توصل مؤتمر القمة العربية الطارئة بالقاهرة لاتفاق بإنهاء القتال بين الجيش الأردنى وقوات المقاومة الفلسطينية فى الأردن، فى يوم 27 سبتمبر «مثل هذا اليوم» 1970، وكان هذا آخر إنجاز لجمال عبد الناصر فى حياته، ويروى الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل قصة هذا اليوم «27 سبتمبر» فى حياة هذا البطل الاستثنائى، فى مقاله «الأربع وعشرون ساعة الأخيرة فى حياة عبد الناصر-الأهرام-16 أكتوبر 1970»،وجاء فيه:
«كانت هناك جلسة بعد الظهر عاصفة،حضرها الملك حسين لأول مرة، بدأت فى الواحدة بعد الظهر وانتهت فى الثالثة والنصف، وكنت فى قاعة الاجتماع قبل أن يدخل عبدالناصر وكان جوها متوترًا، كان الملك مع بعض ضباطه فى ركن، وياسر عرفات على مقعد فى صدرها يضبط أعصابه بالكاد، والملك فيصل فى مقعده التقليدى فى هذه الاجتماعات، واضعًا يده على خده يفكر، وتحدثت قليلًا مع «عرفات»، وكان على وشك أن ينفجر». انتقل هيكل إلى فيصل وسأله: «ألا تريد جلالتك أن تقوم بعملية نزع سلاح فى هذه القاعة؟». فسأله فيصل عن قصده، فرد بأن الملك حسين والقذافى وعرفات يعلقون مسدسات فى وسطهم والجو مشحون، فرد فيصل: «لا أعرف فى الحقيقة، هل جئنا لنتفاهم أم لنتقاتل؟.
لكنى لا أستطيع أن أنزع سلاح أحد، ربما يستطيع ذلك الرئيس، هو وحده الذى يستطيع». وأشار إلى باب القاعة، وكان الرئيس عبدالناصر يدخل منها، ويتجه نحونا وقال له الملك فيصل: «فخامة الرئيس، لاأريد أن أجلس وسط كل هذه المسدسات».
قال الرئيس ضاحكًا من قلبه: «لاعليك، سوف أجلس أنا وسط هذه المسدسات، وتفضل أنت فاجلس مكانى». انتهت الجلسة فى الثالثة والنصف، ودخل عبد الناصر إلى غرفة نومه فى الساعة الرابعة، وفى الخامسة والنصف جلس مع الرئيس نميرى،ورئيس وزراء تونس باهى الأدغم، وكان معهما مشروع الاتفاق، وقرأه هيكل على مسمعهم،
ثم طلب عبد الناصر انضمام عرفات، ويكشف هيكل: «جاء عرفات، وكان منفعلًا»..قال: «سيادة الرئيس، كيف نستطيع أن نأتمن هؤلاء الناس، وهم هناك مصرون على التصفية، بينما نحن هنا نتباحث؟ لا فائدة، ليس أمامنا إلا أن نهد الدنيا على رؤوسهم ورؤوسنا، ولتكن النتيجة ما تكون».
رد عبد الناصر: «ياسر.. لايجب لأى شىء الآن أن يجعلنا نفقد أعصابنا، لابد أن نسأل أنفسنا طول الوقت: ما الهدف؟. الهدف كما اتفقنا هو وقف إطلاق النار بأسرع ما يمكن، إننى تحركت من أجل هذا بناء على تقديرى للظروف، وبناء على طلبك أنت لى من أول لحظة. موقفكم فى عمان مرهق، ورجالكم فى إربد عرضة للحصار، وقلت لك من أول دقيقة أننا لا نستطيع مساعدتكم بتدخل عسكرى مباشر من جانبنا لأن ذلك خطأ، لأن معناه أننى سأترك إسرائيل لأحارب فى الأردن..
وإذا حدث سيفتح الباب لتدخلات أجنبية تنتظر هذه اللحظة، إننى أحاول أن أكسب وقتًا لكى أستطيع زيادة قدرتكم على المقاومة ولتصلوا إلى حل معقول، إننى خلال الأيام الأخيرة فتحت لكم أبواب كل ما أردتموه من سلاح وذخيرة، وبعثت إلى بريجنيف ليضغط على الاتحاد السوفييتى بقوته على الولايات المتحدة حتى لا تتدخل.. وبعثت أنت لى تطلب منى أن أفعل ذلك وفعلته،كل ذلك فى سبيل أن تكسب وقتًا تحول فيه دون ضربة قاصمة توجه للمقاومة، وتعوق كذلك وحدة قوى النضال العربى». استطرد عبدالناصر: «حرقت دمى خلال الأيام الأخيرة لأحافظ عليكم،
وكان أسهل الأشياء بالنسبة لى أن أصدر بيانا إنشائيا قويا أعلن فيه تأييدى لكم، ثم أعطيكم محطة إذاعة تقولون منها ما تشاءون ضد الملك، ثم أريح نفسى وأجلس لأتفرج، لكننى بضميرى وبالمسؤولية لم أقبل ذلك. أستطيع أن أنهى المؤتمر هذه اللحظة. المؤتمر من الوجهة السياسية حقق كثيرًا، ذهب الأخ نميرى أول مرة وعاد بأربعة من زعماء المقاومة استخلصهم بالضغط من السجن، وذهب مرة أخرى وعاد بك،ثم صدر عنا تقرير نميرى والبعثة التى رافقته إلى عمان، تقرير أوضح الحقيقة، وشكل قوة ضغط.أستطيع أن أترك الأمور على هذا الحد وأستريح، ولكننى أسأل نفسى وأسألك: ما الهدف؟هذا هو السؤال الذى يجب ألا ننساه، هدفنا لا يزال هو وقف إطلاق النار لإعطائكم فرصة لإعادة تقرير موقفكم، وإعادة تجميع قواكم. نحن الآن أمام فرصة للاتفاق،هل نحاول أو نسكت وننسى هدفنا؟.
لك القرار لأن موقفى منذ اللحظة الأولى كان من أجلكم، من أجل حمايتكم، وحماية الناس الذين لا ذنب لهم، والذين هم الآن قتلى لا يجدون من يدفنهم، وجرحى لا يجدون من يعالجهم، وشاردون بين الأنقاض أطفالًا ونساءً يبحثون فى يأس عن أبسط حق للإنسان وهو حق الأمن على حياته». سكت عبدالناصر وساد الصمت، ودخل القذافى، ثم توافد الملوك والرؤساء للقاعة فى انتظار الاجتماع، وحسب هيكل: «سأل عبدالناصر، عرفات: «هل نذهب؟»، وأردف:«هل نذهب لنفض الاجتماع، أولنواصل الحديث سعيًا وراء هدفنا؟». وقام الجميع إلى المصعد.. وكان عرفات ممسكًا بيدى يقول لى: «له الله، كتب عليه أن يحمل هموم العرب كلهم، وخطاياهم أيضًا».
*كاتب المقال
رئيس التحرير التنفيذى
لموقع وجريدة اليوم السابع
0 comments:
إرسال تعليق