لم يكن ما جرى ويجرى فى أفغانستان مفاجئا لأحد ، اللهم إلا للغافلين والذاهلين ، الذين ينتظرون تدفق الأخبار الساخنة على الشاشات ، فقبل نحو ستة شهور ، وبالضبط فى صباح السبت 8 مايو 2021 ، نشرت فى نفس هذا المكان مقالا بعنوان (وجعنا الأفغانى) ، قلت فيه بالنص " أن نصف أراضى أفغانستان تحت سيطرة حركة طالبان ، التى تتأهب للزحف إلى المدن الكبرى مع انسحاب الأمريكيين ، واقتلاع الحكومة الفاسدة الهشة الموالية للأمريكيين" ، وختمت المقال وقتها بالنص أنه "مع توقع عودة الحروب الدينية إياها فى أفغانستان ، وعلو كعب حركة طالبان من جديد ، وفهمها القبلى البدائى الصحراوى لعقيدة الإسلام ، وإتاحتها لبيئة تفكير جاذبة لجماعات الإرهاب الوافدة ، فلا نستبعد أن يعود وجعنا الأفغانى للنزف من جديد ، وأن يتجدد إيقاع الحملات الأفغانية ، وأن تتلقى الدعم القديم ذاته من المخابرات الأمريكية ، وبهدف حرق أفغانستان ذاتيا ، حتى لا تستفيد الصين المنافسة بامتيازاتها الجغرافية ، وجعل أفغانستان مملكة ذهبية لجماعات التطرف المشوه للإسلام القاتل لمستقبل المسلمين" .
وكانت الإشارة فى صلب المقال ظاهرة إلى "جماعات
إرهاب وتخلف همجى ، تلقت دروس القتل وفنونه فى جبال أفغانستان ، ونشرت الدم
والفوضى فى كثير من الأقطار العربية ، ولم تفكر أبدا فى الذهاب لقتال مع كيان
الاحتلال الإسرائيلى ، وهو العدو الأقرب إلينا من حبل الوريد ، بل كانت دائما عونا
لإسرائيل بالقصد أو بدونه ، وقتلت من العرب والمسلمين أضعاف أضعاف ما قتلت إسرائيل
، ولعبت أدوارا خفية فظاهرة فى تدمير عدد من الأقطار العربية ، وبدعوى طلب (خلافة)
موهومة ، لاتعدو كونها سبيا وخرافة وجهلا وقطعا للرؤوس ، وقطعانا تتلاعب بها أجهزة
مخابرات إقليمية ودولية ، تلوث سيرة الثورات العربية المعاصرة ، وتحولها إلى محارق
وقبور وحروب دمار شامل ، ونشر للتخلف الطائفى وتزوير للإسلام" ، إلى هنا
انتهى الاقتباس الطويل المرير القديم الجديد ، ومن دون أن ينسى أحد دور نظم حكم
عربية فى صناعة الكارثة ، التى بدأت ملامحها فى التكاثر من أواخر سبعينيات القرن
العشرين ، كانت أفغانستان وقتها توالى دورات جحيمها ، وتواجه غزو للسوفييت دعما
لحكومة الحزب الشيوعى فى "كابول" ، وكانت فصائل الشيوعيين الصينية
والسوفيتية تتقاتل فيما بينها ، ودخل "الجيش الرابع" الروسى لنصرة
الموالين لموسكو ، ووجدتها واشنطن فرصة لإلحاق هزيمة ماحقة بالاتحاد السوفيتى ،
تشبه هزيمة أمريكا قبلها فى فيتنام على يد الثوار الشيوعيين ، ولم يكن مستساغا
لأمريكا أن تتدخل بوجهها الأصلى القبيح المنفر للشعوب ، واستعارت قناعا إسلاميا "جهاديا"
، جندت له أتباعها فى المنطقة العربية بالذات ، بدءا من ممالك الخليج ، التى قدمت
غطاء دينيا سلفيا وهابيا ، اعترف الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودى فيما بعد
، أنه كان مأمورا به من أمريكا والغرب ، إضافة لمليارات الدولارات من فوائض
العوائد البترولية ، ولعب نظام الرئيس السادات وقتها دوره المرسوم أمريكيا ، فقد
كانت أجهزة الإعلام المصرية الرسمية تصف
السادات وقتها بأنه "الرئيس المؤمن" ، وزاد الإلحاح على الوصف مع انقلاب
السادات على خط جمال عبد الناصر بعد نهاية حرب أكتوبر 1973 ، واستعانة السادات
بجماعات اليمين الدينى ، من الإخوان وغير الإخوان ، المدعومين بأموال البترول
الخليجى ، بهدف حصار التيار الناصرى ، إضافة لدعم أجهزة أمن لسادات السخى لما كان
يسمى بالجماعات الإسلامية ، وإلهاء الناس باحتراب دينى وتطاحن طائفى ، يكون تمويها
مناسبا لتقدم إلى الصلح مع العدو الإسرائيلى ، وعقد ما يسمى "معاهدة السلام"
، ووجد السادات فى قصة "الجهاد الأفغانى" فرصته للخروج من حصار بالداخل
، وتلقف أوامر ورغبات المخابرات الأمريكية بحماس ، وفتح منابر الإعلام والمساجد
لحشد وتعبئة الشباب "الإسلامى" ، وتسفير قوافلهم إلى أفغانستان ،
واستضاف وفودا من قادة ما يسمى الجهاد الأفغانى فى قريته "ميت أبو الكوم"
، وتعهد لهم علنا بفتح مخازن السلاح المصرى لصالحهم ، وإلى غيرها من وقائع مسجلة
بالصوت والصورة ومذاعة على العالمين ، ولم يعش السادات حتى يرى بأم عينيه نتائج ما
صنعت يداه ، فقد اغتالته الجماعات (الإسلامية) نفسها على منصة العرض العسكرى فى 6
أكتوبر 1981 ، ومن دون أن يشفع له قيامه بما هو أقرب لدور "المؤسس الثانى"
لجماعة الإخوان ، الذى لعبه بإخلاص دعما لمصالح حكمه فيما تصور ، ومات السادات ،
بينما كانت الظاهرة (الجهادية) إياها تنتفخ فى أفغانستان ، التى انتهت من الحرب ضد
الغزو السوفيتى عام 1989 ، لتبدأ بعدها الحرب الضارية بين الجماعات "الإسلامية
" الأفغانية ، وعلى مدى سبع سنوات ، بدا مع نهاياتها ، أن السلطة فى "كابول"
آلت إلى ما كان يسمى "الجمعية الإسلامية" بزعامة برهان الدين ربانى ،
وإن نازعته على السلطة جماعة الإخوان الأفغانية ، التى حملت وتحمل لليوم اسم "الحزب
الإسلامى" بزعامة قلب الدين حكمتيار ، وإلى أن اقتلعتهما معا "حركة
طالبان" الشابة المدعومة من المخابرات الباكستانية ، واحتكرت السلطة لنفسها
بعد حرب العامين (من 1994 إلى 1996) ، وأقامت إمارتها "الإسلامية" لمدة
خمس سنوات بعدها حتى الاحتلال الأمريكى ، ومن دون إنجاز يذكر ، اللهم إلا هدم
تمثالين لبوذا فى منطقة "باميان" ، وجعل أفغانستان مأوى آمنا لجماعات
عرفت بالمجاهدين العرب ، الذين أفرخوا عشرات من جماعات الإرهاب ، حمل أغلبها
إعلاميا صفة "العائدون من أفغانستان" ، راحت تعيث فسادا وقتلا وتخريبا
فى بلاد المسلمين والعرب ، ومن دون توجيه طلقة رصاص واحدة لكيان الاحتلال
الإسرائيلى .
والخطر نفسه قد يتجدد الآن ، ومع حلول مواسم
العائدين إلى أفغانستان هذه المرة ، وبصرف النظر عن قسم مغلظ يردده قادة "طالبان"
الجدد ، يعدون فيه بعدم إيواء جماعات إرهاب ، وبانتظار الأفعال بعد الأقوال ، فلا
يصح لأحد أن يخلط بين شيئين متمايزين ، الأول هو "الإرهاب" ، الذى لايصح
التسامح فيه ، ولا إنكار أدوار النظم العربية نفسها فى صناعة وتوليد مآسيه ، قبل
ظهور طالبان وبعده ، والشئ الآخر الذى لا يصح الجدال فيه ، هو حق الشعوب المطلق فى
مقاومة الاحتلال وهزيمته ، ومن حق الشعب الأفغانى طبعا ، أن يفخر بهزيمة احتلال
أمريكى اتصل لعشرين سنة ، وقد كانت أفغانستان على الدوام مقبرة للإمبراطوريات
الغازية ، من الاسكندر الأكبر إلى الإمبراطورية البريطانية فالسوفيتية حتى
الاحتلال الأمريكى ، ولم تكن أفغانستان ولا "طالبان" هى أول من هزم
الأمريكيين ، ولا هم "المجاهدون" الذين حظوا وحدهم اختصاصا برعاية
السماء ، فهذه تفسيرات اعتباطية مزاجية ، لا تفسر هزيمة الأمريكيين الأفدح على يد
الثوار الشيوعيين (الملحدين) فى كوريا وفيتنام ، وقد قتل ثوار فيتنام (الشيوعيون) 58
ألفا من القوات الأمريكية ، بينما لم تقتل "طالبان" من الأمريكيين فى
عشرين سنة سوى نحو ألفين ونصف الألف ، ويزيد الرقم إلى سبعة آلاف تقريبا ، إذا
أضفنا قتلى دول حلف "الناتو" والمتعاقدين المتعاونين ، هذا مع فارق
ضراوة وثقل الاحتلال ، وقد كان بمئات الآلاف من الجنود فى فيتنام ، بينما ظل
يتناقص فى أفغانستان إلى بضعة آلاف لاغير ، وفى كل الأحوال ، كان هناك الخونة
المحليون ، وكان هناك المقاومون ، فهذه سنة الله فى خلقه المتدافعين أبدا ، ولا
يصح لأحد أن ينكر على حركة طالبان دورها شبه الوحيد فى مقاومة الاحتلال الأمريكى
الأخير ، وقد دفعت وحدها نحو 51 ألف شهيد ، ومن منطلقات قبلية قومية دينية معا ، ميزت
التاريخ المحارب والجغرافيا الأفغانية المعقدة ، التى لا تسمح لاحتلال بدوام آمن ،
ولا حتى لسلطة محلية مركزية باستقرار طويل ، فاكثر أراضى أفغانستان تضاريس جبلية
شديدة الوعورة ، وسلسلة جبال "هندوكوش" تشق أراضى أفغانستان عرضيا بطول
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق