هل حركة "طالبان" قابلة للاستنساخ عربيا ؟ ، الإجابة القاطعة فيما نتصور هى "لا" بالتأكيد .
"طالبان" أفغانية لحما ودما وسلوكا
ولسانا ، وتأثيرها أفغانى محصور غالبا فى مناطق قبائل "البشتون" ، وفى
امتدادات مجاورة من باكستان ، حيث مناطق "البشتون" بالذات ، وعدد هؤلاء
ضعف أرقام "البشتون" فى أفغانستان ، ويصل إلى 40 مليونا ، بينما كل عدد
سكان أفغانستان حاليا أقل من الأربعين مليونا ، ونصفهم من "البشتون" متعددى
القبائل ، وهو ما يؤثر مباشرة على طرائق التفكير ، فهناك "طالبان باكستان"
المختلفة عن "طالبان أفغانستان" ، وكانت موردا لكثير من عناصر "داعش
أفغانستان" المعروفة باسم "ولاية خراسان" ، وهى تكفر الجميع بمن
فيهم "طالبان أفغانستان" ، وفى الأخيرة نفسها اتجاهات بحسب المحاور القبلية "البشتونية"
، فشبكة "حقانى" مثلا تختلف عن جماعة "قندهار" ، والأخيرة هى
مورد قادة طالبان الأكثر نفوذا ، من المؤسس "الملا عمر" إلى "الملا
هبة الله زاده" إلى "محمد يعقوب" نجل الملا عمر ، وقد شغل "يعقوب"
منصب وزير الدفاع فى حكومة طالبان ، بينما يشغل "سراج الدين حقانى" منصب
وزير الداخلية ، وكلها محاور خلافات مرشحة للتفاقم ، فوق صراعات الأعراق الأفغانية
المتعددة ، لكن الأصول التاريخية تبدو هى ذاتها بين فرقاء "طالبان" ،
فكلهم دينيا تابعون لما يعرف باسم "المدرسة الديوبندية" ، التى يطلق
عليها أحيانا اسم "الأزهر الهندى" ، وقد أخذت "الديوبندية" صفتها
من مدينة "ديوبند" فى الهند ، وقد نشأت فيها أول مدارسها للتعليم الدينى
فى ستينيات القرن التاسع عشر ، وانتشرت منها إلى غيرها مع تكريس الاحتلال البريطانى للهند ، وتوالدت
بكثرة فى "باكستان" بعد انفصالها عن الهند عام 1947 ، ونظام التعليم فى
هذه المدارس يقوم على مذهب الإمام "أبو حنيفة النعمان" ، وعلى العقيدة "الماتريدية"
نسبة لأبى منصور الماتريدى ، وعرفت هذه المدارس عند بدايتها باسم "المدارس
العربية الإسلامية" ، وكان للتعريف الأصلى دواعيه ، فقد كانت عقيدة المسلمين
بالهند وقتها محاطة بمخاطر ، من هجمات "التشيع الصفوى" الإيرانى ، ومن
تيارات الهندوسية والسيخية ، ومن طرق "الدروشة" الصوفية الموالية
للاحتلال البريطانى ، وإن كان "الديوبنديون" عموما ، ممن لا يمانعون فى
الانتساب لطرق دفاعية صوفية من نوع "النقشبندية" و"القادرية" وغيرها
، لكن طابع الدمج بين الأعراق القبلية وفهم الشريعة ظل غالبا ، خصوصا فى "طالبان
أفغانستان" ، وهم فى الأصل طلبة علم فى المدارس "الديوبندية" ، قبل
أن يندفعوا أو يدفع بهم فى صراع مع جماعات "إسلامية" أخرى ، كانت تتصارع
بدورها على الغنائم والسلطات والجرائم بعد هزيمة الغزو السوفيتى عام 1989 ، فيما
بدت "طالبان" حين ظهرت فعليا عام 1994 ، أكثر براءة وبساطة والتزاما
خلقيا ، وهو ما مكنها من هزيمة الآخرين بسرعة ، وقصم ظهر "الجمعية الإسلامية"
بزعامة برهان الدين ربانى ، وغريمها "الحزب الإسلامى" الذى يمثل جماعة
الإخوان فى أفغانستان .
وإعادة النظر فى الصورة تظهر المعنى ببساطة ، فأفغانية طالبان ، و"ديوبنديتها"
الحنفية ، و"بشتونيتها" القبلية ، كلها عناصر امتياز للحركة فى بيئتها
التاريخية والاجتماعية ، فقد كانت قبائل "البشتون" هى مصدر السعى غالبا
لحكم أفغانستان ، وحتى الذين حكموا فى ظل الاحتلال الأمريكى ، كانوا من "البشتون"
بمحاورهم القبلية المتعددة ، بحكم غلبتهم العرقية ، وبحكم لغتهم "البشتونية"
المتمايزة عن "الفارسية الدرية" المنتشرة بين الأعراق الأخرى ، وبحكم
أدوراهم التاريخية فى صد غزوات الأجانب ، وبما جعل أفغانستان الشهيرة بقسوة تضاريس
الجبال وتضاريس البشر فيها ، تحصل على لقبها المميز كمقبرة للإمبراطوريات ، و"طالبان"
بصرف النظر عن التفاصيل ، كادت تنفرد بالحرب حتى النصر على الاحتلال الأمريكى ، فى
حين بدت الأطراف الأخرى حتى ذات النسب الأفغانى منها ، إما فى خانة التواطؤ
والعمالة للاحتلال ، أو فى خانة التقاعس والتخلى عن المعنى المقاوم ، كما فى حالة "الحزب
الإسلامى" بزعامة قلب الدين حكمتيار ، وبسلوك لم يكن مختلفا كثيرا عن سلوك
حزب الإخوان فى العراق تحت الاحتلال الأمريكى ، والمحصلة ظاهرة ، فقد بدا تأثير
الجماعات "الإسلامية" عربية المنشأ
سلبيا بامتياز فى أفغانستان ، ليس فقط بدلالة سلوك جماعة وحزب الإخوان
الأفغانى ، بل أكثر بدلالة سلوك جماعات ما بعد الإخوان ، من نوع "القاعدة"
عربية الأصول ، وقد كانت سببا فى دمار أفغانستان ، وخليفتها "داعش خراسان"
، التى نشأت كفرع من تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية ، ودولة خلافته الخرافية ،
التى دمرت نصف العراق وثلث سوريا ، وانطوت على أبشع صور الإساءة لمعنى الإسلام
دينا وشريعة ، ومراجع الإخوان والقاعدة وداعش عربية المنشأ كما هو معروف ، وبمزيج
خطر من التشدد "الوهابى" وكتابات "سيد قطب" منظر الإخوان ، أى
أن التأثير العربى المنشأ كان مدمرا لأفغانستان ، وبأسباب بينها أيدلوجيات
الجماعات "الإسلامية" عربية المنشأ ، والكثير منها أقرب لتفسيرات ضيقة
الأفق للمذهب الحنبلى المتشدد أصلا ، ولا مكان فيه لنظر العقل فى النقل ، وحرفيته
مفرطة مانعة للتجديد مغرقة فى اتباع السلف ، وقابلة مع إساءة التفسير للتحريض على
التكفير فالتفجير وقطع الرءوس إلى ما لانهاية ، وبصورة لم تكن واردة طبعا فى حساب
الإمام أحمد بن حنبل نفسه ، فوق أن دمار أفغانستان لم يكن فقط نتيجة لجرائم
الاحتلال ، ولا لغزو البيئة الدينية الأفغانية من جماعات التكفير ذات المنشأ
العربى ، بل أيضا بسبب سلوك نظم حكم عربية خاضعة للهيمنة الأمريكية ، خصوصا نظام
الرئيس السادات فى مصر ، ودور الفوائض المالية فى ممالك الخليج ، وقد لعب الطرفان
أدوارهما بتنسيق مركزى من المخابرات الأمريكية ، ودفعا بعشرات الآلاف من الشباب "الإسلامى"
المصرى والعربى إلى أفغانستان زمن الغزو السوفيتى ، وفى جهاد "أمريكانى"
تماما ، كانت دواعيه ظاهرة فى رغبة واشنطن بالانتقام من موسكو ، التى دعمت
المقاومة الفيتنامية ضد الاحتلال الأمريكى ، وأرادت أمريكا أن ترد الجميل
الحربى بمثله ، ووجدت ضالتها فى دعم ما
يسمى "المجاهدين العرب" ، ودفعهم إلى ساحة الحرب ضد "الكفرة" السوفييت
، وهزم السوفييت كما هزمت أمريكا من بعد ،
لكن بعد تحويل أفغانستان إلى أطلال وأوكار وملاعب تدريب مثلى لجماعات إرهاب عربية
، عادت وقتلت من العرب والمسلمين أضعاف أضعاف من قتلتهم أمريكا و"إسرائيل"
معا .
وإعادة النطر فى الصورة مجددا ، تكشف ببساطة فداحة وإجرام التأثير العربى ،
واستنساخ أبشع صور التخلف العربى فى أفغانستان ، فالأخيرة على نحو ما هى ضحية زمن
التخلف ذى المنشأ العربى حكاما ومحكومين ، بينما لم يكن لأفغانستان القبلية البدائية
ذنب فيما جرى ، وفى مراحل تاريخية سبقت كان الوضع معكوسا ، وكان المعنى "الأفغانى"
مختلفا فى وجداننا ، ففى العام 1955 ، زار الزعيم جمال عبد الناصر أفغانستان ،
وكان استقباله جماهيريا حافلا كما توثقه الصور، وقتها ذهب عبد الناصر فى زيارة
واجبة إلى ضريح "جمال الدين الأفغانى"
بالعاصمة كابول ، وقرأ الفاتحة ترحما على روحه الطاهرة ، على سبيل الامتنان
والعرفان بدور الأفغانى فى تاريخ الحركة الوطنية المصرية والعربية ، كان الأفغانى
رائدا لمدرسة "الجامعة الإسلامية" ، وكان يحمل على تخلف وعجز
الإمبراطورية العثمانية فى وقته ، ويتهمها بمحاولة "تتريك" العرب بدلا
عن فريضة "تعريب" الترك ، وكان يشحذ الهمم لحشد المقاومة ضد زحف
الاستعمار الغربى ، ويؤازر ثورة "أحمد عرابى" طلبا للاستقلال والدستور
والجمهورية ، وكان جل تلاميذ الأفغانى من العرب ، على طريقة "محمد عبده"
فى مصر ، و"عبد الرحمن الكواكبى" من سوريا ، وصولا إلى "عبد الحميد
بن باديس" فى الجزائر ، كان الأفغانى الذى مات غيلة فى "الآستانة" عام
1897 ، يمثل النور الذى جاءنا من جبال أفغانستان البعيدة ، وسعى لاستزادة ودور
مركزى فى عواصم العرب ، وفى القاهرة بالذات ، كان التأثير العربى لغة وحيوية يضئ
القلب الأفغانى ، وعلى عكس ما جرى فى عقود سوداء قريبة ، استشرت فيها أمراض
وجماعات التخلف والتكفير والتفجيرعربيا ، وكفرت جمال الدين الأفغانى نفسه ، تماما
كما كفرت مولانا "جلال الدين الرومى" الأفغانى الأصل .
إنه زمن التخلف العربى الذى رمى بظلاله وشروره على أفغانستان ، وليست حركة "طالبان"
التى لا تبارح بدائيتها حدود أفغانستان المنكوبة ، وتكاد تتهجى حروف و"ألف
باء" الدولة الحديثة فى زماننا ، وتخلط بينها وبين التركيب القبلى العرفى ،
وتتصور أن "البرقع الأفغانى" هو
حجاب النساء الشرعى ، وأن السماح بعمل النساء فى عصرنا تلزمه فتوى الملالى ، وأن
الديمقراطية والانتخابات رجس من عمل الشيطان ، ومثال من هذا النوع الطالبانى شبه
الداعشى ، لن يكون مغريا باستنساخ عند أغلب الجمهور العربى فى هذه اللحظة الفارقة
، التى تخرج فيها جماعات اليمين الدينى بعد إخفاقات مفزعة من مراكز السلطة تباعا ،
وعلى حلقات كان آخرها هزيمة "حزب الإخوان" المدوية فى دولة المغرب .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق