطع دابر حزب الله.
عبد الغفار شكر
رحل عنا قبل أيام القائد الفكرى الجليل عبد الغفار شكر فى عامه السادس والثمانين
.
ولا أجد عندى فى وداعه ، أفضل من نشر بعض ما كتبت قبل ست سنوات ، فى مقال حمل
اسمه وقلت فى نصه "ربما لا يكون لهذا المقال من مناسبة ، سوى أن المعنى به لايزال
يعيش بيننا ، وندعو الله أن يمد فى عمره ، وأن يظل يضئ حياتنا ، فهو كيان إنسانى عظيم
التفرد ، يصعب أن نعطى له لقبا ونكتفى به ، وقد فكرت أن أكتب عنوانا لمقالى عنه ، وخطرت
فى ذهنى ألقاب بينها "مفتى اليسار" و"معلم الأجيال" و"الرجل
الذهبى" ، ثم وجدت عسرا فى أن أكتفى بأى
لقب أو عنوان ، ووجدت الكفاية كلها فى ذكر اسمه الجليل "عبدالغفار شكر"
.
هو رجل البسالة الإنسانية بلا ضجيج ، وبوسعه أن يضفى حتى على الأشياء الجامدة
حيوية متدفقة ، تأمل ـ مثلا ـ مقاله الموسوم "مجتمع الكراسى المتحركة" ،
وقد نشرته له "الأهرام" فى 14 نوفمبر 2015 ، مع اكتمال عام بالضبط على اكتشافه
إصابته بجلطة فى المخ ، وهو يصحبك من غرفة نومه التى فوجئ فيها بما جرى فجرا ، إلى
عيادات الأطباء ، وإلى صالة العلاج الطبيعى ، فقد أصبح من ذوى الكراسى المتحركة على
مدى شهور طويلة ، لا تلحظ فيها أنه يشكو من ألم ، أو يتخوف من عجز ، بل تصحبك وجوه
أطبائه ، ويرسم لهم صورا مؤثرة ، تجعلهم من أصدقائه وأصدقائك ، مع أقسام العلاج بالماء
والعلاج بالعمل فى مركز عسكرى يضج بالمدنيين والمجندين ، وهيئة التمريض من العقيد
"سهير" إلى الصول "جيهان" والنقيب "رشا" ، ولا ينسى
بطله مساعد التمريض المتفائل "وجيه" ، الذى كان صوت غنائه الصباحى من آخر
الممر ينشر الارتياح فى النفوس الحالمة بالشفاء
، وبينها نفس "راقصة الباليه" التى أصابها فيروس فتخشب جسمها ، وفى نهاية
مقطوعة التعاطف الإنسانى العذبة ، يقول لك عبدالغفار شكر خلاصته ببساطة ، ويلخص العبرة
والعظة بقوله نصا "ما أعيشه الآن هو تجربة إنسانية . لم أشعر خلالها باليأس أو
بالإحباط . ولكنى أتمسك بالأمل فى الشفاء . وعلى استعداد لترتيب أولوياتى وحياتى على
ضوء الوضع الطبى الجديد" .
أعدت قراءة المقال مرات ، وتذكرت أننى جبنت وتراجعت ، ولم أكن من الأصدقاء الذين
زاروا عبدالغفار شكر فى رحلة العلاج ، واكتفيت بالاطمئنان عبر هاتف ابنته الوحيدة
"أميمة" ، فلم أكن أجرؤ على رؤيته فى وضع الضعف ، وهو الرجل الذى عرفته أكبر
من كل ضعف ، كنت طالبا فى جامعة المنصورة ، وانضممت لحزب التجمع أواخر سبعينيات القرن
العشرين ، وكنت أسيرا لشخصية عبدالغفار شكر بالذات ، لم يكن الرجل وقتها من الأسماء
الرنانة التى تتداولها الصحف والإذاعات ، لكنه كان حزبا فى رجل ، كان طاقة عمل ديناميكى
معجزة ، وذهنا مرتبا صافيا ، كان ينطق الكلمات فى سلاسة كأنه يتلوها من لوح محفوظ ،
وكانت أغلب وثائق التجمع ولوائحه وتقاريره الأساسية من صناعة يده ، لا تلحظ اهتزازا
ولا شطبا فى كلماته الناصعة المنسابة فوق ورق مسطر بعناية ، وكان بوسعه أن يكتب بيانا
سياسيا ضافيا بليغا دقيقا فى ثلاث دقائق ، كان الرجل فى نصف عمره الآن ، وكان مثالا
مبهرا يشدنى إليه ، وسرعان ما وجدت نفسى زائرا مرحبا به فى بيته ، لم يكن بيتا مما
تتوقع لابن عمدة قرية "تيره" الذى مات فى حربه مع الإقطاع ، بل مجرد شقة
متواضعة فى المساكن الشعبية المطلة على نيل "طلخا" المواجهة لأضواء
"المنصورة" ، كنت أناقش الرجل فى حدة أحيانا ، وكان يرد بوضوحه وهدوئه الذى
غلبنى ، وجعلنى معتادا على المشى معه عبر "الكوبرى" العتيق فوق النيل ، وإلى
حيث مقر ندوة "الأربعاء" فى حزب التجمع أعلى مقهى "أندريا" الشهير
، كان شكر هو مؤسس الندوة، وقد أسس مثلها فى المقر الرئيسى لحزب التجمع وسط القاهرة
، كان الرجل يقضى نصف يومه هنا والنصف الآخر هناك، ولم ألحظ تعبا على الرجل الأربعينى
وقتها ، وإلى أن أصابنى الفزع على السلم متسع الدرجات فى المبنى "الباشاواتى"
العريق ، كان شكر يصعد فى تؤدة ظاهرة إلى حيث مقر "التجمع" بالمنصورة ، كانت
تؤدة الرجل منضبطة كانتظامه العملى الفائق ، وكنت نادرا ما أعبر عن فضولى ، لكنى تورطت
فسألته ، وكان الجواب مفاجأة ، فقد أخبرنى الرجل بهدوء عن السبب فى تمهله بصعود السلم
المضاء ، وقال أنه أصيب بأول ذبحة صدرية فى الثلاثين من عمره ، ولم يكن أمامى سوى أن
أصدق الصادق ، برغم أن أحدا كان لا يمكنه أن يتوقع ، فقد كان الرجل يبذل نشاطا لا يستطيعه
أشد الأصحاء ، وهو الذى تولى تربية وتثقيف قرابة النصف مليون مصرى بمنظمة الشباب الاشتراكى
فى الستينيات ، بدأ الرحلة الشاقة وعمره أقل من الثلاثين ، ولم تمنعه الذبحات الصدرية
المتوالية من مواصلة أشواط تثقيف الأجيال وراء الأجيال ".
*كاتب المقال
كاتب صحفى مصرى
رييس تحرير
جريدة "صوت الأمة"
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق