ليس فى العنوان خطأ ، سوى أن دونالد ترامب بشخصه ليس فى البيت الأبيض حاليا ، وإن كان يستعد للعودة فى 2024 مع انتخابات الرئاسة المقبلة ، ربما بعد هزيمة واردة جدا للحزب الديمقراطى فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس بمجلسيه أواخر 2022 ، وإلى أن تحين المواعيد القريبة ، فسوف يؤدى جو بايدن الرئيس الأمريكى الحالى دور سلفه ، وبالذات فى السياسة الخارجية الأمريكية .
ليس السبب بالطبع ، أن بايدن يحب ترامب ، وهو الذى أخذ الرئاسة بأصوات
الاحتجاج على فظاظة الرئيس الأمريكى السابق ، وليس بفضل أصوات تأييد خالص لشخصه
الباهت الذابل النائم أغلب الوقت ، لكن بايدن حين دخل البيت الأبيض ، وجد نفسه
أسيرا لسياسة ترامب الخارجية بالذات ، ولشعار "أمريكا أولا" ، الذى ورثه
ترامب بدوره عن باراك أوباما أول رئيس ملون لأمريكا ، الذى كان اختياره بليغا فى
دلالاته ، وبعضها كان تعبيرا عن ميل أمريكا للتواضع ، والانسحاب والتقوقع على
نفسها ، ولملمة جراحها ، والتخفف من أثقال العالم الذى سعت لحكمه عنوة ، والانفراد
بتقرير مصائره عبر حروب عدوانية قتلت ثمانية ملايين إنسان ، ثم انتهت فى الأخير
إلى الحائط المسدود ، ليس لأن أمريكا صارت أضعف سلاحا ولا أقل تكنولوجيا ، فهى
تنفق على السلاح وتطويره وتكديسه نصف ما ينفقه العالم بأجمعه ، وهى تاجر السلاح
الأول لا تزال ، لكن السلاح وحده لا يديم العظمة ، ولا الاستئثار بعرش العالم ،
ولا الادعاء بتفوق قيم تريد فرضها ، فقد آل المثال الأمريكى إلى بوار متزايد ، ولم
تعد أمريكا تلك القوة الفريدة المرهوبة المرغوبة ، كما أوحت سنوات قليلة تلت
انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين ، وكان ذلك أشبه بخداع بصر
خاطف فى سيرة التاريخ ، تجلت بعده حقائق العالم الجديد ناطقة ، فقد عادت روسيا
الرأسمالية هذه المرة إلى حلبة السباق والتفوق فى السلاح ، وتحولت من "قوة
إقليمية" كما كان يصفها أوباما على سبيل التحقير ، وتحولت إلى قوة تأثير
عالمية ، بدءا بنزاعات الشرق الأوسط وسوريا بالذات منذ سبتمبر 2015 ، ولم تكن عودة
روسيا إلى دور عالمى بحد السلاح ، هى ما يزعزع عرش أمريكا ، بل كان الخطر فى عودة
روسيا المتواضعة اقتصاديا متحالفة مع الصين ، والأخيرة قوة عالمية متكاملة الأوصاف ، فهى قوة الاقتصاد
والتجارة والتكنولوجيا الزاحفة إلى عرش الدنيا ، تجارة الصين وحدها تمثل 35% من
تجارة العالم ، وهى قوة نووية بالأصل ، تزيد إنفاقها على السلاح بإطراد ، وتنفق
على السلاح وصوامع الصواريخ النووية نحو نصف ما تنفقه أمريكا اليوم ، وبوسعها أن
تنفق أكثر ، وقفزاتها التكنولوجية مرعبة ، وعلى نحو ما بدا فى تفوقها الكاسح
بالتعامل مع جائحة كورونا ، وفى التطوير الطفرى لبرنامجها الفضائى ، وحتى فى صناعة
شمس تضئ الليل بتقنية الانصهار النووى ، وفى التطوير الهائل لقدراتها البحرية
وغيرها ، ودونما خشية من إرهاق مالى يقعدها عن مواصلة السباق لآخره ، فلدى بكين
فوائض مالية أسطورية ، لاتقاس طبعا إلى فقر "الاتحاد السوفيتى" غريم
أمريكا زمن الحرب الباردة القديمة ، فقد كان الاتحاد السوفيتى حتى فى أوج ازدهاره
، لا يحوز سوى نحو أربعين بالمئة من الناتج القومى الأمريكى ، أما الصين ففى كوكب
آخر ، فهى قوة الاقتصاد غير المسبوقة فى خطرها على مدى التاريخ البشرى بإطلاق ،
وتملك بالأرقام المجردة اليوم أكثر من ثلثى الناتج القومى الأمريكى ، وعندها فرصة
تجاوز أمريكا اقتصاديا قبل نهاية العقد الجارى ، بينما اقتصادها اليوم بحساب تعادل
القوى الشرائية للدولار ، يتفوق على إجمالى الاقتصاد الأمريكى بنحو ستة تريليونات
دولار ، والصين هى أكبر مانح ودائن فى الدنيا كلها ، واشترت نصف ديون أمريكا
الخارجية ، بينما الاقتصاد الأمريكى مثقل بديون فلكية خارجية وداخلية مفزعة ،
تجاوزت اليوم مبلغ 27 تريليون دولار ، بينما ناتجه الإجمالى عند حدود 21 تريليون
دولار ، وتتسابق إدارات البيت الأبيض المتوالية على تغطية الإنفاق بتعلية سقف
الديون ، وعلى طريقة "تلبيس الطواقى" .
الخلاصة إذن ، أن وهم الحفاظ على القوة الأمريكية القطبية الوحيدة ، قد فات
أوانه ، وأن أمريكا تنزل بسرعة إلى مكانة "قوة عظمى" لا "القوة
العظمى" بألف ولام التعريف ، أى مجرد قوة عظمى بين متعددين ، يصعب أن تظل
بينهم فى المكانة الأولى ، وقد حاول بايدن إيقاظ الوهم ، وتحدث قبل شهور عن عودة
أمريكا لقيادة العالم ، وإعادة تمتين التحالف مع أوروبا عبر المحيط الأطلنطى ،
والانسحاب من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لمواجهة الصين ، ومواصلة سياسة
العقوبات نفسها ، التى درج عليها أوباما وترامب من قبله ، ولكن بدون جدوى عملية
مؤثرة ، ربما بسبب الحقائق الصلبة الجديدة ، فقد جرب بايدن مواصلة نهج ترامب
بالضغط على ألمانيا ، ودفعها إلى الانسحاب من مشروع خط "نورد ستريم 2" لتوريد
الغاز الروسى ، وصممت ألمانيا ونجحت فى مواصلة المشروع مع الروس ، برغم العقوبات
الأمريكية على شركاتها ، ثم سعى بايدن إلى طمأنة القوى الأوروبية ، وإقامة
كرنفالات وقمم حلف الأطلنطى ومجموعة "السبعة" ، ومحاولة إقناعهم بسلوكه
المختلف أخلاقيا عن فجاجة وسوقية ترامب ، فإذا به يواصل نهج ترامب بالحرف ، وينسحب
من أفغانستان مهرولا ، ومن دون أدنى تشاور مع حلفاء المهمة الأوروبيين ، وهو ما
زعزع ثقة الأوروبيين فى وعود واشنطن ، ثم انزلق بايدن إلى سلوك "ترامبى"
بالكامل ، مع خيانة حليفته فرنسا ، ودفع استراليا سرا إلى إلغاء صفقة الغواصات
الفرنسية المقررة منذ عام 2016 ، وكانت قيمتها تصل إلى 56 مليار دولار ، وإبرام
صفقة أمريكية بديلة مع استراليا ، قد تصل قيمتها إلى ضعف قيمة الصفقة الفرنسية ،
وتزويد استراليا بغواصات تعمل بالوقود النووى ، ومنح بريطانيا الخارجة من الاتحاد
الأوروبى قطعة من الكعكة ، وإقامة قاعدة عسكرية أمريكية فى استراليا ، وهو ما دفع
فرنسا إلى الصراخ ألما مما أسمته "طعنة فى الظهر" ، واستدعاء سفيريها من
"كانبيرا" وواشنطن ، وهو إجراء غير مسبوق منذ ما يزيد على قرنين ، فيما
وصفت فرنسا بريطانيا بأنها "دولة انتهازية" ، وهو ما يعنى ببساطة ،
وبرغم اتصال هاتفى لاحق من بايدن لتهدئة ماكرون وإعادة سفير باريس ، أن التحالف
الغربى يكاد ينشق ، وأن أمريكا التى تتصرف بأنانية جلب المال لخزانتها ، تكاد
تختصر التحالف الغربى فى المحور "الأنجلوساكسونى" ، الذى يضمها تاريخيا
مع بريطانيا واستراليا ونيوزيلندا وكندا ، وهو ما قد يدفع الآخرين إلى البحث عن
مجال حركة مختلف ، ودعم الطموح الفرنسى ـ الألمانى القديم إلى استقلال دفاعى عن
القوة الأمريكية ، والتصرف مع روسيا والصين بما يخدم المصالح الأوروبية قبل غيرها
، خصوصا أن حجم التبادل التجارى للصين مع أوروبا بات الأرجح ، فطبقا لأحدث أرقام
متاحة ، بلغ حجم التبادل التجارى لأوروبا مع الصين 586 مليار دولار فى عام 2020 ،
بينما التبادل التجارى لأمريكا مع أوروبا كان 555 مليار دولار ، مع ملاحظة أن
الفائض بالميزان التجارى كان لصالح بكين ، والعجز التجارى مع أوروبا كان من نصيب
واشنطن ، وقد تتحول الصفقة الأمريكية "أوكوس" مع بريطانيا واستراليا إلى
مجرد عمل تجارى ، فليس متصورا أن تقدم واشنطن على حرب عسكرية فعلية مع الصين فى
المحيط الهادى أو فى بحر الصين الجنوبى ، واستخدام أمريكا لغواصاتها النووية ضد
الصين يعنى نهاية العالم حرفيا ، فلدى روسيا حليفة الصين غواصاتها النووية
المتقدمة ، ولدى الصين أيضا ذات السلاح ، وصواريخ غواصة نووية واحدة كفيلة بمحو
الحياة على وجه الأرض ، وليس بين المتصارعين من يريد دمار نفسه ، فلا يبقى ـ إذن ـ
سوى معنى الردع الضمنى ، وهو متوافر للصين فى محيطها الحيوى ، إضافة لسعى الصين
إلى إقامة عالم موازى ، تلمع فيه نجوم "منظمة شنغهاى" المتوسعة ،
وبنوكها العالمية البديلة ، وخططها لاستبدال الدولار كعملة احتياط دولى ، وكلها معارك تبدو الصين مؤهلة أكثر لها
بزحفها الحثيث عبر "الحزام" و"الطريق" إلى الشرق الأوسط ،
الذى تخليه أمريكا عسكريا ، واحتواء إيران التى لا يبدو بايدن ناجحا فى سعيه
لإعادة الاتفاق النووى معها ، ولا قادرا على التخلص بسهولة من ركام العقوبات التى
تركها له ترامب ، فوق انزياح أوهام ودعاوى السياسة المختلفة لبايدن فى القضية
الفلسطينية ، فبايدن أكثر امتيازا من ترامب فى الولاء العقائدى للصهيونية ، ولا
يتصور عاقل أن تتجدد أى مفاوضات فلسطينية إسرائيلية بضغط من بايدن ، وكل الكلام
المعاد المزاد عن "حل الدولتين" دخان فى الهواء ، وما من تغيير فى القصة
كلها ، إلا بطريق المقاومة الفلسطينية الشعبية والمسلحة ، فهى وحدها الكفيلة بكسر
أنف بايدن "دوبلير" ترامب .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق