الحمد للّه الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والمِنَّةُ لرب العزة -سبحانه- الذي جعل من أهم أواصر الصلة بين أبناء العروبة والإسلام لغةً واحدةً لا تفنى؛ بل تبقى ببقاء كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وقد
سَعِدْتُ أيَّما سعادة عندما كلَّفتني الأستاذة الشاعرة الفاضلة/ أحلام الحسن
بتقديم ديوانها الخامس؛ "دمعةٌ على وجه القمر" فشرعتُ -على فوري- بقراءة
الديوان الممتع الشائق على الرغم من وقتي الخانق، ثم وجدتني أعيد قراءته مرة أخرى
لما يضمّ بين دفتيه من تنوع موضوعاته، ورقة معانيه، وسلاسة موسيقاه، وتمكن لغته،
وجدَّة صوره، وبروز شخصية صاحبته بروزا يجعل المتلقي يستحضر صورة روحها المتأججة
وشاعريتها الملتهبة.
اعتمدت
الشاعرة "أحلام الحسن" في تقديم فكرها وشاعريتها للمتلقي على التطواف في
عدد من الدوائر متنوعة من موضوعات فنِّ القول؛ من ذلك:
موضوعات
دينية وإيمانية تبرز الدين الإسلامي الحنيف في ثوب قشيب، بالإضافة إلى منتسبيه
خصوصًا آل البيت الكرام رضِيَ الله عنهم ورضُوا عنه؛ مما يجلي حب الرسول صلى الله
عليه وسلم، وحب آل البيت؛ كفاطمة الأسدية أم علي كرم الله وجهه، وزينب حفيدة النبي
صلى الله عليه وسلم بالمدح أو الرثاء، ورثاء الإمام علي (14). وحب الحسين
(18")، والتوبة إلى الله تعالى والاعتراف بالذنب (24).
الحب
والهجران وتوابعهما من أخذ وعطاء، ومنع ومنح، وقرب وبعد، ولوعة وهيام. كما في
قصيدة "19" "مطلع" حيث تصف الحزن الذي يمزق الأفئدة، والدمع
الذي يؤثر في نفس الحبيب، وتصف الخوف المخيم على فؤاد العاشق نتيجة الهجر والبعاد،
ومع هذا فإن سيطرة الأمل في القرب واللقاء هي المسيطرة على مشاعر الشاعرة.
الحكمة:
يكاد هذا الغرض يمثل الموضوع الرئيس في هذا الديوان؛ حيث يبدو بجلاءٍ في كثيرٍ من
قصائده. من ذلك القصائد: "31" "حورية الأتراب" "38"
"يكفي" وهي آخر قصائد الديوان، حيث تبدأ قصيدتها بالخطابية المباشرة
آمرةً بمعنى النصح والإرشاد ونقل الخبرات المتراكمة؛ فتحذِّر من شرار الفعل،
وإبراز الأحقاد، كما تحث على العناية بإعداد الزاد للآخرة، ويكون هذا بحسن
الخُلُق. ولنأخذ العبرة من القبور، وضرورة البعد عن أشباح المعاصي.
موضوعات
الساعة: حرصت الشاعرة "أحلام الحسن" على الانشغال بأهم القضايا التي
تدور في فلك الزمن المعيش، مثل مأساة فيروس "كورونا" الذي أرَّق الناس
وشغل الكون كله، فراحت تدلي بدلوها في هذا الأمر الذي فرض نفسه على البشر أجمعين،
وهو ما بدا في قصيدة "20" "شملٌ في مهبِّ الريح" التي تحكي عن
زمن كورونا؛ "فالقصيدة تحكي عن تشتت الشمل الذي أحدثته الأزمة الصحية العالمية
كورونا، وبالتحديد عن المعاناة النفسية التي يعاني منها الأطفال، بسبب الخوف الذي
يعيشونه، وبسبب عدم إشباعهم بالحب والاحتضان". وهي لمحة ذكية تقترن بعاطفة
الأمومة الراسخة بالسليقة في فؤاد الشاعرة الأنثى.
رثاء
الأحبة: وقد تنوع هذا الغرض بين قسم أول هو رثاء الأقارب الذين عايشتهم الشاعرة
كقصيدة "22" "في رثاء الجدة الحبيبة"، وراحت تقص علينا
مناقبها ومزاياها أيام كانت حية بين أفراد أسرتها، حيث كانت ترعاهم وتحنو عليهم،
وما زال أثرها باديًا في حبها وعطفها ساكنا قلوبهم يستظلون به.
والقسم
الثاني: رثاء من لم ترَهم ولم تعايشهم، لكنها تستحضر وتسترجع ذكراهم العطرة؛
خصوصًا آل البيت الكرام، كزينب الشريفة حفيدة الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم،
والإمامين؛ علي والحسين رضِيَ الله عنهم جميعًا ورضوا عنه، فتستمتع وتُمتِع
باسترجاع ذكراهم العطرة ومناقبهم المنيفة، وشذاهم العبق، صابَّةً ذلك كله في قوالب
من فِضَّةِ شعرٍ لامعةٍ بهيَّة.
وفي
الديوان بعض الظواهر الفنية التي تفرض نفسها على المتلقي، ومن ثّمَّ لا بد من
تلمسها والوقوف على عتباتها، من ذلك:
التقديم
والتأخير: تبدو هذه الظاهرة بجلاء من القصيدة مفتتح الديوان عن ذكرى مولد السيدة
زينب، بل مفتتح الكلمات من مطلع القصيدة؛ من ذلك: "كَزَهْرٍ رِيْعُها"
بتقديم خبر المبتدأ عليه، و"إنما الجاهلُ في أمرٍ بدَا" بتقديم الجار
والمجرور على الفعل المتعلق به، و"كلُّ ذِكرَى منه كم قلبًا كَوَتْ"
بتقديم المفعول به على الفعل والفاعل، "وبي داءٌ فهل لي من طبيب" بتقديم
الخبر على المبتدأ.
والشاعرة
بهذه التقنية التركيبية تحاول الضغط على وجدان المتلقي بإبراز ما تحاول توصيله
إليه؛ وذلك بطرح المعاني الأَوْلَى في ضميرها الشعري فتضعها في صدارة الجمل وهادية
للتراكيب.
2-استخدام
وسائل التوكيد، من ذلك:
- قد
التي وردت ثماني وخمسين مرة، وهذا العدد الكبير ينم على إسرار من الشاعرة على لفت
انتباه المتلقي نحو معانيها التي ترغب في ترسيخها في ذهنه.
-
"إن" التي تستخدم في العربية للتوكيد حيث وردت بالديوان اثنتين وعشرين
مرة. وهذا يثبت حرص الشاعرة وإصرارها على إيصال مفاهيمها وقناعاتها للمتلقي، وهو
ما يناسب حكمتها السائدة وشعرها الديني ومشاعرها المتأججة نحو آل البيت الكرام.
-
الترادف والتكرار، كقولها: "يداويني ويشفي لي فؤادًا" حيث تسعى الشاعرة
من خلاله إلى الضغط على توكيد المعاني التي ترمي إليها، وإنْ خَلَتْ الجمل التي
تشبه هذا الأسلوب من كلمات مباشرة تحمل معنى التوكيد المباشر.
-
الخطابية المباشرة خصوصًا في قصائد الحكمة؛ حيث اعتمدت الشاعرة على هذه الخطابية
سعيًا منها إلى إثبات قضاياها التي تطرحها وتدافع عنها، والإلحاح عليها لترسيخها
في ذهن المتلقي في محاولة جادَّة لإقناعه بصحة ما ترمي إليه والتأكيد على صدق
تجربتها.
-
استخدام لام التوكيد، من ذلك: "ولْتعلَمْ أنَّ خيالَك لم يبعُدْ عنِّي"
قصيدة "17"، وقولها: "ولْيَجمَعْ أوراقي صونًا"، وقولها:
"ولْأجمعْهُ من بَعْثَرَةٍ" "بدون قيد أو شرط".
ويبدو
هذا الأسلوب -أكثر ما يبدو- في شعر الحب؛ حيث إن الشاعرة تُلِحُّ على إثبات حرصها
على هذا الحب برغم ما ينتابه من تصرفات ومناوشات وتحوُّلات بين الرجاء واليأس،
والأمل في اللقاء وبروز شبح الفراق، لكن الشاعرة حريصة دومًا على إبراز تمسكها
بهذا الوصال وإن لم يكن باديًا في اللحظة الراهنة.
استخدام
أسلوب الحوار: كما في قصيدة رقم "8" "وليدُ الكعبة"، حيث
استخدمت الشاعرة فعل القول وحقوله الدلالية ثلاثين مرة؛ وفيها تدير الشاعرة حوارًا
جدليًّا يعتمد على الحجة والحجة الأخرى بين الموافقة والرفض لفكر الشيعة، وحبهم
للإمام علي كرم الله وجهه، وتعتمد في هذا الحوار الجدلي على جلب عدد من الحجج
المنطقية وإثبات الأدلة العقلية التي تثري الحوار.
استخدام
ضمير المذكر المتكلم، وهذا كثير في شعر الشاعرة "أحلام الحسن"، ومن ذلك
ما ورد في قصيدة "14" "إذا عسعس الليل"، وقصيدة
"16" "قصيدة لم تكتمل".
ففي
القصيدة "إذا عسعس الليل" تتحدث الشاعرة الأنثى بضمير المذكر؛ كأنها
تريد إثبات هذا النموذج في الحب الحريص على الحبيب، ولا يختلف هذا الشعور سواء
أكان من الرجل أم المرأة. وفي القصيدة "قصيدة لم تكتمل" -وهي قصيدة في
الحب كذلك- تستمر في هذا النهج الذكوري؛ حيث تبدأ بالمتكلم المذكر مخاطبًا أنثاه،
وتستمر القصيدة جميعها على هذا النهج حتى نهايتها.
* وتمثل
الموسيقى الخارجية والداخلية في الديوان عنصرًا مهمًّا، فالشاعرة "أحلام
الحسن" شاعرة رقيقة اللفظ مرهفة الحس، تختار موسيقاها بعناية تتناسب مع دفء
وجدانها.
وتعتمد
الشاعرة في هذا الديوان على عدد من الأبحر القليلة التي تكرر الكتابة في دائرتها؛
ومعظم موسيقاها عمودية تقليدية على العروض الخليلي في معظمها، لكنها تختار الأبحر
الصافية الرشيقة، حيث تتناسب مع روحها الراقصة الصافية. لكنها -أحيانا- تستخدم شعر
التفعيلة كما في قصيدة "17" "بدون قيد أو شرط"، وقد نظمت على
بحر مستحدث هو بحر الحلم المقصور "إليك" "26".
وينماز
شعر "أحلام الحسن" بأنه قصير القصائد، سريع الإيقاع، خفيف الوقع، والنفس
الشعري قصير متقطع؛ إذ تكثر المقطعات في الديوان وكذلك القصائد القصيرة؛ فالشاعرة
تلقي بنفثة شعورية دافقة سريعة في قالب موسيقي رشيق.
وأخيرًا:
فإننا أمام شاعرة لها مكانتها الثابتة في عالم الشعر والأدب الذي قدمت نفسها إليه
بأربعة دواوين قبل ذلك، والآن تقدم لنا متعة جديدة في ديوانها الخامس الذي يمثل
إضافة إلى عالم الإبداع. متمنين لها دوام الاستمرار وروعة العطاء.
*كاتب
مقدمة الديوان
أ.د/أحمد
عُوَيْن
أستاذ
الدراسات الأدبية
ووكيل
معهد الدراسات الأفروآسوية للدراسات العليا
0 comments:
إرسال تعليق