قبل نحو سنتين ، قلت فى حوار تليفزيونى ، أن دولة أثيوبيا الفيدرالية قد تتجه إلى تفكيك شامل ، وأنها قد تلقى نهاية مشابهة لمصير يوغسلافيا (السابقة) ، وقد تفككت الأخيرة إلى ستة كيانات منفصلة إضافة إلى حكم ذاتى لإقليم "كوسوفو" ، وهو ما قد تنتهى لمثله أثيوبيا فى المدى المنظور ، خصوصا مع سياسة "آبى أحمد" ، الذى تولى رئاسة وزراء أثيوبيا أواسط 2018 ، ورغبته الجزافية فى لى ذراع الحقائق ، وفرض ما يتصوره "قومية أثيوبية" واحدة ، وطمس التنوع اللانهائى فى بلد مكون من نحو ثمانين عرقية وقومية ، تسكن كل منها فى جغرافيا تخصها بغير اندماج غالب .
وربما لم يعد
أحد عاقل يجادل كثيرا فى المصير المنتظر لأثيوبيا ، وما ينطوى عليه الوضع من هشاشة
، تزايدت أماراتها المتفجرة مع حرب "التيجراى" المتصلة ، التى أغرت
بداياتها فى نوفمبر 2020 بنصر موهوم لآبى ، الذى أعطوه جائزة "نوبل" للسلام
فى تصرف مثير للريب ، ثم أثبت بعدها بجلاء ، أن لاعلاقة له من أصله بمعنى السلام ،
وأنه رجل خلق لخوض الحروب الخاسرة بالذات ، فلم تكد تمضى بضعة شهور على انتصاره
السريع فى حرب أهلية ، وبمعونة عسكرية ظاهرة من "آسياسى أفورقى" حاكم "إريتريا"
المجاورة ، مقابل تنازل أحمد عن منطقة "بادمى" الحدودية لصالح إريتريا ،
التى كانت قد انفصلت بدورها عن الركام الأثيوبى قبل ثلاثين سنة مضت ، لكن آبى أحمد
لم يفرح كثيرا بسقوط "ميكيلى" عاصمة التيجراى ، فقد غاب قادة وجنود "الجبهة
الشعبية لتحرير تيجراى" عن الأنظار ، وأعادوا تنظيم قواتهم ، ثم عادوا بعد
شهور ، ووجهوا الضربة المدوية الخاطفة لآبى أحمد وأفورقى ، واستعادوا عاصمتهم ،
وراكموا انتصاراتهم يوما بعد يوم ، وتخطوا حدود إقليمهم التيجراوى ، ووسعوا نطاق
عملياتهم إلى إقليمى "عفار" و"الأمهرة" ، وقطعوا طرق وسكك
حديد التجارة والنقل إلى ميناء دولة "جيبوتى" ، وهو المنفذ البحرى الأهم
لأثيوبيا التى صارت دولة حبيسة بعد انفصال إريتريا ، ثم تقدم قادة التيجراى لما هو
أخطر ، وسقطت فى أيديهم مدينة بعد مدينة داخل إقليم "الأمهرة" ، وهو
الخزان الأكبر لتزويد جيش آبى أحمد "الفيدرالى" بما تبقى من رمق حياة ،
ومع توالى الهزائم المذلة ، سرى التفكك داخل إقليم "الأمهرة" نفسه ،
وزاد التململ "الأمهرى" مع تفشى المجاعات والمجازر الجماعية ، خصوصا بعد
استيلاء قوات التيجراى وبغير قتال على مدينة "لاليبيلا" ، وهى قدس أقداس
المسيحية الأثيوبية ، وفيها أكثر من عشرة كنائس تاريخية ، جرى نحتها داخل الصخور
بتجويفات بديعة ، يبلغ عمرها 900 سنة ، وهى مزار ومحج للمسيحية الأرثوذكسية
الأثيوبية ، التى هى القاسم المشترك الأعظم بين قوميتى "الأمهرة" و"التيجراى"
.
وربما تكون
العودة قليلا للتاريخ مفيدة فى فهم ما يجرى ، فلم تكن هناك دولة باسم "أثيوبيا"
فى الزمان القديم ، بل كيان محدود الجغرافيا باسم "مملكة أكسوم" ، يعود
وجودها إلى سنة 980 قبل الميلاد ، بينما لفظة "أثيوبى" أو "أثيوبيا"
كانت لصيقة بلون بشرة السكان ، وظهرت فى تراث الأغريق الأدبى القديم من نوع "الإلياذة"
و"الأوديسا" ، وفى إشارة لغوية إلى بشر من ذوى الوجوه الداكنة أو المحروقة ، وفى وقت متأخر ، بدأ ظهور
تكوينات امبراطورية أكبر بدءا من عام 1137 الميلادى ، وإلى أن ظهرت أثيوبيا مع
الامبراطور "مينليك الثانى" أواخر القرن التاسع عشر فى صورة أكثر اتساعا
، لم تتعرض إلى استعمار واحتلال أوروبى مزمن كغيرها من الدول الأفريقية ، اللهم
إلا لفترة خمس سنوات بين عامى 1936 و 1941
، احتلها الإيطاليون وقتها فى معارك شرق أفريقيا ، وجلوا عنها مع هزائمهم فى "الحرب
العالمية الثانية" ، وعقدت بريطانيا التى كانت فى صف المنتصرين اتفاقا مع
الأثيوبيين ، قاد إلى عهد "هيلا سلاسى" ، الذى بدأ عام 1944 ، واستمر
الرجل امبراطورا لأثيوبيا حتى خلعه وقتله عام 1974 ، مع توسع لأثيوبيا فى مناطق
وضم عرقيات حولها ، وهو ما ورثه انقلاب "منجستو هيلا ميريام" الشيوعى ،
الذى حكم بأنهار من الدم ، وبمساعدات سخية من الاتحاد السوفيتى السابق ، وإلى أن
ضعفت قبضته مع بوادر تفكك إمبراطورية
موسكو الدولية ، تماما كما حدث فى أفغانستان واليمن الجنوبى السابق وصومال
سياد برى ، إضافة إلى موجات الجفاف والمجاعات ، التى ضربت أثيوبيا فى ثمانينيات
القرن العشرين ، وكانت النتيجة انهيارا متسارعا للحكم الشيوعى ، مع هروب "منجستو"
إلى زيمبابوى" ، وبدء صفحة مختلفة من تاريخ أثيوبيا ، انتقل فيها الحكم من
عرقية "الأمهرة" لأول مرة إلى عرقية "التيجراى" ، التى قادت
حربا أهلية لإسقاط منجستو ، ومعه حكم "الأمهرة" ، وإن كانت لم تستطع منع
انفصال "أريتريا" ، وبرز اسم التيجراوى "ميليس زيناوى" قائدا
للعهد الجديد ، ووعد بفيدرالية جديدة ، تأخذ فيها كل الأعراق حقوقها ، وجرى تقسيم
أثيوبيا إلى تسعة أقاليم ، وإضافة إقليم خاص للعاصمة "أديس أبابا" ،
التى بدت مقتطعة جغرافيا من إقليم "الأورومو" ، وهو أكبر الأقاليم سكانا
، وفيه ما يزيد على ثلث إجمالى سكان أثيوبيا ، وأغلب أهله من المسلمين ، فى حين
يتركز المسيحيون فى إقليمى "الأمهرة" و"التيجراى" ، وعدد
سكانهما معا يكاد يساوى عدد أبناء قومية "الأورمو" ، الذين شكلوا صداعا
مزمنا لحكم "التيجراى" ، زادت حدته إلى تفاقم حروب عصابات أهلية ، كانت
سببا فى تصدع سيطرة التيجراى الذين حكموا لمدة 27 سنة ، وخلف رجلهم "هيلى
ميريام ديسالين" حكم الزعيم زيناوى ، الذى توفى بمرض غامض عن عمر 57 سنة عام 2012
، ومن دون أن تشهد البلاد بعده استقرارا ، وبما دفع ما كان يسمى "الجبهة
الديمقراطية الثورية" الحاكمة إلى اختيار آبى أحمد رئيسا للوزراء ، فهو من أب
يعود نسبه لقومية الأورومو ، ومن أم من قومية "الأمهرة" ، ثم أنه متزوج
من أمهرية مسيحية أرثوذكسية ، فيما اتجه هو إلى المسيحية البروتستانية ، وانضم إلى
"الكنيسة الخمسينية" الأمريكية ، وبدا تكوينه الدينى مغريا بتقبل عند
دوائر الغرب الأمريكى والأوروبى ، ثم بدا تكوينه المختلط عرقيا كأنه عنوان مصالحة
أثيوبية ، لكن جنون العظمة الذى أصابه بعد نيل "جائزة نوبل" ، أغراه
بلعب دور الامبراطور الموعود ، وفض عنه تعاطف "الأورومو" و أغلب حركاتهم
السياسية والمسلحة ، وقذف به إلى حضن "الأمهرة" الأحباش ، وقد رغبوا معه
فى استعادة ملكهم الضائع ، وشجعوه على إنهاء سيرة جبهة الأعراق ، وتحويلها إلى حزب
موحد باسم "الازدهار الأثيوبى" ، وافتعال قومية أثيوبية جامعة ، من وراء
تصدير أوهام عن "سد النهضة" بالذات ، وقدرته على خلق أثيوبيا ناهضة ،
بدلا من أثيوبيا الفقيرة الغاطسة بنصف سكانها فى الظلام الدامس ، لكن ما جرى تحول
بسرعة إلى قصة غرام وانتقام دموى ، أشعلت النار تحت قدميه وفى عرشه المهتز ،
وتوالت حروب الأعراق المقهورة ، من قلب إقليم "الأورمو" الأكبر، وإلى
أقاليم "عفار" و"الصومال" و"هرارى" وغيرها ، وأغلب
سكانها من المسلمين المستضعفين ، إضافة إلى ما جرى ويجرى انطلاقا من إقليم "تيجراى"
، ورغبة زعمائه فى طرد "آبى أحمد" واستعادة الحكم ، أو الانفصال عن
أثيوبيا كلها ، بعد أخذ ما تيسر منها عسكريا ، وهو ما دفع آبى أحمد أخيرا إلى
تعبئة أخيرة شاملة ، يلم فيها شتات جيشه المهلهل ، ويجند كل من بلغ سن الرشد من
سكان كل الأقاليم التى تبقت معه ، وبهدف كسر شوكة التيجراى ، ومن دون أمل فى فوز
عسكرى أكيد هذه المرة ، يريحه من غزوات التيجراى ، ومن الذى جرى ويجرى فى إقليم "بنى
شنقول" ، وهو إقليم عربى سودانى مسلم بأغلب سكانه ، اقتطعه البريطانيون
المحتلون سابقا ، ومنحوه لامبراطور أثيوبيا مينليك الثانى فى اتفاقية 1902 ، مقابل
امتناع أثيوبيا عن إقامة سدود تحجز المياه عند أعالى النيل الأزرق ، وهو ما أطاحت
به أثيوبيا المعاصرة ، من ميليس زيناوى إلى آبى أحمد ، وبنت "سد النهضة"
على أراضى "بنى شنقول" ، التى ينتفض أهلها اليوم لتحريرها من الاحتلال
الأثيوبى المتقادم ، وتحقق حركاتهم المسلحة انتصارات ملموسة ، لن يكون آخرها
تحريرهم لمدينة "كماشى" .
والمحصلة ، أن
عملية تحطيم أثيوبيا جارية ، وبأسباب وانفجارات داخلية أساسا ، قد تلعب دورا لصالح
السودان ومصر المهددتين بعواقب سد النهضة ، وقد لا تبدى الحكومة المصرية اهتماما
بالفوضى الأثيوبية الداخلية ، ولا تدرجها رسميا فى عداد وسائل "الضربة
المحتومة" المطلوبة لحفظ حق مصر التاريخى فى مياه النيل ، وإن كان المفهوم
ببداهة المصالح ، أن تقويض الخطر الأثيوبى من منابعه ، وفى أصل وجوده ، وبأبعد من
التركيز على ضرب سد الكوارث وحده ، هو أفضل وأقصر سبيل لكسب قضية النيل على المدى
الاستراتيجى الأطول .
0 comments:
إرسال تعليق