هل تنقذ دبابات الغرب الأحدث أوكرانيا ؟ والسؤال بالأحرى وبالوضوح القاطع ، هل تنقذ الدبابات حلف الغرب من هزيمة واردة فى الميدان الأوكرانى ؟ لا يبدو ذلك مؤكدا ولا مرجحا ، برغم الضجة الهائلة المثارة ، وتوقع معجزات حربية ، تحققها مئات دبابات "ليوبارد" الألمانية و"إبرامز" الأمريكية و"تشالنجر" البريطانية وغيرها ، وتزويد أوكرانيا الوشيك بطائرات "إف ـ 16" ، وبصواريخ يصل مداها إلى موسكو نفسها ، وإدارة الحرب من "كييف" بخبراء وجنرالات حلف "الناتو" ، ومئات الأقمار الصناعية العسكرية والمدنية التى تراقب "دبة النملة" على جبهات القتال ، وجيوش المرتزقة الأمريكيين والبريطانيين والبولنديين وغيرهم ، وكلها تحلم بإيقاع الهزيمة بروسيا ، التى تواجه وحدها قدرات خمسين دولة فى الحرب المتأهبة لافتتاح عامها الثانى .
ولا أحد يهون من شأن وأثر الأسلحة الغربية الأكثر
تطورا ، وقد هبطت إلى الميدان الأوكرانى من البداية ، وفى زحف جنونى لا يبالى بالتكاليف
الباهظة ، فأمريكا وحدها تدفع لأوكرانيا 130 مليون دولار فى اليوم ، والتابعون لواشنطن
يدفعون أرقاما مقاربة ، واستزاف مخازن السلاح الأمريكية والأوروبية وصل إلى مدى مخيف
، كان أول ما قدمت واشنطن صواريخ "ستينجر" وصواريخ "جافلين" ،
الأولى مضادة للطائرات ، وقد أرسلت منها أمريكا ما يعادل 20 سنة من صادراتها ، و"جافلين"
الملقبة بقاتلة الدبابات ، وقد أرسلت منها أمريكا ما يعادل جملة إنتاجها فى سبع سنوات
كاملة ، أضف إليها صواريخ الدفاع الجوى وصولا إلى "باتريوت" وعشرات آلاف
العربات المدرعة ومدافع "هاوتزر" وراجمات صواريخ "هيمارس" ، وبقذائف
خارقة ، تستهلك أوكرانيا منها سبعة آلاف قذيفة يوميا ، وعلى نحو اضطرت معه واشنطن لاغتراف
مضاف من مخازنها الاستراتيجية فى كيان الاحتلال الإسرائيلى وفى كوريا الجنوبية ، وقل
مثل ذلك عن شراء واشنطن لأسلحة سوفيتية قديمة لإرسالها إلى أوكرانيا ، وعلى خرائط جغرافيا
ممتدة من بولندا ودول البلطيق إلى دول أمريكا اللاتينية ، إضافة لكل ما قدمته الدول
الأوروبية من مخازنها ، وعلى نحو زاد جملة الديون الأمريكية الداخلية والخارجية فى
عام الحرب الأول ، وقفز بها من 23 تريليون دولار إلى ما يزيد على 31 تريليون دولار
، وقد لا تتعجب لما جرى ، فأمريكا تعرف بالغرائز قبل غيرها ، أن الحرب الدائرة فى أوكرانيا
هى حرب تغيير العالم بامتياز ، وأنها كاشفة لكثافة التغيرات التى جرت وتراكمت قبلها
بعقود فى موازين السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا
، وعلى نحو يؤدن بنهاية الاستفراد الأمريكى ، والتحكم فى العالم كقطب وحيد ، خصوصا
مع الصعود الصاروخى للصين ، التى تدعم موسكو بثبات وإطراد ، وتنتقل بعلاقاتها معها
من شراكة غير محدودة إلى تحالف بغير حدود ، يستهزئ بالهيستريا الأمريكية التى تتصرف
كما الثيران فى أوان الذبح ، وبشراسة النزع الأخير من "حلاوة الروح" الذاهبة
، وتفرض ومعها حلفاؤها تدابير وعقوبات اقتصادية ، بلغت حتى اليوم نحو 15 ألف صنف من
عقوبات الحصار ، لم تنجح حتى تاريخه فى إضعاف الاقتصاد الروسى بصورة منهكة ، ولا فى
عزل روسيا التى يتمدد نفوذها العالمى ، مترافقا مع الزحف الصينى ، فقد لا يكون اقتصاد
روسيا من الحجم الكبير ، وإجمالى ناتجها القومى السنوى يعادل بالكاد اقتصاد هولندا
، وموازنتها الحربية أقل من عشر موازنة البنتاجون ، التى قفزت مع عام الحرب الأول إلى
850 مليار دولار سنويا ، على أمل أن تواجه الصين عسكريا بعد تصفية الحساب مع موسكو
، لكن واشنطن المتعجرفة ، لم تدرك بعد أن العالم تغير ، وأنه لم يعد بوسعها أن تأمر
وتنهى فتطاع بغير تعقيب ، وأن اقتصاد روسيا متوسط الحجم ، يملك ميزات فريدة فى موارد
الطاقة والمعادن النادرة بالذات ، وأن امتداد جغرافيا روسيا الكونية ، وجوارها المحسوس
مع دول شمال العالم كله ، بما فيه أمريكا نفسها ، إضافة لاستنادها إلى الجدار الصينى
الصلب ، وقوة أسلحتها النووية والصاروخية بالذات ، يعطيها مددا من الصبر والاحتمال
يكاد لا ينفد ، مكنها من تجاوز خسائر اختراقات عسكرية فى "خاركيف" ومدن فى
"دونيتسك" ، روج لها الغرب كانتصارات عسكرية باهرة للجيش الأوكرانى ، توحى
بالقدرة على إلحاق الهزيمة الكاملة بالقوات الروسية فى أوكرانيا ، وهو ماجرى عكسه بالضبط
، باستعادة الروس لمبادرات الميدان ، مع إعادة تنظيم شاملة ، وإجراء تعبئة عسكرية جزئية
، تزج إلى الميدان بنحو 350 ألف عسكرى روسى ، ربما تضاف إليها تعبئة أخرى ، خصوصا مع
الخطط الموضوعة لزيادة عدد جنود الجيش الروسى إلى المليون ونصف المليون ، وترقية مستوى
قيادة القوات العاملة فى أوكرانيا ، وإلى حد تعيين قائد الأركان الجنرال "جيراسيموف"
مسئولا مباشرا عن عملية الروس العسكرية الخاصة فى أوكرانيا ، ودفع مصانع السلاح الروسى
للعمل بكامل طاقتها ، وإنهاء صور التهاون والتقصير على جبهات القتال ، والاستعداد الجدى
لحرب طويلة المدى ، قد لا تتوقف عند هدف إكمال السيطرة على المقاطعات الأربع المنضمة
لروسيا ، ولا عند الحافة الشرقية لنهر "دنيبرو" ، إضافة لإشارات متلاحقة
على التقدم بأسلحة روسية أحدث إلى الميدان ، بينها على ما بدا طائرات "سو ـ
57" ودبابات "تى ـ 14" والروبوت المقاتل "ماركر" وغيرها ،
إضافة لأجيال أكثر فتكا من الصواريخ فرط الصوتية والطائرات المسيرة ، ربما تستخدم مع
غيرها فى دفن ركام أحدث الأسلحة الغربية المتدفقة إلى الميدان الأوكرانى ، وبدء المذبحة
المقبلة مع هجوم الربيع الروسى المتوقع ، وقد ظلت روسيا تعتمد غالبا على الأسلحة السوفيتية
القديمة فى عام الحرب الأول ، وانتقالها إلى أجيال أسلحة أحدث ، قد يكون تمهيدا لمحرقة
سلاح كبرى ، تواكب التهديد الروسى بإحراق الدبابات الأمريكية والألمانية والبريطانية
، وفى عام استخدام السلاح السوفيتى القديم وحده ، ربما بقصد إفراغ مخازنه وإخراجه من
الخدمة ، دمرت روسيا العدد الأغلب من دبابات أوكرانيا ، وكان لدى الأخيرة 7500 دبابة
قتال عند خط بداية الاشتباكات ، فما الذى يمكن أن تفعله مئات الدبابات الغربية الأحدث
فى الميدان ؟، ربما تجعل المعارك أكثر دموية وتطيل من وقت القتال ، لكن يصعب على ما
يبدو ، أن تحسم الحرب لصالح الغرب ، وهو ما يسلم به الجنرال "مارك ميلى"
قائد الأركان المشتركة للجيوش الأمريكية ، الذى صرح علنا عقب اجتماع "رامشتاين"
الأخير لحلف الخمسين دولة ، وقال بصراحة أنه "يصعب تصور دحر القوات الروسية من
الأراضى التى تسيطر عليها فى أوكرانيا هذا العام" ، ربما لأن الرجل العسكرى المحترف
، يعرف الكثير عن طبائع الروس العسكرية ، ويعرف صبرهم الطويل على المكاره ، ويعرف أنهم
يخدعونك حين ينهزمون ، فهم يهزمون ويهزمون ويهزمون ، ثم ينتصرون فى النهاية ، على نحو
ما جرى فى حملة "نابليون" على روسيا عام 1812 ، وفى حملة "بارباروسا"
الهتلرية على روسيا بملايين من الجنود ، دامت معاركهم المتوحشة لسنوات ، وقتل فيها
25 مليون روسى ، لكنها انتهت باحتلال الجيش الروسى "الأحمر" لقلب برلين ،
وهو ما استذكره قبل أيام "جوزيب بوريل" منسق الشئون الخارجية للاتحاد الأوروبى
، وتمنى أن يكون بوسع الغرب هذه المرة قلب النتائج النهائية .
كان التصور مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة
فى 24 فبراير 2022 ، أن أمريكا قد تستغلها كفرصة لاستنزاف روسيا ، وإسقاط حكم الرئيس
الروسى "فلاديمير بوتين" ، وقد جرى استنزاف جزئى لللقوة الروسية فى حرب أوكرانيا
، لكن جرى استنزاف الغرب بالمقابل فى معارك السلاح والاقتصاد والطاقة ، وجرى استنزاف
للقوة الأمريكية ، وزادت تكاليف الحرب الأمريكية فى أوكرانيا على تكاليف حرب العشرين
سنة فى أفغانستان ، ثم أن الحكم الذى تساعده أمريكا اليوم فى أوكرانيا ، بدا أكثر فسادا
من الحكم الذى أنشأته ورعته وهزم معها فى أفغانستان ، على نحو ما كشفت عنه انهيارات
حكومة "فلوديمير زيلينسكى" الأخيرة ، والإقالات والاستقالات المتزايدة لوزراء
ومسئولين وقادة فى الجيش ، وكشف الميديا الأمريكية عن سرقات لنحو نصف إمدادات السلاح
الغربى ، وبيعها فى السوق السوداء ، وتكوين المسئولين الأوكران لثروات ضخمة مقابل تدمير
حياة الشعب ، وتحويل ما يقارب نصف سكانه إلى لاجئين ونازحين ومشردين ، فى حرب لا تجرى
لحساب سلامة أوكرانيا وسيادتها كما يزعمون ، بل لنزف الدماء حتى آخر أوكرانى ، وليس
مقدرا لها أن تنتهى من دون إزالة حكم "زيلينسكى" نفسه ، وتقسيم أوكرانيا
عند نهر "دنيبرو" ، الذى تطمح روسيا لجعله خط حدودها الجديدة ، وإن كانت
الحرب مرشحة للتوسع الجغرافى ، ربما إلى العاصمة "كييف" وميناء "أوديسا"
على البحر الأسود .
وبالجملة ، تبدو الحوادث مندفعة إلى جولة الرهان
الأخير فى أوكرانيا ، وما من خيار آخر عند روسيا سوى الانتقال من التقدم العسكرى إلى
الحسم العسكرى ، فما من موائد مفاوضات منتظرة ولا واردة ، إلا أن يكون التفاوض بحد
السلاح وعلى خطوط الدم .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق