ما إن تطأ قدماك شارع المعز لدين الله الفاطمي في وسط القاهرة بحي الحسين حتى ترى أناسا يتسوقون العطارة والأقمشة المميزة، وكذلك الذهب الذي أصبح يشهد إقبالا غير مسبوق في مصر سواء في الشراء أو البيع.
ذهبنا إلى حي الصاغة العتيق وحاراته الضيقة،
حيث تنتشر محلات الذهب التي توارثها الأبناء عن الأجداد.
توقفنا نستطلع آراء الناس فوجدنا بعضهم
يبيع الذهب والبعض الآخر يشتريه، وخاصة السبائك الذهبية التي تتوفر الآن بأوزان مختلفة،
والتي تبدأ من جرام واحد من الذهب، في ظل أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد.
أمام محل للذهب داخل أزقة حي الصاغة العتيق
بالحسين، وقف رجل أسمر ذو ملامح مصرية أصيلة مبتسما، بادرناه بالتحية ثم السؤال: لماذا
ارتفعت أسعار الذهب بكل هذا القدر؟
أجاب هاني غطاس، تاجر الذهب: "الأسعار
ارتفعت منذ شهور بسبب الإقبال الكبير سواء من الناس أو ممن يريدون الاستثمار في شراء
الذهب".
وقال غطاس إن الناس أكثر إقبالا على شراء
السبائك الآن، لأن المستهلك يبحث عن استثمار آمن يكون "زينة وخزينة" على
حد وصفه، بدون خسائر مستقبلية، فيلجأ المستهلك إلى السبائك التي لا تُحمّل بتكاليف
تصنيع كبيرة، لا عند الشراء ولا البيع.
في طريقنا إلى الدور الثالث في محل غطاس،
مررنا بالعديد من المشغولات الذهبية على اختلاف أشكالها وفنونها، وتقدمنا الرجل إلى
مكتبه قائلا إن لديه مصنعا لتصنيع الحلي الذهبية وبه ماكينات على أعلى مستوى.
وأضاف وهو يجلس على مكتبه: "شراء السبائك
قد يدمر الصناعة!! فسألته: أي صناعة؟ قال: صناعة الحلي الذهبية بأفكارها وجمالها".
وأكد غطاس أن أسعار الذهب التي قفزت قفزات
متتالية مرتبطة بالسعر العالمي لجرام الذهب، وبالطبع هو مقوم بالدولار.
سألت غطاس: "هل الذهب مقوم بسعر الدولار
في الأسواق الرسمية أم السوق السوداء؟"، فأشار إلى أن البنك لا يوفر الدولارات
لاستيراد خام الذهب من الخارج، ولذا يضطر المستورد لجمع الدولار من السوق السوداء لاستيراد
خام الذهب، وهذا ما يجعل تسعير الذهب بسعر الدولار في السوق الموازية أو "السوداء".
وأوضح أن الدولة ألغت رسوم تصدير كانت تحصلها
بنسبة واحد في المئة على سعر الجرام الواحد للذهب المُصنّع، وهو الأمر الذي قد يساهم
في تصدير المشغولات الذهبية إلى الخارج.
ويضيف أن كيلو الذهب المشغول الذي تصدره
مصر، نستورد بدلا منه كيلو من الذهب الخام، ثم نضيف تكلفة التصنيع على ذلك الذهب المصدر
للخارج بنحو ثلاثة دولارات.
خرجنا من شارع المعز التاريخي إلى مكان
آخر ليس ببعيد عن صاغة الحسين في وسط البلد بشارع عبد الخالق ثروت، حيث محلات
"الجواهرجية" القديمة، وعلى بعد خطوات من محل المجوهرات الذي التقى فيه الملك
فاروق بزوجته الثانية ناريمان أثناء اختيارها بعض المجوهرات قبل زفافهما، دلفنا إلى
محل قديم به بعض المشغولات الذهبية المتنوعة، ولكن دون زحام يذكر، فأصحابه هنا يعملون
على القطع الثمينة والمميزة.
قال يسري فتح الله، صاحب هذا المحل، إن
الحكومة سمحت بتصدير الذهب الخام إلى الخارج، وهناك بعض الشركات التي تسبك الذهب
"الكسر" أي الذهب المستعمل الذي يشتريه الصاغة من الزبائن، لتعيد هذه الشركات
سبك هذا الذهب وتدمغه بالعيارات المختلفة قبل أن تقوم بتصديره للخارج.
وقال فتح الله: "تصدير الذهب للخارج
كخام قلل من كمياته في الداخل"، مضيفا أنه ربما يأتي يوم "لا نجد فيه ذهبا
في مصر"، فضلا عن الأسعار العالمية التي قفزت بشكل كبير.
بادرته بالسؤال: "لكن لماذا ارتفع
الذهب في مصر، رغم انخفاض أسعاره على مستوى العالم؟"، فقال إن هذا "يحدث
لفترة وجيزة ثم يعود الذهب في مصر ليجبر هذه الهوة، ليماثل الأسعار العالمية".
عاد فتح الله بكرسيه للخلف حيث تقبع خزنتان
قديمتان للغاية تشيران إلى قدم المحل ذاته، ثم قال: "يجب أن تكون الأولوية لتصدير
المشغولات، فنحن نريد أن تعود الصناعة إلى أحضان من اخترعوها، فصناعة الذهب في مصر
منذ القدم. انظر إلى قلائد توت عنخ آمون وأنت تعرف من نحن".
ثم قال مستنكرا: "هل تعلم أن مجوهرات
الأسر الملكية المختلفة من أولاد محمد علي كانت صناعة مصرية خالصة! رغم أن الصناع كان
بعضهم طليان وأرمن ويونانيين لكن الصناعة مصرية".
كما أضاف أن التاج الملكي الذي ارتدته الملكة
ناريمان في زواجها من الملك فاروق كان صناعة مصرية خالصة، وتكلف أربعين ألف جنية مصري
في ذلك الحين.
ثم قفز شاب أنيق أثناء المناقشة ليضيف أن
تركيا "تصدر مشغولات ذهبية بمليارات الدولارات، وقد كنت في معرض في تركيا ورأيت
بعض الصاغة وقد اشترى أكثر من 200 كيلو مشغولات ذهبية، لكن الصناعة في مصر تموت".
عرفني الشاب بنفسه، وهو يمثل الجيل الرابع
للسيد فتح الله.
وقال كريم فتح الله: "إننا نحتاج إلى
التيسير في الجمارك للماكينات التي تصنع المشغولات الذهبية لإحياء هذه الصناعة. دبي،
على سبيل المثال، جعلت من المجوهرات سياحة من نوع خاص، عن طريق تقنين دخول وخروج المجوهرات
نظير رسوم بسيطة شجعت الناس على شراء الذهب من هناك".
سألته عن سبب تسعير الذهب في مصر بالدولار
في السوق الموازية، فقال: "الحكومة في طريقها لحل هذه المشكلة بتوفير الدولار.
فالذهب الخام يجب أن يأتي من الخارج للتصنيع، وتكمن الاستفادة للبلاد ولنا في تلك المشغولات
الذهبية وليس في الذهب الخام".
يذكر أن صادرات مصر من الذهب والحلي والأحجار
الكريمة زادت بنسبة 47 في المئة خلال الـ 10 أشهر الأولى من 2022، لتصل إلى نحو مليار
ونصف المليار دولار مقابل تسعمئة مليون دولار عن نفس الفترة من 2021، وفق تقرير لأحد
المجالس ذات الصلة في مصر.
وبينما نحن جلوس نتناقش، جاءت امرأة متوسطة
العمر ومعها صبي صغير، خلعت من أصبعها خاتما يبدو أنه خاتم زواج، وبصوت خفيض قالت شيئا
للعامل، فأخذ الخاتم ووضعه على حجر خاص ليختبر عياره، ثم قال لصاحب المحل أنه من عيار
21، ودمغته صحيحة.
ذهب العامل إلى الخزنة وأخرج عددا من الجنيهات
المصرية وأعطاه للسيدة التي بدا على ملامحها الحزن رغم الهدوء الذي تحاول أن تبديه.
أخذت السيدة الفاتورة وأمسكت بيد الصبي وذهبت دون أن تلتفت إلى أي من المشغولات الذهبية
بالمحل.
فعلق يسري فتح الله على هذا المشهد قائلا:
"الذهب يحمل ذكريات وأماني، لكن الحاجة قد تدفع الناس إلى البيع".
ويقول بعض الخبراء إن عملية التسعير الحالية
تعني أن كل جرام من الذهب في السوق المصرية أتى من خارج البلاد حتى يتم تبرير التسعير
بالدولار، وهذا أمر غير صحيح.
ولذلك يرى البعض أن عمليات التسعير التي
تتم في مصر، تتم بشكل عشوائي دون تنظيم يذكر، وهو الأمر الذي يشجع البعض على القفز
من سوق الذهب للسوق السوداء للعملات الأجنبية والعكس، لتحقيق مكاسب سريعة في وقت تعاني
فيه البلاد من أزمة اقتصادية طاحنة.
بينما يرى البعض الآخر أن عملية تسعير الذهب
ربما هي أحسن كثيرا من عمليات التسعير العشوائية التي تتم في السوق المصرية في سلع
كثيرة، والذهب بالنسبة لها يعتبر سوقا منضبطة رغم التذبذبات.
المصدر: bbc عربى
0 comments:
إرسال تعليق