كتب: حافظ الشاعر
صدر مؤخراً عن منشورات المتوسط - إيطاليا كتاب بعنوان "حفرة الأعمى" للروائي والناقد السوري خليل صويلح، وهو كتاب في فن السرد وعنه، يستحضر فيه المؤلف قراءات كتب وتجارب كتابتها وملاحظات نقدية حولها، مستخدماً براعتي الروائي والصحفي ليمزجها بقالب حكائي رشيق يبدو فيه خليل صويلح كنبّاش قبور بارع يعرف في أي حفرة من تاريخ الأدب سيعثر على سنٍ ذهبي، أو حلية فضية، ذهبت ذات يوم مع جثة صاحبها إلى المطبعة، فيذهب إليها مباشرة.
يعطي صويلح دروساً لنفسه (بل ويتيح للآخرين مشاركته إياها) في فن السرد، مستلهماً تقنيات المطبخ وتقطيع اللحم، ومفكرة أبيه الخالية من أيام الأربعاء، والاستمارات الأمنية، وسجلات الأحوال المدنية، ومسارات السهرات الريفية، ومطالع حكايا شهرزاد.
كل ذلك يصبّه خليل في خلاصات ثاقبة، وعبارات مكثفة متلاحقة، تصلح دليلاً شخصياً لمعنى السرد.
لا يمكن تصنيف الكتاب على أنه أدب، أو أنّه عن الأدب، أو أنه نقد، أو صحافة. هو كل ذلك، بمزيج بارع، تجتمع فيه خبرات حياة وقراءة وكتابة الروائي والناقد وابن الحياة، الذي ما زال يملك القدرة على الابتسام وعلى صنع الابتسام.
هذا الكتاب هو الكتاب الرابع عشر للمؤلف، والخامس في مشروعه للكتابة عن العلاقة بين القارئ والكتاب. وقد اختارت دار المتوسط لهذا الكتاب تصنيف "مقامات" في محاولة لاستعادة هذا النوع الأدبي من معناه التراثي، وعصرنته وإعطاءه دلالات جديدة.
أخيراً جاء الكتاب في 136 صفحة من القطع الوسط.
فهرس الكتاب
طبَّاخون بالجملة، وأطباق فارغة على الموائد!
سَرَدَ الجِلْد إذا ثَقَبَهُ بالمِخْرَز ثقوباً متتابعة. هكذا يتَّخذ الجِلْد هيئة رُقْعة الكتابة، ويتكفَّل المِخْرَز بمهمَّة القلم أو أحرف الكيبورد، بالانتباه المركَّز إلى موقع الثقب، فإفلات مكان أحد الثقوب أو نسيانه، ينطوي على ثغرة أكيدة في تتابع السرد.
فخاخ بنود الاستمارة الأمنيَّة
اختزل شخصيَّات روايتكَ إلى النصف، ثمَّ أَحِطْها بسورٍ منيع، لا يقل متانة عن الأسلاك الشائكة التي تحيط بإسطبلات الخيول، واطردْ البغال بعيداً.
فضائل الاختزال، والاقتصاد اللغوي، وتقطير الجملة
إن استقالة الناقد من مَقْعَده، أو انزلاقه نحو المداهنة والمدائح الشخصيَّة والنخوة العشائرية، جعلت منه رافع أثقال مُراوِغاً، ناقلاً النصَّ من وزن الذبابة إلى مرتبة أعلى، بحركة بهلوانية واحدة.
إغواءات الرمل
تحويل الشفوي المحلِّيِّ إلى خطاب سردي حميمي، يُطيح شبكة العلاقات اللغوية المألوفة ببلاغة مضادَّة، تتواءم مع خشونة المكان الأوَّل، وسطوة الحنين في استعادة ما هو مُفتَقَد وجحيميّ ومنهوب في آن.
كما لو أنكَ تحتسي القهوة المُرَّة!
وكأنكَ تعيش مخاض الفَرَس بانتظار ولادة مهرة أصيلة، تخرج بطُمأنينة من غشاء المَشِيْمَة، لا مخاض السُّلْحُفَاة التي تَدفِن بيوضها في الرمل، وتغادرها بلا ندم أو شكوك بمصيرها المقبل.
حماقة اختراع المخطوطات
حسناً، لقد ارتكبتُ هذه الحماقة قبلكَ، ولن أُكرِّرها، أقصد رغبة استخدام مخطوط ما، وقع عليه الراوي بمصادفة ما، وها هو يقلِّب أوراقه البائسة على الملأ، بقصد فَكِّ ألغازه.
خديعة المُؤرِّخ
ماذا تعني إنياذة فيرجيل، إن لم تكن كذبة كبيرة لاختراع عَظَمَة أوغست؟
إصلاح أعطال المطبخ
ينبغي، إذاً، أن تكون سكِّين الروائي مشحوذة جيِّداً للعمل على بَتْر أعضاء الجمل الإنشائية الفائضة، من دون بَنْج، وتحديد المَتْن، كي لا يفيض نحو هوامش الصفحات، ويسيل الحبر خارجاً، فالروائي طاهي كلمات أوَّلاً وأخيراً.
لا روائي بدوام جزئي
مهنة الروائي ليست وظيفة دوامها جزئي، إذا كنتَ روائياً، فستكون روائياً على مدار الساعة.
ترويض فوضى المُخيِّلة
في القصَّة، كما في الحياة، الأشخاص الطيِّبون رائعون ومُلْهِمُون، لكنهم مُمِلُّون بشكل رهيب، فالشخص المثالي ليست لديه قصَّة، كي يرويها.
مرافعة عن عمل الحكَّائين
أولئك الذين يروون تاريخاً مضادَّاً قابلاً لأن يحدُث بمجرَّد تدوينه أو النطق به.
متأرجحاً بين كتابَيْن أو ثلاثة
الألم باكتشاف «شارلوت» أخرى، كنتُ أراقبها من نافذة غرفتي، وهي تُوقِد التنُّور بِيَدَيْن مُلَطَّخَتَيْن بالطحين.
لعنة ابن رُشْد
ابن رُشْد أم «أفيروس» وَفْقَاً لاسمه اللاتيني؟ سنجد الصورتَيْن معاً، ولكنْ، من موقعَيْن متضادَّيْن.
عندما نتحدَّث عن القارئ، فنحن نعني بورخيس حتماً
الرغبة في أن تكون آخر، الرغبة في أن تكون أحد أبطال الروايات.
كروم وثعالب
ينبغي ألَّا نتجاهل نقَّاداً من وزن الذبابة «ناقداً بِبَطْحَة عَرَق»، أو «ناقد المَرَقَة»، ذلك الذي يغرق بمَرَقَة المنسف مقابل الغَرَق بصفحات الكتاب.
بخصوص سرديات النزوح والهجرة والمنفى
مثلما هناك هجرة لا شرعية خارج حدود البلاد، توجد هجرة لا شرعية إلى الرواية، بنوع من الاغتصاب. أقصد روائيِّي القوارب المطَّاطية المثقوبة.
الالتفات على طريقة طائر البوم
ماذا تفعل بفكرة صغيرة بزغت فجأة في مخيِّلتكَ، وأنتَ تقطع المسافة بين شارعَيْن، فكرة قد تبدو عابرة بالنسبة إلى الآخرين، ولا تصلح للتدوين؟
فُكاهة كلِّ يوم
لم يقل لي بأنه ينوي كتابة مذكِّراته أو يومياته في المقهى، إنما كتابة رواية، عادَّاً بأنه يكتنز أسراراً تستحقُّ أن تُروى.
على ارتفاع شاهق
رواية من دون عقارب سردية لن تلدغ القارئ أو تُوقِظ حواسَّه، لا يُعوَّل عليها.
حاجتنا إلى نسخة محلِّيَّة من فرانز كافكا
لدينا كلُّ ما يلزم في تفسير أحوال الأذى البشري.
حفرة الأعمى
ما يترتَّب على قصَّة عن الموت، يمكننا تطبيقه على قصَّة عن الحُبِّ أو الفقدان أو الانتظار، أو انقطاع التيَّار الكهربائي عن المِصْعَد فجأة، وبالمواصفات السردية نفسها.
التفكير بالديناصورات
علينا أن نحذر ديناصورات الكتابة، وهم يستحضرون لغةً مُحنَّطة، وكأن الكوكب لم تلتهمه الحروب والثورات والأوبئة، وفوتوغرافيا السيلفي، ومنصَّات السوشال ميديا، والخرائط الجديدة، وأنواع الإذلال.
تهجين النقائض
نحتاج إلى قوانين إِسْبَارْطَه الصارمة في تزييت عجلات السرد تِقْنِيَّاً، وإلى عاطفة إيثاكا بعناق خرائط مختلف الأجناس الإبداعية.
مُفكِّرة أبي التي تخلو من ملاحظات يوم الأربعاء
فقط يفرُش أوراق التبغ الطرية في الفناء، وبسكِّين مشحوذةٍ جيِّداً، ينهمك بفَرْمها، كَمَنْ يَفرُم أيَّام الأسبوع بأكمله.
بعض خسائر ورشة الخيال
سيقع الأدب في أقرب حفرة، ويخسر المباراة، وفي أحسن أحواله سيكون السُّلْحُفَاة لا الأرنب في القصَّة المشهورة.
هدية الجَدَّة العظيمة شهرزاد
كانت جَدَّتنا الأولى شهرزاد في «ألف ليلة وليلة» أوَّل مَن اكتشف أهمِّيَّة الجملة الفعلية في سرد الحكاية، وقد أَهدَتْنا جملة عظيمة، عَبَرَتْ مختلف القارَّات واللغات، من دون حواجز: «بَلَغَنِي، أيُّها المَلِكُ السَّعِيْدُ».
عن المؤلف:
خليل صويلح: روائي وناقد سوري من مواليد محافظة الحسكة عام 1959. صدر له في الرواية، ورّاق الحب 2002 (حازت على جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية للعام 2009)، وبريد عاجل 2004، ودع عنك لومي 2006، وزهور وسارة وناريمان 2008، وسيأتيك الغزال 2011، وجنة البرابرة 2015، واختبار الندم 2017(حازت على جائزة الشيخ زايد للأدب)، وعزلة الحلزون 2019. كما صدر له في النقد، قانون حراسة الشهوة، وضد المكتبة، ونزهة الغراب. وفي الحوارات صدر له كتاب بعنوان (اغتصاب كان وأخواتها - حوارات مع محمد الماغوط).
0 comments:
إرسال تعليق