كان التصرف عفويا غريزيا تماما ، وناطقا صادقا بفطرة المصريين الوطنية ، وواصلا عابرا إلى وجدان أجيال شابة ، عمرها أقل من نصف عمر ما تسمى "معاهدة السلام" مع إسرائيل ، كان عدد من الطلاب المصريين على متن باخرة سياحية عند شواطئ "دهب" ، مدينة الرمال الذهبية الواقعة فى نقطة قريبة من حدود مصر التاريخية مع فلسطين المحتلة ، وما إن علم الطلاب بوجود حفنة سياح إسرائيليين على الباخرة ، حتى كان الرد التلقائى ، الذى جعل الإسرائيليين يفرون بجلودهم ، هلعا ورعبا من قصف غنائى مفاجئ ، صار واحدا من أيقونات الوطنية المصرية ، والتحامها العضوى بالهم الفلسطينى ، وفى صورة شريط "فيديو" حماسى للطلاب المصريين ، وهم يغنون "أنا دمى فلسطينى" .
بدت الصرخة الموسيقية بإيقاعها الفلسطينى ،
كأنها تعويذة سحرية تفتك بأعصاب الإسرائيليين ، والأغنية كما هو معروف للمطرب
الفلسطينى الشاب "محمد عساف" ، الذى زار القاهرة أخيرا ، وبدعوة رسمية
من وزارة الثقافة المصرية ، وشارك فى الدورة الثلاثين لمهرجان "الموسيقى العربية"
، وصدح بأغنية "أنا دمى فلسطينى" وغيرها ، وكانت حفلته كاملة العدد
وتزيد ، ولم يبق فيها موضع لقدم ، تماما كحفلات أشهر المطربين والمطربات العرب ،
الذين تباروا بالأداء فى أهم محفل غنائى عربى جامع ، وشعر "عساف" ، الذى
اشتهر بأغانيه ومواويله من نوع "على الكوفية" و"جينالك يا
فلسطين" وغيرها ، وهو يغنى مع فرقته على مسرح "النافورة" بدار
الأوبرا القاهرية ، وكأنه بين أهله فى "خان يونس" الفلسطينية ، ومن دون
أن يفاجأ بحماس أجيال جديدة من المصريين ، ربما لم يقرأ أغلبهم كتابا واحدا عن
قضية فلسطين والصراع العربى الإسرائيلى ، ولم يشهدوا جميعا ، لاهم ولا جيل آبائهم
الأقربين حربا واحدة من حروب مصر مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، فقد دارت آخر حرب
شاملة قبل ثمانية وأربعين عاما ، ووصفها الرئيس السادات بعدها بأنها آخر الحروب ،
وأغلب ما يسمعونه أو يرونه فى وسائل الإعلام العامة ، أن مصر عقدت مع إسرائيل
"معاهدة سلام" قبل نحو أربع وأربعين سنة ، وأن المسئولين المصريين
والإسرائيليين يتبادلون الزيارات واللقاءات والمجاملات ، لكن ذلك كله ، لم يفتح
قلوبهم للإسرائيليين ، ولا نزع عروة المحبة الوثقى لكفاح الشعب الفلسطينى وقضيته ،
برغم أخطاء وخطايا وجرائم سابقة لفصائل فلسطينية فى حق المصريين ، بالغت دوائر
إعلام فى تضخيمها وتعميمها (قبل التفاهم الأمنى الملموس بين حركة حماس والسلطات
المصرية المعنية) ، وأرادت أن تقيم بها "حاجزا نفسيا" بين المصريين
والفلسطينيين ، ربما على أمل إقامة جدار كراهية للفلسطينيين ، قد يفيد بالمقابل ،
فى فتح ثغرة بحائط الصد المصرى الشعبى للإسرائيليين ، الذين لم يفلحوا أبدا فى مد
جسور تطبيع شعبى مع المصريين ، فلا يزال التطبيع عند أغلب المصريين عارا وخيانة ،
وجريمة مخلة بالشرف الشخصى ، تسقط اعتبار مقترفها أيا ما كان اسمه ورسمه .
وربما
لا تكون من حاجة لتذكر أمثلة قريبة وبعيدة ، من الكاتب المسرحى الراحل على سالم ،
إلى النائب السابق توفيق عكاشة ، إلى الممثل والمغنى الراقص محمد رمضان ، وكلهم مع
غيرهم ، راحوا ضحية ضبطهم فى حالة تلبس بارتكاب الجرم المشهود ، بالدعوة إلى تطبيع
شعبى ، أو التقاط الصور مع إسرائيليين ، وكان الجزاء احتقارا شعبيا غالبا ، وردود
فعل وصلت إلى التعرض البدنى ، على طريقة ضرب توفيق عكاشة بالحذاء فى قاعة البرلمان
، أو "العلقة الساخنة" ، التى تلقاها محمد رمضان من شبان مصريين صادفوه
فى الطريق ، برغم كذب رمضان دفاعا عن نفسه ، وادعاؤه أنه لم يكن يعرف "الهوية
الإسرائيلية" لمن ظهر معهم فى "دبى" ، بعدها تراجع المطرب المصرى
الشهير "محمد منير" عن إقامة حفل كان مقررا فى "القدس"
المحتلة ، فقد ظل الرفض الشعبى المصرى التلقائى عنصر ردع جاهز مستنفر دائما ،
ويجرى توريثه جيلا فجيل ، وعلى نحو شبه "جينى" ، لا يشترط فى صاحبه عملا
بالسياسة ، ولا انتماء ولا اقترابا من حزب أو تيار سياسى بعينه ، فيكفى أن تكون
مصريا لتعادى الإسرائيليين الغزاة ، وقد قدم المصريون فى الحروب مع الكيان
الصهيونى أكثر من مئة ألف شهيد وجريح ومعاق ، وتضحيات تفوق تضحيات أى شعب عربى آخر
، وبمن فيهم الفلسطينيون ، ولم ينقطع حبل التضحيات أبدا بعد توقيع ما تسمى
"معاهدة السلام" ، من الشهيد "سعد إدريس حلاوة" إلى
"سليمان خاطر" و"أيمن حسن" ، وأبطال منظمة "ثورة
مصر" الناصرية ، وإلى تضحيات المئات فالآلاف من المثقفين والنشطاء المصريين ،
الذين طوردوا وسجنوا لرفضهم التطبيع مع إسرائيل ، وحالوا دون مشاركة الإسرائيليين
فى معرض الكتاب والمعرض الصناعى وغيره ، وصنعوا دستورا شعبيا حاكما فى كافة
النقابات المهنية والعمالية والفلاحية ، جعل "التطبيع" من موجبات إسقاط
العضوية ، وجعل لقاء الإسرائيليين أم الجرائم ، برغم أن القانون الرسمى يعتبر أن
"إسرائيل" دولة صديقة ، ويتبادل معها التمثيل الدبلوماسى ، ويعقد
اتفاقات "الكويز" و"الغاز" ، وهو ما يرفضه الرأى العام المصرى
بغالب أصواته ، ولا يقنعه كل ما يقال عن الفوائد الاقتصادية الضخمة ، التى تجنيها الدولة
المصرية ورجال أعمالها .
نعم ،
بين المصريين والإسرائيليين مواريث دم لاتصير ماء ، وهو ما صنع معادلة مميزة فى
مصر بعد عقد ما تسمى "معاهدة السلام" ، معادلة يتصرف ويشعر فيها أغلب
المصريين ، أن المعاهدة لا تعنيهم ، وأنها من عمل الحكومات الذى لا يلزم الشعوب ،
فلن تجد شعبا عربيا يعادى الإسرائيليين أكثر من المصريين ، ولن تجد إسرائيل عائقا
للتطبيع الشعبى أكثر من سواد المصريين العاديين ، فالقصة عند المصريين أكبر من
مصير سيناء ، وقد عادت سيناء لمصر رسميا
مع عقد المعاهدة ، ثم عادت فعليا لا صوريا ، بعد إنهاء ودوس مناطق خفض ونزع السلاح
، وفرض أمر واقع جديد ، جرى ترسيمه مؤخرا باتفاق تعديل الملاحق الأمنية للمعاهدة ،
وبتضحيات دم هائلة من الجيش المصرى ، فى حرب حملت رسميا عنوان "مكافحة
الإرهاب" ، لكنها كانت وتظل فى مغزاها الكلى ، حربا لتحرير سيناء فعليا ، ووصلا
لما كان انقطع منذ وقف إطلاق النار فى حرب أكتوبر 1973 ، التى لم تكن آخر الحروب
كما تصور السادات ، فوجود إسرائيل فى ذاته خطر على الوجود المصرى فى ذاته ، وقضية
فلسطين مسألة وطنية مصرية ، وهذه عقيدة الشعب المصرى كما عقيدة الجيش المصرى ،
برغم تقلبات السياسة وأنظمة الحكم ، فالشعوب وضمائرها وجيوشها الوطنية هى الأبقى ،
ولا صوت يعلو شعبيا فى مصر على صوت العداء لإسرائيل ، حتى لو تكاثرت خطط الالتفاف
السياسى والثقافى والدينى ، وجرى التلاعب بالصيغ والرموز المقدسة ، وعلى طريقة
دعوى "الديانة الإبراهيمية" مثلا ، ولم يكن مفاجئا لأحد ، أن الدعوى
الهجينة المريبة ، تلقت الضربة الحاسمة من مصر بأزهرها وكنيستها ، وفى مناسبة بدت
داخلية تماما ، ففى لقاء احتفالى جرى أخيرا بالذكرى العاشرة لإنشاء "بيت
العائلة" ، وهو منبر تأسس عام 2011 ، بناء على مبادرة مشتركة من الأزهر
والكنيسة ضد الاحتقانات الطائفية ، وسرعان ما تحول اللقاء عن الشواغل الداخلية
المصرية ، وبدت كلمات المشايخ والقساوسة المشاركين ، كأنها طلقات مصوبة عمدا ضد
"الدعوى الإبراهيمية" واتفاقات تطبيعها عربيا ، وأعلن شيخ الأزهر رفضه
لدعوى "الديانة الإبراهيمية" ، وعدها دعوى سياسية معادية ، تصادر على حق
المسلمين كما المسيحيين فى حرية الاعتقاد والإيمان وكسب حرية الأوطان ، وهو نفس ما
ذهب إليه قادة الكنيسة المصرية ، وبدا الموقف سياسيا مقصودا فوق أصالته الدينية ،
برغم ما هو معروف من صلات حسنة بين الحكم المصرى وبلدان الدعوى والاتفاقات
"الإبراهيمية" ، وبرغم ماهو معروف أيضا ، من طبيعة صلات الدولة المصرية
الممتدة مع "الأزهر" و"الكنيسة" ، وكلها سمحت بأن يجرى ما جرى
، فالدولة المصرية ذات السلوك المركب المعقد متعدد الطبقات ، قد لا تمانع فى عقد
اتفاقات رسمية مع إسرائيل ، لكن أجهزتها تعيق عمليا أى تطبيع شعبى مع إسرائيل ،
على نحو يستجيب جزئيا للشعور الشعبى العام ، ويراعى جوانب التحصين الأمنى فى الوقت
ذاته ، وقس على ذلك ما جرى بعد حادث اقتحام وإحراق الشباب المصرى لمقر السفارة
الإسرائيلية الأول على شاطئ النيل بالجيزة ، ثم نقل مقر السفارة إلى منزل السفير ،
والرقابة اللصيقة المفروضة ، التى تجعل لقاء سفير العدو بأى مصرى عملا باهظ الكلفة
، وحتى فى مزارات سياحة سيناء ، لا يخفت دبيب المراقبة ذاتها ، فكل إسرائيلى زائر
قد يكون جاسوسا محتملا ، وهو ما يفهمه المصريون المعنيون ضمنا ، ويطلق مشاعرهم
المختزنة بالصدور وقت الحاجة ، وعلى طريقة ما فعل الطلاب المصريون ، الذين طردوا
الإسرائيليين بسحر تعويذة "أنا دمى فلسطينى" .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق