الحمد لله الذي جعل لنا بين الذاكرين ذكرًا، ومع الشاكرين ذكرًا، ومع الخاشعين نصيبًا وبشرى، فلله الحمد بأن تفضّل عليّ بتقديم هذا السفر المبارك والمكوّن من سلسلةٍ شعريةٍ في السيرة النبوية المشرّفة، على صاحبها وآله صلوات الله وسلامه ورضي الله عن صحبه المتقين، حيث تكوّنت هذه الموسوعة الشعرية والفريدة في حداثتها من أربعة أجزاءٍ هي :
الجزء الأول : محمدٌ
وبناء أمّة .
الجزء الثاني : درر
الأنام في تاريخ الإسلام .
الجزء الثالث : أركان
الإسلام جملةً وتفصيلا .
الجزء الرابع : نزيفُ
أمّة .
ا===================
{{ تجلياتٌ في موسوعة
الشاعر المبدع السيد الديداموني }}
بقلم / أ.د أحلام الحسن
أكاديمية -معهد البحرين
شاعرة- اعلامية
باحثة عروضية معتمدة
أكاديميا
بسم اللّه الرحمٰن الرّحيم
والصّلاة والسّلام على إمام المتقين وخاتم الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله وصحبه
المتقين، وعلى جميع المصطفين الأخيار.
والحمد للّه على ما
أفاض وأنعم، وأعطى وأكرم، من كينونة العقل، ومنافذ الإدراك، ومناهل العلم والرشاد،
والرأي والسداد حمدًا كثيرًا لا ينبغي إلاّ لجلال وجههِ الكريم .
قبل البدء في دراسة
هذا العمل الأدبي المتميز، أدبًا ونورًا، أتوجه بالشكر للأستاذ الشاعر المبدع السيد
الديداموني لثقته الكريمة التي أولاني إيّاها بكتابة مقدمةٍ تحليليةٍ لهذا السفر المبارك،
والذي أسأل الله جلّ جلالُهُ بأن يتقبله منه بأحسن القبول، وأن يجعله نورًا له يوم
الورد المورود إنه الجواد الكريم.
============================================================
تميزت موسوعة الشاعر
السيد الديداموني بعدة أجزاءٍ في كلّ ديوان، وكلّ جزءٍ منها يحمل عنوانًا يختصّ به،
حيث أنّ الموسوعة تتكون من ثلاثة دواوين، يُشكّل كلّ ديوانٍ منها إنطلاقةً فكريةً ثاقبة،
تحمل في طياتها الكثير من الجمال الأدبي والإبداع الشعري؛ والذي يضع المؤلّفَ في عداد
أوائل الشعراء المتميزين، حيث يجذب مُطالعَه وبشدةٍ للتأمل بقصائد هذا السفر النوراني،
والذي يشتمل على عدة منطلقاتٍ إسلاميةٍ، وتاريخيةٍ عريقة، سجّل فيها الشاعر نماذجَ
من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأهمّ أساليب الدعوة الإسلامية،
والفتوحات والملاحم، ومن بدء عنوان كلّ جزءٍ منه، وحتى آخر عنونةٍ فيه .
ولقد تميّزت هذه الدّرة
الأدبية النادرة بشمولياتٍ فاقت التصور لما شملته من أرتولجيا Aretalagy فائقة السّرد والاستعراض لحياة النّبي الخاتم محمدٍ
"ص"، إضافةً للبلاغة الأدبية التي أعطت له نزعةً تعكس الانطباعات الشخصية
للشاعر، والتي عمد الشاعر فيها على إبراز قوة التأثير لديه على المتلّقي، والتي بدورها
تؤدي إلى إحداث عملية التأثر المباشر في النّص من خلال قوة المعاني في تصوير الحدث،
واختياره للمفردات الأدبية الثرية، مستخدمًا فيها أسلوب البديعيات، ولغة البيان، لإحداث
عملية العصف الذهني لدى المتلّقي، ليرجع بذاكرته إلى العصر النبوي الشريف، وينظر بعين
البصيرة إلى العطاء الإيماني الذي تميّز به ذلك العصر من الجهاد، والتضحيات والإيثار
والصبر .
كما عمد الشاعر في مجموع موسوعته المُركّبة هذه إلى
العديد من المفردات اللغوية الفاخرة البعيدة كل البعد عن الخلق والخيال، وعمد لصياغة
المفردات المناسبة للشعر التاريخي المستوجب لذكر الحقائق دون أدنى إضافةٍ اختلاقيةٍ
لها، والتي ترجع بذاكرة القارئ الكريم إلى الماضي العريق للشعر العربي الأصيل، أبان
العصر العباسي وما قبله في كتابات الشعراء آنذاك،
والذين قاموا على سرد الواقع بكلّ دقةٍ، فتفتّقت
فيها جعباتهم عن أجود ما كُتب من شعرٍ في التاريخ والملاحم، والذي استطرد فيه جهابذة
الشعر بأقلامهم، فأثْروا الساحة الأدبية بجواهر الأدب، والشعر العربي الأصيل، والذي
مازال يحتلّ المرتبة الأولى بين الأمم في جماليات الشعر لما تمتعت به اللغة العربية
من سعة أفق المفردات، وجمال لغة البديعيات، ولقد اقتفى الشاعر الديداموني أثرَ السلف
من جهابذة الشعر، فكانوا له القدوة المثلى، وسرعان ماصعد اسمه، ولمع نجمه في سماء الشعراء
المعاصرين، ولقد تميّز الشاعر السيد الديداموني بسرعة البديهة وحذاقة الفطنة، والقدرة
على كتابة القصائد الطوال والتي لو أُعطيت حقّها الكامل لكانت من معلقات هذا العصر، فهو شاعرٌ لا يداهمه مللٌ ولا
كسل، وفي الحقيقة لقد برهنت كتاباته الراقية على مالديه من المُكنة الشاعرية المتميزة،
والقدرة الأدبية الفائقة، والتي أستطاع بها أن يحدّد خطّه ووجهته منذ أولى عتبات كتاباته
.
وأدعوك عزيزي القارئ لتبحرَ في موسوعة هذا السفر
المبارك بكلّ جدّيّة، وتخصص لها وقتًا للإطلاع على قصائدها المتفردة في عصرها، كما
أدعوك للإطلاع على هذه الدراسة المتواضعة من خلال بعض أبيات الموسوعة لا كلها، حيث
يحتاج الإبحار فيها لمجلدٍ كاملٍ علّه يوفيها حقها .
يقول الشاعر في الأبيات الأولى من هذه الموسوعة
:
( فاتحةُ القصيدة )
تَلَأْلَأَتِ الْحُرُوفُ
بِذِكْرِ أَحْمَدْ
رَسُولُ اللَّهِ.. وَالْأَكْوَانُ تَشْهَدْ
يَفُوحُ عَبِيرُهُ مِنْ كُلِّ
حَرْفٍ
كَمَا الْعَبَقِ الْجَمِيلِ إذَا تَنَهَّدْ
فَخُطَّ قَصِيدُهُ
بِمِدَادِ دُرٍّ
تنّفَّسَ كَالصَّبَاحِ
عَلَى زُمُرُّدْ
يلاحظ القارئ الكريم
بلاغة اللغة وجمالية الإستهلال في مستهل القصيدة؛ وما فيه من حسن البيان، ومن جمال
الإقتباس الجزئي من الكلّي مافيه معتبر، فتلألأ الحروف ما كان لولا ذكر أحمد صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه المتقين، فهو النور الذي أعطى للحروف ذلك التلألأ، ومن خلال تلك
الإيدلوجية الدينية والأدبية توّج الشاعر أبياته الرائعة فيعاود في مدح خاتم الأنبياء
" ص" قائلًا :
يفوحُ عبيرُهُ في كلّ
حرفٍ
كما العبقِ الجميل إذا
تنهّد :
المشهور عند الناس بأنّ
العبق أثيرٌ يشمّهُ الإنسان بحاسة الشمّ، ويلاحظ القارئ مدى استخدام الشاعر لإسلوب
البلاغة في كلمة " إذا تنهّد " والتّنهد هو عملية إخراج الهواء من الصدر
بعمق ، فهناك ارتباطٌ وثيقٌ بين العبق والهواء الذي يحمل رائحة العبق، وفي الشطر من
البديعيات مافيه إئتلاف المعاني، ومدى انسجامها الشيء الكثير في كلمتي "كما العبق-
إذا تنهّد " .
فخطّ قصيدَهُ بمداد
درّ ٍ
تنفّسَ كالصّباحِ على
زُمرّد :
أستخدم الشاعر هنا أسلوب
الإحالة بكلّ براعةٍ ودقّة، ليشير بمدلولاتٍ محسوسة الإدراك، وأخرى ملموسة، في تصوير
المدلول عليه، كما كان لاسلوب الاستعارة دوره عند الشاعر في وصف
البديل، فالمداد الأزرق
أو الأسود درٌّ وهو من الأحجار الكريمة الجامدة الملموسة عينًا، لا كالمداد السائل،
ونجد في هذا التعبير الذي استخدمه الشاعر قوة التدفق الشاعري والإنطباعي،
كذلك كان للقوة البنيوية وجودها القوي ، والذي أوجد
الترابط الداخلي والمحسوس الخارجي المبني على احداث عملية التضاد بين المتواقت Synchronic ، وبين المتعاقب Diachronic .
بمدادِ درّ : سائلٌ
ودرٌّ جامد، ومتى كان المداد جامدًا !
تنفّس كالصّباح : حرفُ
الكاف هنا رسم لوحة تشبيهٍ لحالةٍ غير مادية اللمس، منظورة الأثر لا مرئية البصر .
على زمرّد : أثيرٌ متطايرٌ مع الريح ذاك التنفس،
وجمادٌ ثابتٌ في مكانه ذاك الزّمرد
هذه اللوحة البديعية للشاعر أوجدت حالة التضاد الأدبي
الثنائي بين المتحرك واللا متحرك ، وبين المحسوس
بالحسّ وبين الملموس، وهنا تكمن براعة الشاعر بين تداخلات المتواقت والمتعاقب وبكل
براعة .
ولقد أشاد المؤلف بأهمّ
المعجزات النبوية كقوله في ذكر رحلة الإسراء والمعراج :
منَ البيت العتيق أتمّ
رحلًا
إلى القدسِ الشّريف
أتاهُ يَسجدْ
على ظهر البراقِ عظيمُ
قدرٍ
كما لو كان ياقوتًا
تجسّدْ
نرى غلبة السرد الأدبي
الغالب على القصيدة في مجمل هدفية الشاعر لإيصال الأحداث التأيخية الإيدلوجية إلى القارئ
بكل دقة، رغم تداخل بعض التشبيهات والبديعيات بين فقرات القصيدة ،
مثل قوله : كما لو كان
ياقوتًا تجسّد : وهنا نرى جمال الحالة التعبيرية
من خلال الجزئيات العينية مما أعطى للبيت طراوةً في اللغة أضافت نبرةً تعبيريةً للحدث
الإعجازي.
كما كان للمسلمين الأوائل
لدى الشاعر أهمية كبرى، لكونهم العمود الأساسي الأول لانطلاقة النبوة الشريفة، نذكر
على سبيل المثال بعض ما أورده المؤلف في موسوعته الرائعة هذه حيث يقول :
لأوّل من دعا دررٌ تهادت
بنورِ اللهِ والإسلام
تعضدْ
هم المدحُ الذي أصغى
إليهم
مدادُ الحرفِ من درّ
ٍ وعَسجدْ
فأسبقهم إلى الإسلامِ
رشدًا
بمنبتهِ " خديجة من خويلد "
وللشاعر ذكرٌ مترادفٌ
للتشبيه بالأحجار الكريمة في الجزء المختصّ باستقبال أهل يثرب لرسول الله " ص"
في حدث الهجرة النبوية الشريفة، أعطى للأبيات بريقًا ولمعانًا وكأنّها قد رُصّعت حقيقةً
بتلك المجوهرات والدرر ترصيعا، كقوله :
تلألأَتِ المدائحُ في
لقاهِ
بعذبٍ من هديلِ الشّعرِ
أنشدْ
أتى بدرُ الكمالِ على
بساطٍ
كما الديباجِ من حُسنٍ
تورّدْ
بهِ درُّ الصّفاتِ كما
توَالت
بسلسلةٍ وعِقدٍ من زبرجدْ
يلاحظ على الشاعر استخدامه أسلوب التنميق، والتشبيه بالأحجار
الكريمة، وغيرها من المحسنات البديعية، والتي أعطت دفعةً تشخيصيةً للجمادات ككائنٍ
حيّ ٍ Personification تمثّل في شخصيات موسوعته الشعرية كقوله :
أتى بدرُ الكمالِ على
بساطٍ :
وفيه تعزيز الحدث والمُحدِث، فالفاعلُ هو ذاك البدرُ
إشارةً إلى عظم شخصية المُحدِث .
كما الديباجِ من حُسنٍ
تورّدْ :
وهنا يستخدم الشاعر
أسلوب التبليغ في إيجاد المثيل المشابه عند الإنسان للموصوف على أرض الواقع ف
" الديباج " وهو أفخر أنواع الحرير لدى الإنسان لم يجد الشاعر إلاّ أن يشبّه
البساط الذي أقلّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وحمله في رحلته بالديباج
لأنه أقرب الصور للإنسان، ولعلّ احتمالية خلق ذلك البساط تختلف عن وصف المُشبه به،
وللّه في خلقه ما يشاء.
وأشير إلى لغةٍ جماليةٍ
أخرى للشاعر في استخدامه للمحسنات البديعية كقوله :
به درُّ الصّفاتِ كما
توَالت
بسلسلةٍ وعِقدٍ من زبرجدْ
ففي هذا البيت نرى كلمتي
" در " و" الصفات " وفيهما من بديع المشاكلة الغير مرئية بتصوير
صورةٍ ملموسةٍ لتلك الصفات الممكنة بصيرةً وعقلًا ؛ ومن جانبٍ آخرٍ هي عين الإغراق
الوصفي
المتميز.
بسلسلةٍ وعِقدٍ من زبرجدْ
:
يعود الشاعر لاستخدام
إسلوب الاستعارة التصريحية بحذف المشبّه والتصريح بالمشبّه به، بمسميات الأحجار الكريمة
لبلاغة الوصف في الموصوف كقوله :
بسلسلةٍ : والسلسلة
هي الحلقات القوية المتداخلة بشكلٍ منتظمٍ ومتين، والتي تحتاج لمعدنٍ قويّ ٍ ليس من
السهل انفكاكها.
وعقدٍ من زبرجد : العقد
هو ذلك الخيط الذي يجمع خرزات الأحجار الكريمة حوله وهو قابلٌ للإنفكاك ولتناثر الخرزات،
وهنا نجد تضادًا أدبيًّا في غاية الأهمية والجمال، بين قوة السلسلة ومتنانتها، وبين
قابلية إنفكاك العقد، ومما يُشاد بأهميته هو عملية الرّدف اللغوي المتميزة بالدقة وبمتانة
اللغة فا " العقد ، هنا جاء مردوفًا لدى الرّادف ومُستَنِدًا بكلّ أزرٍ إلى ماهو
أشدّ منه متانةً وصلابةٍ وهو السلسلة"
بسلسلة " والتي أوجبت أقصى المتانة.
من زبرجد : المعروف
عن الزبرجد بأنه من أفخم وأجمل الأحجار الكريمة المشعّ بألوانه الخضراء وكأنّ الشاعر
المبدع اختار مجموعةً معينةً بذاتها من الأحجار الكريمة الثمينة ليرسم رائعته الشعرية
هذه في عمليةٍ أشبه ما تكون من عملية الأنثولوجيا Anthology الأدبية.
ولنرجع معًا إلى المسلمين
الأوائل حيث يثري المؤلف موسوعته بأهمّ الشخصيات البطولية التي ساندت النّبي عليه وعلى
آله وصحبه المتقين صلوات الله وسلامه، مشيرًا إلى بعض مواقفهم العظيمة كقوله في مدح
الأمام علي كرم الله وجهه :
أبو الحسنين ،كرّمهُ
الإلهُ
بفاطمةَ البتولَ ومن
تولّدْ
همُ الأنوارُ ما ضلّت
خطاهم
سراج همو أضاء بكلّ
مقصدْ :
"همُ الأنوارُ
ما ضلّت خطاهم "
نرى في هذا البيت محاولةً
فريدةً للشاعر لإعطاء كلّ ذي حقّ ٍ حقه من آل رسول الله " ص" ومن الصحابة
الأوائل رضوان الله عليهم، وفي البيتين أعلاه مافيه دلالةٌ كقوله :
أبو الحسنين "كرّمهُ
الإلهْ " : وفيه إشارةٌ من الشاعر للإمام علي" رض" بقوله " كرّمهُ
الإله " قاصدًا بها عدم سجوده لصنمٍ قط، وعدم اتّباعه لدين قريش منذ طفولته، كما
أنّ أعظم تلك الكرامات التي حباه الله بها تزويجه بفاطمةَ البتول سيدة الجنان وتولّد
الحسن والحسين منهما ومن هما إنهما سيدا شباب أهل الجنة وهذا يكفيه فخرًا .
همو الأنوار : يشير
الشاعر إلى أهل البيت وإلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المتقين، ولا يتأتّى
من النّور إلاّ الرشاد والإصلاح والصلاح .
وفي الشطر الثاني من
البيت نرى إشارةً حقيقية الوقع والوصف القرآني العميق لرسول الله " ص" :
" سراج همو أضاءَ
بكلّ مقصد"ْ :
سراجٌ واحدٌ تحدّث عنه الشاعر قاصدًا به رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المتقين فهو السراج المنير الذي أضاء كل مقصدٍ ومكان
، ونلاحظ رجوع الضمير " همو " إلى أهل بيت رسول الله " ص" كمن
يقول قمر الليالي ، وشمس الأفق، فالقمر واحدٌ والليالي بلا حسابٍ ولا عد، وشمس الأفق
واحدة، والآفاق متسعاتٌ تحوي العديد من الكواكب والنجوم والمجرات ؛ فرسول الله
" ص" هو ذاك السراج الذي خصّه الله برسالة التبليغ للعالمين.
وبايعهُ أبو بكرٍ وأعطى
رسولَ اللهِ ما أهدى
وأيّدْ
سراجُ الوقد،ِ عنقودُ
الثّريا
على مشكاته الأنوارُ
تُعقدْ
يشير الشاعر في البيتين
أعلاه إلى أوّل الرّجال إسلامًا وهو أبوبكر الصديق" رض"، وهو ذاك الصحابي
الكبير الذي لم يبخل بماله، ولا بعطائه الباذخ في دعم عماد الرسالة الإسلامية؛ وفي
إثبات قوائمها، وهي في بدء انطلاقها وحداثتها، وتلك هي المرحلة الأصعب في بدء أيّة
رسالةٍ سماوية.
وبايعهُ أبو بكرٍ وأعطى
رسولَ اللهِ ما أهدى
وأيّدْ
كلماتٌ انتقاها الشاعر بكل دقةٍ معلنًا فيها عن مدى
قوة عزيمة المسلمين الأوائل في التمهيد والتّمكين لاحتضان الرسالة المحمدية العظيمة
" ص".
سراجُ الوقد،ِ عنقودُ
الثّريا
على مشكاته الأنوارُ
تُعقدْ
وفي البيت أعلاه نرى
أسلوب المدح جليًّا في الممدوح " سراج الوقد " عنقود الثريا " على مشكاتِهِ
الأنوار تعقدْ "
فهل بالغ الشاعر في
المدح باستخدامه لغة التفخيم Understating
language لمصطلحاتٍ اسلاميةٍ وقرآنية لها خصوصياتها في القرآن
الكريم كقوله " على مشكاته الأنوارُ تُعقد" ! فنور الله هو مشكاة الأنوار
كلها والذي تعقد الأنوار منه لا سواه، ( مثلُ نورِهِ كمشكاةٍ فيها مصباح)، كما أنّ
مصطلح كلمة السراج جاءت في النبي الأكرم " ص" لا في غيره ( يا أيّها النّبيّ
إنّا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرا. وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا ) ونحن
في رحاب موسوعةٍ اسلاميةٍ بحتةٍ، ولعلّ القلم الشعري الفذ والحب أخذ بشاعرنا المبدع
مأخذه في وصف الشعور من حيث اللاشعور.
ليعرج الشاعر بعد ذلك
إلى الصحابي الكبير عثمان ابن عفان " رض" بقوله :
وما إن جاءَ عثمانُ
فأعطى
لدينِ اللهِ من جاهٍ
وسرمدْ
رويّ شاء سبّاقُ العطايا
وكُتّابُ السّماء لهُ
تؤيّدْ
يذكر الشاعر في البيتين أعلاه عن مجيء الصحابي الجليل عثمان ابن
عفان " رض" وإذا نظرنا إلى التاريخ نجد أنّ مجيئ صحابينا الجليل هذا قد قام
على شقين وهما :
دخوله الإسلام في فترةٍ
صعبةٍ حرجةٍ تقف فيها قريش وقفة رجلٍ واحدٍ في وجه المؤمنين بالدعوة المحمدية
"ص" وما سيتحمله من ردة فعل قريش ومن قرابته، ولدعمه الرسالة السماوية بالمال
والعطاء مساندًا فيها حركة الدعوة الإسلامية .
أما المجيء الثاني فتسلمه
الخلافة في مرحلتها الثالثة والتي يشير إليها الشاعر في هذا البيت
بأهمّ انجازاته فيها
واصفًا ذلك :
" وكُتّاب السّماءِ
لهُ تؤيّدْ " يشير الشاعر بذلك إلى كُتّاب الوحي وحفظة القرآن الذين استدعاهم الخليفة عثمان " رض" لكتابة القرآن واثبات
ما صحّ منه وبذلك تمّت كتابة المصحف العثماني، ليضيف إلى تاريخ هذا الصحابي حدثًا من
أهمّ أحداث تأريخ جمع المصحف الشريف.
لا يخفى على المتأمل
في أبيات هذه الموسوعة المباركة والمتميزة بإحداثها ومفرداتها، والتي تُعدّ من أبرز
الموسوعات الشعرية الحديثة النادرة، بأجزائها الفاخرة بالمفردات اللغوية مدى قدرة الشاعر
على صناعة جاذبية الصيغ اللغوية والبيان، وعلى قوة اللهجة التي لم تسر على حدثٍ واحدٍ
أو وتيرةٍ واحدةٍ ، حيث عرج الشاعر إلى عدة محطاتٍ رئيسيةٍ في حياة النبي محمد صلى
الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تمّ ذكرها في أجزاء هذا السفر المبارك كلٌّ في موضعه،
وفضل أصحابه رضي الله عنهم ونلاحظ في هذا البيت مدحةً الصحابي الكبير عمر ابن الخطاب
" رض" بقوله :
أتى عمرٌ، به الإسلامُ
طودٌ
إلى المبعوثِ قوّامًا
مُوَحّدْ
كما البنيان معراج تعالى
صروح المجد هامات وسؤدد
" أتى عمرً به الإسلامُ طودٌ " دلالة البيت
تشير لمكانة الشخصية البارزة فيه، ونرى في البيت صيغة التّشبيه المباشر، دونما استخدام
حروف التشبيه فيه، وفي هذا دلالةٌ لبروز شخصية البيت فهو "طودٌ " ومن هنا
نلاحظ صيغة المبالغة البديعية، وحرص الشاعر على إثراء رائعته ودونما خلقٍ للخيال.
" إلى المبعوثِ
قوّامًا موَحّدْ " إنّ المعنى اللغوي والإصطلاحي لكلمة المبعوث هو الذي يحمل عُهدةً
من الباعث يبلّغ بها، أو يخبر بها، أو يُسلمها، ويشير شطر البيت إلى عُهدة النبوة،
وهو القرآن الذي جاء به النّبيّ المبعوث محمد عليه وعلى آله وصحبه المتقين صلوات الله
وسلامه ؛ بينما تشير تكملة الشطر إلى الصحابي عمر ابن الخطاب "رض" وقوة إيمانه
وصدق التوحيد الذي أودعه صدره " قوّامًا موَحّدْ " ، والقوّام صيغة مبالغةٍ
لغويةٍ إلى كثرة صلاته وقيامه موحّدًا الله، ولا تتحقق حقيقة العبادة إلاّ من خلال
الاقتران الذهني بين عمل الجوارح والإخلاص الفكري، وهذا ما يفيد به شطر البيت من الوضوح
الدقيق الذي تتجافى فيه الصور الغامضة والإفتراضات بعيدًا ، مؤكّدًا مصداقية ما أورده
الشاعر من الوصف.
ونرى شمولية تجليات
الشاعر ومدى حرصه على ذكر أهمّ تفاصيل الدعوة الإسلامية في دفّتي الميزان الإسلامي
القرآن والسّنة النبوية الشريفة، وأستشهدُ بهذه الأبيات من قصيدته منابر الإسلام في
الجزء الأول منها، والذي خصصّه الشاعر للقرآن الكريم بينما خصّ الجزء الثاني منها للسنة
النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، يقول
واصفًا القرآن الكريم :
قد قالهُ ربّي وأحيا
ذكرَهُ
صدقًا بلا ريبٍ ولا
بهتانِ
كلّ العلوم تُصبُّ في
طيّاتِهِ
عِلمًا أقرّ بهِ إلى
العرفانِ
منهاجنا القرآنُ آكدُ
شرعةٍ
محفوظةٍ في عالمِ الإيمانِ
مدنيّهِ يُتلى على مكّيّهِ
كلٌّ على جللٍ من الرحمٰنِ
هو أنسُنا في القبرِ
بعد مماتنا
وطريقنا النّاجي إلى
الرّضوانِ
وفي تلك الأبيات عدّةُ
إشاراتٍ ابتعد بها المؤلف عن البرناسية المغلقة، داعيًا إلى الإنطلاق بحمل مبادئ الشاعر
الدينية على أكفّ قصائده، مشيرًا بقوله " صدقًا بلا ريبٍ أو بهتان " وهنا
يتجلى الطّباق الإيجابي بين جمع الضّدّين الصّدق والبهتان بكلّ أصالةٍ احترافية.
كما يشير الشاعر على احتواء القرآن الكريم على العديد
من العلوم، وهو الأنيس في القبر، والطريق إلى مرضاة الله ، ومن المحسنات البديعية الجميلة
في الأبيات استخدام المُحسّن البديعي " التبليغ " كقوله ( مدنيّه يُتلى على
مكّيّهِ )، إضافةً إلى السجع المتوافق في الياء وهاء الضمير " مدنيّه .. مكيّه
- يهِ- يهِ " والذي أعطى البيت لونًا
من ألوان المحسنات البديعية الجميلة نرى التقنية الأدبية الفذة في منحنى ردّ عجز الشطر
على صدره في كلمتي " مدنيّه - مكيّه .
ولم ينس الشاعر شيئًا
من أهمّ حوادث التاريخ الإسلامي وأحداث الرسالة المحمدية العظيمة إلاّ وذكره وأوفى
حقه، وللشاعر الملهم مواقفَ عديدةٍ في موسوعته الشعرية الضخمة هذه، والتي جمع فيها
صفوة قصائده المتينة، والتي لا يكتبها إلاّ قلبُ شاعرٍ أُودع إيمانًا ومكنةً أدبية
بليغة ، وكما كان للقرآن الكريم وجوده الشامخ في قصائد شاعرنا الفذ ، كذلك كان للسنة
النبوية الشريفة وجودها المتميّز في أشعار المؤلف كقوله في مستهلّ قصيدته منابر الإسلام
والمكونة من 160 بيتًا يقول فيها :
في سُنّةِ المبعوثِ
طابَ عناني
وبها أنالُ شفاعةِ العدنانِ
يلاحظ القارئ الكريم
كلمتي " عناني - العدنانِ " وما فيهما من التقارب اللفظي العذب الذي أولد
جناسًا غير تامٍ في كلمتي : عنان- عدنان .
تنزيلُ ربّيَ والحديثُ
كلاهما
عِلمانِ في صرحِ الهُدى
عَلمانِ
أما في هذا البيت والذي
كسابقيه ولاحقيه من أبيات الشاعر القوية نلاحظ عملية ردّ العجز على الصدر جليةً واضحة
لقول الشاعر :
" عِلمانِ و عَلمان " هذا من ناحية، ومن
ناحيةٍ أخرى إيجاد توازنٍ للجناس التام في تشابه اللفظين التام للحروف مع اختلاف المعنيين.
بينما أدت كلمة ( صرح
الهدى ) إلى المعنى المجازي البحت في عملية إسنادٍ نسبيّ ٍ واستعارةٍ ومشابهةٍ بين
قوة الدين وقوة الصرح.
كُلٌّ بأمرِ اللهِ ليس
بأمرِهِ
فهوَ المليكُ وصاحبُ
السّلطانِ
وفي إشارةٍ من الشاعر
إلى هدي رسول الله "ص" وبأن القرآنَ والنبوةَ الشريفة لا ينفكّان عن بعضهما،
وبإسلوبٍ يُخضع المسلم للانسياق الروحاني والوجداني وبلغةٍ لا تخلو من مخاطبة عاطفة
الإنسان المسلم Loaded
Language فتطير به في سماء العبودية المطلقة والخضوع للّه جلّت قدرته.
أما اللغة الأدبية تتجلّى في البيت بكلمتي
" بأمر - بأمره " في إطارٍ أدبيّ ٍ بديعٍ استطاع الشاعر خلق جناسٍ متوافق
التركيب في كلمتي ( بأمرِ - بأمرِه ) في تصريحٍ إلى قوة الترابط بين القرآن والسنة
النبوية الشريفة.
وفي بيان براعة الشاعر في هذا النوع من الشعر العرفاني
نرى كيف أسند الفعلَ إلى الفاعل الأصلي ( كلٌّ بأمر الله / فهوَ المليكُ وصاحبُ السّلطانِ
).
وبسموٍ شامخٍ، تناثرت
أبيات الشاعر في قصيدته العصماء " أركان الإسلام " بما ورد فيها من ذكر أركان
الإسلام الحنيف بكلّ إفاضةٍ وإسهابٍ نافعٍ في شرح تعاليم ومفاهيم الدين الحنيف؛ وبصورةٍ
شاعريةٍ فخمةٍ جدًا يخيل للمتلقّي بأنه أمام كتابٍ في تعاليم الفقه، مما يزيد في القيمة
الفكرية العالية، والمنفعة للقارئ لهذا المجموعة الأدبية الراقية بمضمونها وأدبياتها
الفذة،
كقوله في شهادة التوحيد
وهي أول أركان الإسلام :
إسلامُنا صرحٌ تعدّدَ
ركنُهُ
قد جاءنا خمسًا بلا
نقصانِ
فشهادةُ التّوحيدِ ركنٌ
ثابتٌ
تعدادُها في أوّلِ الأركانِ
لاريبَ يرتاحُ الفؤادُ
لذكرها
مشكاةُ نورٍ أوقدت إيماني
ويعرج الشاعر بأبياته العالية المحتوى مشيرًا إلى
الأركان الخمسة وإلى حدث فرض الصلوات الخمس في عملية إثارةٍ للإدراك الحسي Aesthetic Perceptics لدى القارئ بين عددية الأركان، وتوافق عددية الصلوات
الخمس في حادثةٍ من أكبر معجزات الرسالة المحمدية " ص" .
ولننظر لقوله في هذا
البيت :
لا ريبَ يرتاحُ الفؤادُ
لذكرها .. مُشكاةُ نورٍ أوقدت إيماني
يرى القارئ في هذه الأبيات
أنّ جوهر القصيدة قد بُنيَ على عملية تصوير الشعور الذاتي إيمانًا من الشاعر بأنّ لكلّ
ظاهرٍ باطنٌ عميقٌ وهو الشعور، مؤيدًا لأدباء المذهب التعبيري Expressionism في كشف حقائق الباطن التي لا ترى بالعين المجردة،
كما هو الحال في مشكاة النور التي تحدّث عنها الشاعر في تصوير البيت
أعلاه فهذه المشكاة ماهي إلاّ تلك الأركان السماوية، وهذا النور لدى الشاعر يُعدّ صور
مجازاتٍ بين الشبه والمشبه به ووجه الشبه، مع انتفاء أداة التشبيه فالوقود وجه الشبه،
والمشكاة مشبهٌ بها، في الحقيقة لقد أبدع الشاعر في استخدام أدواته الشعرية بكل إجادة
.
ثمّ يعرج الشاعر نحو فرض الصلاة المفروضة وفي هذا
البيت استطاع الشاعر الملهم أن يفيضَ بما في جعبة ذاكرته وخلفياته التاريخية الفياضة
من معلومات صبّها بقوله :
فصلاتنا للدّينِ ركنٌ
قائمٌ
بصلاحها ملأ الهدى وجداني
في ليلةِ الإسراءِ أوحيَ
فرضها
خمسًا من الصّلواتِ
دون توانِ
ودق من الرحمن تمطرني
هدى
فتصيب قلبي اينما تلقاني
ماشاء ربي في رواء عبيرها
يجتاح روحي هالةً بحسان
في ليلةِ الإسراءِ أوحيَ
فرضها
خمسًا من الصّلواتِ
دون توانِ
نلاحظ في الأبيات أعلاه
والتي يتحدث فيها الشاعر عن الصلاة وكأنها معشوقته المفضلة والأكثر اقترابًا من مشاعره
مما يجعل للشعر قيمةً ذاتيةً وقيمةً خارجيةً للمتلقّي ذات نتائج أخلاقيةٍ ودينيةٍ للطاقة
الإنسانية ودافعًا من دوافع الرقي الإجتماعي كقوله :
" بصلاحها ملأ
الهدى وجداني " فتصيب قلبي أينما تلقاني " يجتاح روحي هالة بحسان"
علاقةٌ مركبةٌ بين الروح
والوجدان والفكر A Complex
relationship between spirit, conscience and thought الذي يحمل عقيدته بكل قوة ؛
في عمليةٍ للميل للأمحدود،
وترك الروح للمطلق تسبح عبر تيارات الشعر الصوفي Sufi poetry ، مما يخيل للقارئ بأنه يقرأ إحدى قصائد ابن الفارض، حقيقةً كلما قرأتُ
لهذا الشاعر
الفتي ازداد يقينًا
بأنه ملهمٌ من الله لا محالة وأنّ يد السماء تدير قلمه.
في ليلةِ الإسراءِ أوحيَ فرضها
خمسًا من الصّلواتِ
دون توانِ
يشير المؤلف إلى حادثة
ليلة الإسراء والمعراج The
night of Israa and meraaj في كشف حقائق الحدث الجوهرية، فيسير بعيدًا عن رسم مظاهر الصور الخارجية
وبعيدًا عن الانطباعية البصرية الآنيّة؛ جاعلاً من البيت إطار شعريةٍ يدلُّ على شاعرية
الشاعر الذي يحكم أدواته الشعرية بطاقةٍ من الخصائص الأدبية القوية.
ثمّ يأتي الشاعر وبكلّ
بلاغةٍ وانطلاقيةٍ موجبةٍ للمزيد من الإبداع فيقول في توأم الصلاة الثاني وهي الزكاة
المفروضة أبياته التي كالوحي النازل عليه بإلهامٍ يلفت نظر المتلقّي :
إنَّ الزّكاةَ عليكَ
ركنٌ واجبٌ
مثل الصّلاةِ كلاهما
سيّانِ
في البيت أعلاه تشبيهٌ
مقبولٌ بين الصلاة والزكاة في مقتضى الحال في إيلاد نتيجةٍ واحدةٍ في اشتراطيّة قبول
الأولى بالثانية وكأن الشاعر يسعى لعملية نصحٍ وإرشادٍ Advice
and guidance من خلال أبيات موسوعته العظيمة..
فالمالُ مالُ الله إن
تبخل بهِ
ستبوء يومَ العرض بالخسرانِ
ثمّ يعرج المؤلف بعروجه
المبارك إلى فريضة الصوم وفضلهِ، والحثّ عليه وبكلّ ما يحمله شاعرٌ من إحساسٍ بمسئولية
الكلمة في رسالته الأدبية دون أدنى غموضٍ أو تعبيرٍ ملتبس ؛ في عملية تماثلٍ وتمازجٍ
بين البداية والنهاية Anadiplosis في موسوعته الأدبية الفاخرة هذه وبكل اتقانٍ ومسئولية،
يقول في مستهلها :
طُبُّ الفؤادِ ومونقُ
الأزمانِ
يازهرةً بين الشّذا
والبانِ
قد أنجمت كلّ المحاسنِ
دُرّها
وضفوفها نهلٌ من السّلوانِ
في الأبيات أعلاه نرى تبلور النظرية الرومانطيقية
مستسلمةً وبكلّ خضوعٍ إلى الرمزية ودورها الفعال في تصوير النّصّ فالصوم ( طبُّ الفؤاد
ومونق الأزمان ) فهو طبٌّ يداوي الإنسان معنويًا وجسديا وأخلاقيًا، وهو مونق الأزمان
أكثر أيام الزمان رونقًا وجمالًا ( يازهرةً بين الشّذا والبان )
وهنا تتجلى الرمزية
بكل قوتها مابين الشطر الأول من البيت، والشطر الثاني حيث قام المبدأ الشعري في الأبيات
أعلاه على ثلاث قوىً " Mind,
Conscience and Self Refinement
العقل" والضمير" وتهذيب النفس"، في
عمليةٍ استسلاميةٍ تتصدر ضمير الشاعر ليكشف بها عن مكنون رؤاه ومعتقداته.
رمضانُ أقبلَ والقلوبُ
تنيّرت
وغزت لآلئهُ سما الأوطانِ
فصيامُنا قد جاء ركنًا
رابعًا
بحلولِ شهرِ العفوِ
والغفرانِ
من فضلِهِ الرّحمات
والعفوِ الذي
بختامهِ عتقٌ من النّيرانِ
لصيامنا المفروضِ عدّةُ
أوجهٍ
ولكلِّ صنفٍ عدّةٌ ببيانِ
المتأمل في قصيدة أركان
الإسلام سيجد نفسه ليس أمام كتاب شعرٍ فقط، بل أمام موسوعةٍ شعريةٍ، وعقائديةٍ، وفقهية،ٍ
وتاريخية،ٍ تخلق تضامنًا ذهنيًّا مترابطًا في أذهان المتلقين Association
Of Connection بذل الشاعر فيها أقصى مافي وسعه ليصل إلى القارئ بأنقى الصور والمصداقية.
ولفريضة الحجّ مقامها
وشأنها الرفيع في هذا السفر الأدبي الإيماني الراقي، بكلّ حروفه الهادفة، وبكلّ شموليته
الأدبية العالية، فيصف هذا الفرض وصفًا دقيقًا أختصرُ الوقوفَ على بعض أبياته الرفيعة
كقوله :
ولففتُ جسمي ما يواري
سوأتي
وكأنّهُ كفني على جثماني
نمضي بلا جدلٍ ولا فسقٍ
ولا
نأتي النّسا فالكلُّ
في هجرانِ
وبكلّ صراحةٍ لقد أبكاني
هذا البيت لما فيه من روحانيةٍ وتذكيرٍ من دقة الوصف؛ في عملية إحكامِ التعبير Atticism في كيفية إداء هذه العبادة ودون غيرها من العبادات،
فالشعر الحقيقي هو الذي يتأدب بإحدى العناصر الأربعة The Four elements Sadness, Passion,
Passionate, Moral's وهي الحزن، العاطفة، الحماس، الأخلاق، وقد لبس هذا البيت رداءَ الحزن المتمثل
بصور الحزن والخشوع والذل لله جلّ شأنه وجللته العاطفة الروحانية حتى رسمت منه كيانًا
ناطقًا، كما لبس البيت الذي يليه رداء الأخلاق، والحماس التي أولد العزيمة لدى الحجاج
( نمضي بلا جدلٍ ولا فسقٍ ولا ..نأتي النّسا فالكلُّ في هجرانِ ) ورغم أنهُ بيتٌ واحدٌ
فقد استطاع الشاعر أن يجمع تلك العناصر الأربعة فيه الحزن والعاطفة والحماس والأخلاق
، وبكل دقةٍ أثبت فيها جدارته الأدبية.
أما في قصيدته الميمية
المكونة من 170 بيتًا، فقد خصّص الشاعر الجزء الأول منها متحدثًا في أبياته عن بدء
الخليقة وهو القلم ولقد وفّق الشاعر أيّما توفيقٍ في إدراج خلق القلم في أول أبيات
هذه القصيدة وكبقية قصائده الفذة فله تشهد قوافيه على قدرته الأدبية الفذة في اختيار البيت الأنسب لمستهل القصيدة Beauty exordium ، والبيت الأنسب لخاتمة القصيدة Beauty Peroration.
سبحان من بدا الخليقةَ
بالقلمْ
وبهِ تأسست المعارفُ
والكلمْ
هو كاتبُ الأقدارِ قبل
وقوعِها
ياحكمةَ الرحمٰن في
كلّ النّعمْ
ويصرّ المؤلف الشاعر
على إشباع هذا السفر الأدبي المتميز بالإبداع على ذكر أهم الأحداث التي تواترت على
الخريطة الجغرافية الإسلامية ؛ فها هو يسجل التاريخ من جديدٍ وبأسلوبٍ يقيم قوائمه
القوية على عدة أصنافٍ من الشعر؛ فنجد في قمة قصائده الشعر العرفاني، والتذلل لله،
ونجد في قصائده الشعر التاريخي للحقبة النبوية،
ونجد في قصائده حقبة الخلافة وأحداثها وملاحمها، ليختم موسوعته العظيمة هذه
وفي الجزء التاسع الذي خصه بذكر أحداث المماليك وردع التتار، وكيف تمت هزيمتهم على
أعتاب مصر العظيمة عندما حاولوا اقتحامها، وأورد للشاعر بعض أبياته في هذه الملحمة
الكبرى التي قال فيها :
من واحة الطّغيانِ تنفثُ
سمّها
شيطانةُ الإنسانِ في
ثقبِِ الخللْ
فتسمّمت أوداجُ أمّتنا
بها
وتسيّدت أهل الرّجاسةِ
والخبلْ
عمّا دنا غزو التّتارِ
بأرضنا
عرشُ الخلافةِ في العراق
بهم عُذلْ
سلبوا وعاتوا بالمذابحِ
أرضها
وتمالكوا كلّ السّواحلِ
والدّولْ
فأتوا إلى مصرَ العظيمةَ
أمرهم
فتجهّزت بجيوشها كي
تقتتلْ
ذرُّ المهابة، والجيادُ
تؤمّها
هي مصرُ مقبرة الغزاةِ
من الطّيلْ
ياعين جالوت اشهدي في
جندنا
كيف استعادَ المجدَ
فينا واجتبلْ
قهروا التّتارَ وأوجسوهم
خيفةً
بالسّيفِ والرّمحِ المهيبِ
وبالأسلْ
لقد صوّر الشاعر في
تلك الأبيات الملحمة تصويرًا دقيقًا من عين الواقع، ودون الشرود بالفكر لمنحنى الخيال،
ودون الشروع في المبالغات الفارغة، لقد تمكن الشاعر بأحسن مايكون فيه التمكن الأدبي
في رسم لوحة الشعر الملحمي Epic
Poetry حيث التقط الشاعر عدة صورٍ لهذه الملحمة العظيمة التي هي من أصعب الفترات التي مرت بالتأريخ
الاسلامي كقوله :
من واحة الطّغيانِ تنفثُ
سمّها
شيطانةُ الإنسانِ في
ثقبِِ الخللْ
حيث نجد أنّ الشاعر
هنا أوجد في صورة التشبيه" شيطانة" حالةً من القدرة على تقريب الصورة إلى
ذهن المتلقّي .
" تنفث سمّها
" " ثقب الخلل" وهنا يتوجه الشاعر لصناعة صورةٍ من التشبيه المباشر
ودون استخدامٍ لحروف التشبيه وأدواته، ونرى هنا كيف استطاع الشاعر تصوير العلاقة الوطيدة
بين السّمّ والثقب، فالسّمّ لا يخرج إلاّ من ثقبٍ صغيرٍ ورغم ذلك تشكّل سرعة النفث
أخطر اتساعٍ وتأثير، وقد لعبت المجازات اللغوية دورها في البيت لقوة العلاقة بين المعنى
المجازي والمعنى الحقيقي .
ثم يعاود الشاعر الكرة
في تصوير الشعر الملحمي بصوره الواقعية تمامًا حتى يخيل للقارئ أنه أمام مسرحيةٍ ملحمية ، لقد استطاع الشاعر وبكل براعةٍ أدبيةٍ
خلق ترابطٍ Aesthetic
distance بين عمله الأدبي وبين القارئ من خلال أبياته.
ياعين جالوت اشهدي في
جندنا
كيف استعادَ المجدَ
فينا واجتبلْ
قهروا التّتارَ وأوجسوهم
خيفةً
بالسّيفِ والرّمحِ المهيبِ
وبالأسلْ
" ياعين جالوت
اشهدي في جندنا " إلى آخر الأبيات نرى كيف يصور الشاعر انتصارات وطنه Boasting home victories ويُشهد التاريخَ على تلك الأحداث وما حققته مصر العظيمة
من انتصاراتٍ ضد صنفٍ شاذٍ من البشر في سلوكياته الوحشية، وبكل فخرٍ يباهي الشاعر بجيوش
وطنه في قوله " قتلوا التّتارَ وأجسوهم
خيفةً"، لقد أثبت الشاعر أنّ التعبير لديه هو أساس الشعر لا المحاكاة،
فالتقى مع الرومانطيقيين في رؤيتهم في تلقائية الشعر وتدفقه.
ويختتم الشاعر موسوعته
الأدبية الشعرية التاريخية الراقية بأبياتٍ تتفجر بالإيمان بعد أن تفجرت منها ينابيع
العلم والمعرفة البليغة؛ حتى جارت المعلقات فزادت عليها دون أن أبالغ في هذا مطلقًا،
وهاهي أبياته تُغرّد بما في جعبته الفيّاضة بخاتمة القصيدة اخترت للقارئ الكريم منها
مقاطع تأثرتُ بها كثيرًا وأنا أبحر في عالم هذا الشاعر الفذ وأسطورة زمانه؛ هذا البحر
الزاخر الفياض بالنفائس، وسأترك للقارئ الكريم حرية التعقيب على خطاب الشاعر له، من
خلال أبياته الأخيرة هذه، والتي خصّ بها مخاطبة القارئ الكريم، معتذرًا له عن أيّ سهو،ٍ
أو غفلة، وردتٍ في موسوعته هذه، علمًا بأنّي من خلال أكثر من ثلاثة أشهر عشتها مع سفر
موسوعته المباركة هذه ما رأيت إلاّ ما يُذهل
الفكر من قوة التعبير، وسلاسة الاسلوب، وعذوبة وانطلاقة الحرف لديه، وبراعة المكنة
الشعرية، واللغوية، وجمال الإيقاع، والذي تميزت به موسوعته الشعرية هذه وبكلّ ما يملكه
شاعرٌ من حِرفيةٍ أدبية فائقة المنطلق.
موسوعةٌ ونظمتُها بأناملي
للّهِ ربّي من أقامَ
بها سلمْ
يا معشرَ الإسلامِ ألقي
بينكمْ
ألماسةَ الأشعارِ من
طيبِ الكلمْ
في كلِّ حرْفٍ قد تناثَرَ
دُرُّهَا
بالنورِ والإيمانِ مِعراجُ
القِيَمْ
مدَّتْ جذورَ الخيرِ
من خيرِ الورى
كي يستقيمَ بمدِّها
من يلتقمْ
فمضتْ على درْبِ المعارفِ
أحْرُفِي
ومدادُها درٌّ وياقوتٌ
نجمْ
بدأَتْ بذكْرِ اللهِ
مَدَّ وصالها
وبهِ تطيَّبَتِ الحروفُ
وتختتَمْ
دع ماتراهُ مُخالفًا
في أحرفي
للشرع واغنم بالنّفائسِ
والتَهِمْ
لو كان من خطأٍ، فمنّي
غفوةٌ
ولتصفحوا عنّي إذا جارَ
القلمْ
الخلاصة :
المتأمل في هذه الموسوعة
الشعرية الراقية، والتي حمل الشاعر فيها على عاتقه مهمة كتابة أهمّ أحداث التأريخ الإسلامي وبصورةٍ شعريةٍ بالغة الجودة الأدبية
تشدّ ذهن القارئ والمتلقّي، لن يرى ثغرة بياضٍ يمكن أن يُشار إليها، لقد حافظ الشاعر
بكلّ جدارةٍ على قوائم المواصفات الأدبية العريقة للشعر العربي الأصيل، وعلى عملية
إنضاج المعاني والمفردات بالبديعيات، والتي تميّزت بها موسوعته المباركة، ودون الاستطراد
في الحشو، أو المحاكاة الفارغة، بعيدًا كلّ البعد عن البدائيةٍ الفارغة، وعن الغوغائية
والتملّق، مخاطبًا فيها العقل لا سواه، منطلقًا بموسوعته نحو الأفق الواقعي للإنسان
المعاصر ومُذكّرًا له بماضيه وتاريخه الإسلامي المجيد، وضاربًا المثل الأعلى والقدوة
الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المتقين، وعارضًا ما قدمه الصحابة
الأجلاء رضوان الله عليهم من تضحياتٍ لحفظ الرسالة المحمدية"ص" .
وفي نهاية هذه التجليات
التحليلية المتواضعة في سفْر موسوعة الشاعر السيد الديداموني الأدبية المباركة، والتي
أقرّ على نفسي فيها بالتقصير فسبحان الله الكامل، أدعو القارئ الكريم للإبحار في روحانية هذا السِفر الأدبي وفي قصائده الثرية
المفعمة بالأصالة الشعرية العريقة، لكي يعيش مع شاعر الرّوحانية والعرفانية رحلته المباركة
هذه، فهو يذكرنا بشعر سلطان العاشقين ابن الفارض رضوان الله عليه، ولو التمسنا عين
الحقيقة لرأينا أنّ مصر قد أولدت سلطان العاشقين من جديدٍ في شخص شاعرنا السيد الديداموني
حفظه الله.
يُعدُّ المؤلف أنموذجًا
أدبيًا خلّاقًا تجاوز حداثة سنه، فهو يتمتع بالنظرة الثاقبة للمستقبل ، وتقف قدماه بثباتٍ لا يتزحزح، قويّ الإيمان والعزيمة،
صلب الإرادة، ومع ذلك فهو يمتلك روحًا تسمو باللطافة وحسن الخلق والفكاهة، ولهذه المواصفات
التي يتمتع بها المؤلف استطاع أن يخطط لحياته الأدبية ويرسم دربه لتغمر دواوينُهُ المكتبات
العربية، فلقد حقق في فترةٍ وجيزةٍ مالم يحققه شاعرٌ في مثل سنه، ولا يمكن للمطالع
والقارئ لقصائده إلاّ أن يشهد له شهادة حق .
وفي ختام جولتي المتواضعة
في تجليات الشاعر المبدع السيد الديداموني والتي قضيت معها أطيب أوقاتي رغم غزارة قصائدها،
لا أملك إلاّ أن أدعو له بالتوفيق الدائم، وأسأل الله تعالى بأن يتقبّل منه سفره المبارك هذا وسائر طيبات أعماله بأحسن القبول إنه الجواد
الكريم.
والحمد للّه ربّ العالمين
عدد ماخلق وذرأ وبرأ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه المتقين.
0 comments:
إرسال تعليق