فعلها الأبطال الستة وصنعوا فيضان الروح ، وأشعلوا ثورة آلاف الأسرى فى سجون الاحتلال ، إنهم فتية الحلم العابر القاهر لعجزنا وإحباطنا ، الذين اجترحوا معجزة التحرر الذاتى من سجن "جلبوع" ، وحفروا نفق الخروج المبدع من المعتقل الأشد تحصينا فى كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وحفروا بأظافرهم وملاعقهم وبمجرفة مسربة طبقات الحديد والأسمنت المسلح من تحت فتحة الصرف الصحى بالزنزانة ، وعبر شهور طويلة ربما سنوات من العمل الدءوب المضنى ، ومن دون أن تنجح حملات التفتيش والملاحقة اليومية فى رصد تحركهم المتقن التمويه ، ولا نجحت كاميرات المراقبة المتطورة ، التى سجلت لحظة إقلاعهم عبر النفق الممتد لخمسين قدما إلى سهل زراعى مجاور ، ولكن بعد فوات الأوان على العدو ، فقد كانت السجانة المكلفة بالحراسة نائمة ، غلبتها غشية النعاس ، بينما كان الأبطال بكامل ملابسهم وحقائبهم فى فضاء الحرية المنتزعة بالملحمة العبقرية الفريدة ، "فللحرية الحمراء باب / بكل يد مضرجة يدق" ، كما قال أحمد شوقى أمير الشعر العربى قبل قرن ويزيد .
وأيا ما كان مصير الأبطال الستة ، وسواء وصلوا إلى مأمنهم النهائى كما نحب
، أو وشت بهم عيون الخونة والبصاصين ، أو قتلوا فى مطاردات إسرائيل المرعوبة
المحمومة ، أو أعيد اعتقالهم مجددا ، فلا فرق يذكر بالمعنى فى كل الأحوال ، فقد
كتبت أسماء الستة الأسطوريين بحروف من نور سماوى ، ونالوا الخلود فى وجدان
الفلسطينيين والعرب الحقيقيين ، وأثبتوا بعمليتهم الخارقة لكل خيالات البشر فى
الواقع والسينما ، أن لا شئ مستحيل ، وأن الإرادة والإيمان والذكاء والمهارة قادرة
على كل شئ بعون الله ، وأن الفلسطينيين ليسوا جماعة مأساة تنتظر العطف من أحد ، بل
هم "شعب الجبارين" كما كان يصفهم الراحل ياسر عرفات ، فقد هزمت "كتيبة
الأحلام" سجن "جلبوع" الإسرائيلى ، وهزمت معه كل "جلبوع"
حتى لا نقول وصفا آخر بذات الإيقاع ، يدعى وصلا ونسبا بالعرب والعروبة ، بينما
ترتعش أوصاله خوفا من بطش قوة العدو العسكرية ، فيسارع إلى خطب ودها والتطبيع معها
، وجعل خده مداسا وجسر عبور لأحذية الاحتلال ، ويسخر هازئا من مقدسات الأمة
ومحرماتها ، ويصور وهما لنفسه وللآخرين ، أن فلسطين ضاعت إلى الأبد ، وأن محبة "إسرائيل"
وطاعتها فرض عين وكمال سنة ، وتصدمه كما تصدم آلهة إسرائيل بطولة "كتيبة جنين"
، فكل أبطال المعجزة الستة من جوار مدينة "جنين" ومخيمها الأشهر بالضفة
الغربية ، وكلهم كان محكوما عليه أو فى سبيله للسجن مدى الحياة ، وبغير جريرة سوى
أنهم فدائيون مقاتلون ، وتيجان فخار للعرب وللعروبة وللفلسطينيين ، حاربوا عدوهم
كما يقضى ويسلم كل عرف وشرع دينى أو وضعى ، ولم يرتضوا المذلة فى عيش كالموات ،
ونقشوا أسماءهم على جدران قلوبنا ، فلن ينسى فلسطينى ولا محب لفلسطين مؤمن بحقوقها
وحريتها ، لن ينسى المخلصون العاملون الآملون بنهوض الوطن والأمة ، أن يذكروا مع
مواعيد الصلاة أسماء "محمود العارضة" و"محمد العارضة" و"أيهم
كمنجى" و"مناضل أنفيعات" و"يعقوب قادرى" و"زكريا
الزبيدى" ، وكلهم مشاعل وهج تضئ عتمة ظلامنا ، وترد فينا الروح التى كادت
تزهق .
وقد لا نتوقف كثيرا عند عناوين الفصائل ، فخمسة بين الأبطال الستة من فصيل "الجهاد
الإسلامى" ، الذى أسسه الشهيد "فتحى الشقاقى" قبل أربعين سنة ، وقد
تشكل وعيه الأول فى سياق قومى عربى ، وصنع حركته المجاهدة من خارج إطار الحركة "الإسلامية"
التقليدية ، وطابق بين دين الإسلام واسم
فلسطين وقضيتها ، ولم تشغل حركة (الجهاد الإسلامى) نفسها بشئ آخر ، ولا بمساومات
وصراعات خارج نطاق الحق الفلسطينى ، ولم تلوث جهادها بذرة مهادنة ولا التواء سياسى
، ورفضت المشاركة فى أى انتخابات أو سلطات هزلية تحت مظلة الاحتلال ، وجعلت
الشهادة دينها من أجل تحرير فلسطين ، بالدم الذى يهزم السيف ، وبمد اليد لكل مقاوم
أيا ما كان فصيله ، وهو ما بدا ظاهرا على نحو رمزى مكثف فى العملية الجبارة
الأخيرة ، فقد كان رفيق "الجهاديين" الخمسة "فتحاويا" بارزا
هو "زكريا الزبيدى" ، قائد منظمة "كتائب شهداء الأقصى" فى "جنين"
، قبل أن تصدر قرارات "أوسلوية" بحلها وتسريح رجالها ، ومن دون أن تهزم
روح الزبيدى ، الذى واصل طريقه الفدائى على طريقته ، وهو ابن مخيم جنين منجم
البطولة ، الذى ولد يتيم الأب ، وقتلت قوات الاحتلال أمه وشقيقه ، فيما واصل هو
قيادة عمليات مقاومة ، وتصفية العديد من جنود الاحتلال وقطعان المستوطنين ، ودوخ
الإسرائيليين فى عمليات مطاردة لا تتوقف إلا لتعود ، فقد حاولت إسرائيل اغتياله
لأربع مرات ، أفلت منها بذكاء فطرى ، برغم جراح بليغة ، جعلت إحدى ساقيه أقصر من
الأخرى ، وتحول إلى صداع مزمن لجيش الاحتلال وأجهزة مخابراته ، التى وصف أحد
ضباطها الزبيدى بأنه "قط شوارع" ، يفلت دائما ، وعلى طريقة إفلاته مع
رفاقه من سجن "جلبوع" ، وعلى نحو معجز عبقرى ، لم يرد فى خيال ولا طرأ على
بال .
إنها الأنفاق وما أدراك ما الأنفاق ؟ ، وهى ليست بدعة فلسطينية ، ولا
اختراعا لحركة الكفاح الفلسطينى ، فقد كانت فى الحروب دائما خنادق وأنفاق ، وحتى
فى عصر البعثة النبوية المشرفة ، فقد أمر النبى محمد (ص) بحفر خندق حول المدينة
لصد غزوة الأحزاب ، حين اجتمع عرب الجاهلية لإبادة المسلمين فى "يثرب" ،
وأشار الصحابى سلمان الفارسى بحفر خندق مانع لتقدم الغزاة ، وقال لأكرم الخلق "كنا
إذا حوصرنا خندقنا" ، يقصد خبرة الفرس الحربية السابقة على ظهور الإسلام ،
وأخذ النبى (ص) بالنصيحة ، وظفر هو وصحبه بالنجاة ، بعد اشتباكات متقطعة مقصورة
على تبادل رمى النبال والسهام غالبا ، وبكلفة محدودة من القتلى على الجانبين ، ولت
أحزاب القبائل بعدها الدبر من غير تلاحم بالسيوف ولا إثخان فى قتل ، وفى الحروب
التى تلت إلى اليوم ، كانت الخنادق والأنفاق من طبائع القتال كثيرا ، ففى الحروب العالمية
الأولى والثانية ، تواترت معارك الخنادق والأنفاق الألمانية والفرنسية والبريطانية
، وفى حرب تحرير فيتنام قبل خمسين سنة ، وصلت قصة الأنفاق إلى ذروتها ، وصنع
المقاومون الفيتناميون مدن أنفاق كاملة ، كانت أبرز وسائلهم وحيلهم الفذة لهزيمة
جحافل الغزو الأمريكى ، كانوا يختفون فى الأنفاق بالنهار ، ويخرجون لقتل الجنود
الأمريكيين بعمليات مفاجئة ليلا ، صنع الفيتناميون شبكة أنفاق ممتدة حتى تحت قواعد
العدو ، وبأدوات بدائية متاحة للكافة ، صنعوا الرعب الذى يأتى من باطن الأرض ،
وأقاموا مستشفيات ومدارس ومطابخ ومخازن سلاح خفية ، كانت من عجائب الدهر ، وتحول
بعضها اليوم إلى مزارات سياحية شهيرة ، على طريقة مدينة أنفاق "كوتشى" ،
على مرمى 60 كليومترا شمال غرب العاصمة "هوشى منه" ، وورث الفلسطينيون
خبرة الأنفاق وطوروها ، من حروب لبنان إلى ملاحم غزة ، وجعلوا مدينة غزة "غزتان"
، واحدة فوق الأرض ، والأخرى تحتها ، وعلى مساحة قد تصل إلى
وهذه ليست المرة الأولى من نوعها ، فقد فعلها
أسرى فلسطينيون من قبل ، وبطرق مقاربة ، وإن كانت أقل حجما وأثرا ، بل أن البطل "محمود
العارضة" ، الذى تنسب إليه قيادة وتخطيط العملية الأخيرة ، ربما بالاستعانة
بخرائط وتصميمات لسجن "جلبوع" منشورة من سنوات على الإنترنت لفرط غباوة
وصلف العدو، وكان "العارضة" نفسه ، الذى كان محتجزا منذ العام 1996 ، قد
اتهم بالتستر على هروب الشهيد "صالح طحاينة" من "سجن النقب" ،
والعبرة مما جرى ويجرى بليغة ناطقة ، فما من دوام لأسر ولا لاحتلال إلى الأبد ،
ومهما امتلك من سلاح وتكنولوجيا متقدمة ، فالتكنولوجيا ودمارها لا تهزم الحق وأهله
، وبالوسع دوما شق طرق وأنفاق العودة لكسب الحرية ، وبالوسع دائما اكتساب
تكنولوجيا مقابلة مقاومة ، وهذه خبرة كل الأمم والشعوب الحية ، وخبرة الشعب
الفلسطينى نفسه ، الذاهب إلي حقه يقينا ، بحضوره الكثيف الغالب فى دياره المقدسة ،
وبتسلح أجياله الجديدة بالعلم فوق الإصرار والتحدى ، وبنحت المقاومين أنفاقا فى
جدار اليأس ، وبالثقة بنصر الله ، وبوعد الحرية القادم حتما إلى فلسطين ، مهما طال
الزمن واستطال العذاب .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق