قل ما شئت من أوصاف عن الذى جرى ويجرى فى أفغانستان اليوم ، فإذا قلت أنها "خيانة أمريكا" فأنت محق ، وإذا قلت أنها مذلة وسقوط لأمريكا ، فأنت على حق أكثر ، فخيانات أمريكا لعملائها من أصل طباعها ، ولم تكن الخيانة الأمريكية فى أفغانستان سلوكا اختياريا ، بل اندفعت إليه بالإجبار لا بالاختيار ، وهزيمتها هناك كانت أسبق من قرار انسحابها ، ذهبت واشنطن وحلفها الأطلنطى إلى أفغانستان قبل عشرين سنة ، وكان الهدف المعلن هو القضاء على حركة "طالبان" حاضنة تنظيم القاعدة ، ولم تحصد سوى الفشل بعد الإزاحة السريعة لحكم "طالبان" ، واغتيال أسامة بن لادن بعدها بعشر سنوات ، وفى باكستان وليس فى أفغانستان ، وقبل قرار ترامب وبايدن من بعده بالانسحاب ، كانت حركة "طالبان" تسيطر على نصف أراضى أفغانستان ، ولم يكن يتبقى لها سوى السيطرة على عواصم الولايات الأربعة والثلاثين ، ومع هرولة القوات الأمريكية وفرارها المتعجل ، دخلت "طالبان" إلى المدن والعاصمة "كابول" فى أسبوع ، وفى غالب الأحيان دون طلقة رصاص ، فقد انهار الجيش الأفغانى العرمرم الذى دربته وسلحته أمريكا فى أيام ، تماما كما حدث لنظيره "العراقى" الذى اكتسحته "داعش" قبل سبع سنوات ، وتبخر 300 ألف جندى وضابط أفغانى فى لحظات ، وآلت كل أسلحتهم وأسلحة القوات الأمريكية وقواعدها ومطاراتها إلى "طالبان" ، وذهبت أغلب عوائد التريليونى دولار التى أنفقتها أمريكا هناك إلى الحركة التى أسسها الراحل الملا محمد عمر قبل نحو ثلاثين سنة ، فيما تكفل عميل أمريكا الرسمى "الرئيس" أشرف غنى بسرقة الباقى ، وهرب مع زوجته ، واستولت أمريكا على أصول "البنك المركزى الأفغانى" قبل هروب رئيسه بفردة حذاء واحدة ، قبل أن تدق "طالبان" على أبواب "كابول" بنقرة إصبع ، وتدخل القصر الرئاسى للمرة الثانية .
وليست هذه أول مرة تنهزم فيها أمريكا ، فقد
أدمنت الهزائم ، ولم تدخل حربا بعد قصف "هيروشيما" و"نجازاكى"
بالقنابل الذرية فى نهاية الحرب العالمية الثانية ، لم تدخل حربا إلا وخسرتها ، من
الحرب الكورية أوائل خمسينيات القرن العشرين ، وليس انتهاء بحرب الصومال وحرب
العراق ، وبينهما حرب فيتنام الأشهر ، التى قتلت فيها أمريكا ثلاثة ملايين فيتنامى
، وفقدت 58 ألفا من جنودها ، بينما كانت خسارتها مع حلفائها والمتعاقدين فى حرب
أفغانستان نحو سبعة آلاف ، مقابل مقتل 300 ألف أفغانى ، وكانت النهايات متشابهة
وربما متطابقة ، فمشاهد هروب الأمريكيين من "سايجون" أواخر أبريل 1975 ،
تكاد تكون هى ذاتها مشاهد الفرار من مطار "كابول" أخيرا ، مع فارق أنها
منقولة هذه المرة صوتا وصورة ، وبالدقيقة والثانية ، فقد أرسلت أمريكا آلافا من
جنودها إلى الجزء العسكرى من مطار كابول ، واضطرت للاتفاق مع حركة "طالبان"
على تسهيل مهمة الهروب ، وتريد إجلاء نحو ثمانين ألفا من عناصرها وعملائها الأفغان
، ويعتبر رئيس أمريكا بايدن أن إنجاز مهمة الهروب نصر عظيم فى ذاته ، ولا يجد حرجا
فى الاستعانة بحركة "طالبان" لقمع وتفريق جحافل الأفغان المندفعين
الراغبين فى الهروب على الطائرات الأمريكية ، الذين تعلقوا بعجلات الطائرات
وأبوابها ، وأقلعت الطائرات تاركة الضحايا يسقطون أرضا ، يموت منهم من يموت ،
والباقون تتكفل بهم رصاصات الأمريكيين ، ورصاصات كتائب "طالبان" ، التى
لا تزيد أعدادها على السبعين ألفا ، يشدون جلابيبهم وعمائمهم ولحاهم ومواسير"البازوكا"
، ويغرقون فى فيض سلاح أمريكى متطور ترك لهم ، ذهب بعضه تلقائيا كغنائم إلى دول
جوار ، كما جرى فى هروب عشرات المروحيات بطياريها إلى "طاجيكستان" ،
بينما تلتزم "طالبان" بمبدأ عدم المس بأى أمريكى مدنيا كان أو عسكريا ،
فى أغرب سلوك يمكن تصور صدوره عن حركة تعتبر نفسها قائدة تحرير وطنى ضد المحتلين
الغزاة .
وربما لا يكون من عزاء للمتيمين بمحبة "ماما"
أمريكا ، وللمؤمنين لا يزالون بقدرة أمريكا المطلقة شبه الإلهية ، وبقداسة تقارير
المخابرات المركزية الأمريكية ، التى حلت عندهم بديلا لآيات الذكر الحكيم ، وقد
تطايرت تقارير المخابرات إياها كأوراق "دشت" فى الهواء ، وثبت زيفها
وضلالها وإفلاسها المهين ، فقد توقعت سقوط كابول فى يد "طالبان" بعد ستة
شهور من الانسحاب الأمريكى الذى كان مقررا إتمامه فى أوائل سبتمبر 2021 ، ثم عدلت
التوقعات إلى نصف المدة ، ثم إلى ثلاثين يوما لاغير ، بينما اجتاحت "طالبان"
عواصم الولايات الأفغانية فى أيام ، ودخلت "كابول" فى دقائق ، وفى
عمليات تسليم وتسلم آلية تماما ، وكأن القصة كلها لا تعدو أن تكون سوى "لعبة
كومبيوتر" ، بينما وجدت واشنطن نفسها غارقة فى الفضيحة ، فبايدن الذى وعد بما
أسماه عودة أمريكية قوية لقيادة العالم ، يجد نفسه فى حالة انكماش كفأر مذعور ،
وتسليم بائس بضياع الصورة الذهنية المصنوعة عن قوة أمريكا ، ومطاردا حتى من ترامب
الذى طالب باستقالة بايدن ، المهتم بإجلاء كلاب الأمريكيين البوليسية ، وتفضيلها
على عملائه الأفغان الخائفين من إعدامات "طالبان" المنتظرة ، فقد ابتلع
بايدن وعود أمريكا الأولى عن بناء أفغانستان جديدة ، وعن نشر الحرية والديمقراطية
وحقوق الإنسان ، وإلى غيرها من أوهام تعود على بيعها "الكاوبوى" الأمريكى
زمن سطوته ، التى جارت عليها تحولات العالم ، وأفقدت أمريكا امتيازها الأعظم ،
وحولتها إلى مجرد "قوة عظمى" بين متعددين ، تكاد خطوات بعضهم تسبق
واشنطن المثقلة بخيباتها ، فلم يعد للخطط الأمريكية عالميا من قيمة كبيرة ولا
مفعول أكيد ، فقد قيل من زمن ، أن أمريكا ذهبت إلى أفغانستان بخطة كونية ، هدفها
حصار صعود الصين وعودة روسيا واحتواء الهند ، ولن تعدم من يقول لك اليوم بعد عشرين
سنة إخفاقا ، أن أمريكا تنسحب اليوم ، وتسلم أمر أفغانستان إلى "طالبان"
القادمة من عوالم القرون الوسطى ، وفى سياق خطة أمريكية بديلة ، تهدف إلى تحويل
أفغانستان إلى جنة لجماعات الإرهاب الدينى ، تهدد الصين المنافسة لأمريكا ، والتى
تتشارك بالحدود مع أفغانستان ، وتتخوف من دعم "طالبان" المحتمل لحركات "الإيجور"
المسلمين غرب الصين ، إضافة لدعم حركات راديكالية مسلحة عند جيران الشمال الأفغانى
، وبالذات فى جمهوريات "طاجيكستان" و"أوزبكستان" و"تركمانستان"
، وكلها من جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة السوفيتية سابقا ، والحليفة أمنيا لا
تزال لروسيا ، مع ضمان زعزعة الأوضاع فى "باكستان" الحليفة تجاريا
واقتصاديا للصين ، ولها حدود بطول 2200 كيلومترا مع أفغانستان ، فضلا عن تشجيع
إيواء الحركات السنية المتطرفة المناوئة لإيران الشيعية المجاورة غربا لأفغانستان
، وكلها مع غيرها من أوهام الخطط الأمريكية المكشوفة العبيطة ، فقد حرصت إيران ـ
مثلا ـ على إقامة خطوط اتصال مبكرة مع "طالبان" ، ولطهران موقع قدم كبيرة
داخل أفغانستان ، وأقلية "الهازارا" الشيعية الأفغانية ، تصل نسبتها إلى
20% من مجموع السكان الأفغان ، وقد تكون من شركاء "طالبان" فى الحكم
الجديد ، ناهيك عن مقدرة باكستان على ترويض "طالبان" ، وقد كانت الأخيرة
فى الأصل صنيعة المخابرات الباكستانية ، وكانت باكستان هى الدولة الأولى المعترفة
بحكم "طالبان" القديم بين عامى 1996 و 2001 ، ولم يكن معها فى الاعتراف
الدبلوماسى سوى دولتين خليجيتين ، بينما يبدو الأمر مختلفا هذه المرة ، فقد امتنعت
سفارتا روسيا والصين عن الإخلاء ، وأقامتا تواصلا احتوائيا مبكرا مع حكم "طالبان"
الجديد بزعامة الملا "هبة الله زاده" ، وهو ما يعنى سعيا لاتقاء شرور قد
تأتى من الفوضى الأفغانية المتوقعة ، وصولا لإحتواء الصين لموقع أفغانستان
الجغرافى المهم فى وسط آسيا ، وكسبه لصالح خطة الصين الكبرى المعروفة باسم "طريق
الحرير" ، وربما احتكار استخراج النحاس والمعادن النادرة فى أفغانستان
كالليثيوم والبريليوم وغيره ، مقابل معونات صينية سخية إلى بلد منكوب بين الأشد
فقرا فى العالم ، والمحصلة ببساطة ، أن أفغانستان بلد الأفيون وتمزق القبائل
والأعراق ووعورة الجبال والحروب التى لا تنتهى ، قد تتحول للمفارقة إلى رصيد مضاف
لهيمنة الصين وروسيا وذوى القربى ، بينما لا تخرج أمريكا والغرب من أفغانستان حتى
بخفى "حنين" .
وقد لا يكون من أمل ظاهر فى سلوك مختلف من
أغلب حكام العرب ، ولا فى صوغ سياسة جديدة تجاه أفغانستان ، البعيدة عنا جغرافيا ،
القريبة سياسيا ودينيا وتاريخيا ، ولسبب لا يخفى ، هو خضوع الحكام غالبا للمشيئة
والسياسة الأمريكية ، وإدمان الركض بمعية واشنطن ، حيثما حلت أو انسحبت ، وفى
الذاكرة القريبة مآسى لا تحصى ، وذهاب منقاد وراء أمريكا بدعوى محاربة الروس فى
أفغانستان ، ورفع شعار الجهاد ضد "الكفرة" الروس منذ أواخر السبعينيات ،
وهو ما ارتد علينا وبالا وتخلفا وإرهابا ، ومن دون أن ينقذ الشعب الأفغانى ضحية
الأطراف كلها ، وتلك قصة أخرى ، قد نعود لتناولها فى مقال مقبل بإذن الله .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق