الإنسان في هذه الحياة الدنيا الفانية معرض
كل وقت وحين لأزمات مادية ومشكلات اقتصادية كثيرة ومتنوعة، وفي القرآن الكريم آيات
كثيرة تتناول هذه القضية بالعرض والتحليل والعلاج، بدءًا من الإقرار بأن الإنسان في
الدنيا مُبتلًى بأنه خلق في (الكبَد) الذي هو تعب بسبب أزمات ومشكلات؛ مصداقًا لقول
الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [سورة البلد:4]،أي في نصب،
قال الحسن: يكابد الشكر على السّرّاء والصبر على الضّرّاء، ولا يخلو من أحدهما، ويكابد
مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة.. ومرورًا بذكر هذا التعب وهذه المشكلات وهذه الأزمات
بتسميات وإطلاقات عديدة ومتنوعة في آيات كثيرة؛ فقد سميت الأزمات والمشكلات بالفتنة
في قوله عز وجل:﴿أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَوَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[العنكبوت1-3]، وفي قوله تعالى:
﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[الأنبياء36]،
وسُمِّيت بالابتلاء في قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌالَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[سورة الملك1-2]، وسميت بالمصيبة في
قوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَأُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ سورة البقرة:[155- 157]... وغير ذلك
من الإطلاقات القرآنية الدالة على رؤية خاصة تجاه المشاكل والأزمات، والدالة على اهتمام
خاص بها في ظلال الإسلام.
ونصوص الإسلام من الآيات القرآنية الكريمة
والأحاديث النبوية الشريفة تقدم مجموعة من الحلول الناجعة والوسائل الشافية الناصعة
في مواجهة هذه الأزمات والمشكلات: حلول قلبية وعقلية وسلوكية إيجابية فاعلة، بحيث يستفيد
العبد من تجاربه - الناجحة والمخفقة على السواء - فيصهر ركام خبراته بالتفكير المنهجي
والنقد البنَّاء، ثم يتلقف بعد ذلك الدروس الصالحة والوسائل المفيدة الشافية الواقية،
فيشيّد بها بناءً علميًّا ومنهجًا سلوكيًّا تتراكم أجزاؤه عبر بحثه وتدبره وعبر خبراته
الحياتية المُتتابعة معها، فيثبت في مواجهة كل عقبة وكل مشكلة، ويتعامل معها تعاملاً
علميًّا وعمَليًّا راقيًا وساميًا، وصالحًا ومصلحًا له وللناس أجمعين، وذلك ما اصطُلح
على تسميته عند علماء الإدارة بـــــــ "علم إدارة الأزمات.
ونقف في هذا المقال مع جملة وسائل روحية
وعَمَلِية تُعين الإنسان المسلم على مواجهة تلك الأزمات، على النحو الآتي:
المواجهة العقدية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والوسيلة الأولى لمواجهة المشكلات والأزمات
في ظلال تعاليم الإسلام لابد أن تكون عَقَدِيَّة في المقام الأول أي أنها قلبية وروحية،
بحيث لا يكون العبد جزِعًا هلوعًا معترضًا شكَّاء سلبيًّا، لاطمًا الخدودَ، شاقًّا
الجُيوبَ، داعيًا بدعاوى الجاهلية، فيصل إلى مرحلة اليأس والقنوط! التي تؤدي إلى حالة
شيطانية مُدمِّرة، نسأل الله أن يعيذ المسلمين والمسلمات منها جميعًا. فعلى المسلم
أن يؤمن بأن كل المشاكل اختبار من الله تعالى، وأن النفع والضرر من الله أولاً، وأن
يسترجع ويصبر ويحتسب لحظة وقوع الصدمة ثم يركن إلى الله – تعالى -رَجاءَ أن يُخلف الله
عليه ويعوِّضَه عن مصابه... قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا
كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
[سورة الأنعام]، وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ
اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ
مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون﴾
[سورة الزمر]، وقال رسولنا الخاتم -صلى الله عليه وسلم-: "وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ
لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ
قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ
يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ
وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" [حديث صحيح، رواه الترمذي عن ابن عباس، رضي الله عنهما].
..؛ فالخير والشر من الله ، والنفع والضر من الله؛ فهو المعطي وهو المانع، وهو النافع
وهو الضار عز وجل..إن الله ربنا - سبحانه وتعالى- هو المالك المدبر ، المعطي المانع
، الضار النافع ، الخافض الرافع ، المعز المذل؛ فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار
أو النافع أو المعز أو المذل غير الله- تعالى- فقد أشرك به.
وإن ركن الإيمانُ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه
يَجعَلُ المؤمِنَ في رِضًا كامِلٍ على كُلِّ أَحوالِه، بخِلافِ غَيرِ المُؤمِنِ الَّذي
يَكونُ في سَخَطٍ دائِمٍ عندَ وُقوعِ ضَررٍ عليه، وإذا ما حاز نِعمةً مِن اللهِ -عزَّ
وجلَّ- انشَغَلَ بها عن طاعتِه، فضْلًا عن صَرفِها في مَعصيةٍ، ولهذا كان تعجب النبي
-صلى الله عليه وسلم- من حال العبد المؤمن في هذه الدنيا في حديثه البليغ الدال:
"عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ
إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ
ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له"[في الصحيح للإمام مسلم].
ومن ثم نجد في السنة النبوية أذكارا حامية
واقية للعبد الذاكر، فعن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ
فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لا يَضُرُّ
مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ"[حديث صحيح في كتب السنن]، وذلك الذكر
النبوي الشريف -بلا شك- سلاح لساني عظيم لكل عبد مسلم في مواجهة مشاكل الحياة ومتاهاتها
.
وسائل عِلْمية و عَمَلِية في قصة سيدنا
يوسف، عليه السلام:
----------------''''
عندما نتدبر سورة يوسف في القرآن الكريم
نجد أن سيدنا يوسف-عليه السلام- قد طبَّق علم (إدارة الأزمات) بطريقة دقيقة عميقة حين
مكَّن الله-تعالى- له في أرض مصرنا المحروسة؛ فقد أخذ يواجه حالة الجفاف والقحط التي
تحيط بالعالم حوله بتخطيط علمي جماعي مُنظَّم، عن طريق خطابه النبويِّ الموجَز والمُلهِم،
والذي فيه خطة مستقبلية عمَلِية، مكوَّنة من عدة أساليب اقتصادية طيبة، نصه: ﴿قالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ
قَلِيلاً مِمَّا تَاكُلُونَ* ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَاكُلْنَ
ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾[يوسف47-49]...
وهذا التخطيط الاقتصادي اليُوسُفيُّ القرآنيُّ
الكريم، والدقيق والمحكم، يشتمل على وسائل ثلاث لمواجهة هذه الأزمة الاقتصادية العالمية،
وقد لُخِّصتْ في آية قرآنية كريمة واحدة، وفُسِّرت بالآيتين بعدها، على النهج الآتي:
الوسيلة الأولى: الإنتاج الزراعي المنظم
والمستمر:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاريب في أن الزراعة أحد الحلول الناجعة
في مواجهة الأزمات الاقتصادية في كل بلد ومجتمع؛ لأن الزراعة-كما يقرر ويدعو كبار علماء
الزراعة والاقتصاد في وطننا- هي قاطرة كل تنمية، وهي مصدر عز كل بلد ومجدها، وأساس
أمنها واستقرارها، وعلى الزراعة ومنها تقوم الصناعات، وتقام التجارات، وفي الزراعة
أكلنا وشربنا ولبسنا؛ فإذا أردنا تخطي العثرات والأزمات وسد الفجوات، وترخيص الأسعار
فعلينا النهوض بقطاع الزراعة نهوضًا كبيرًا مستمرًّا متطورًا. ولعل هذا ماجعل سيدنا
يوسف-عليه السلام-الزراعة وتنظيمها هدفه الأوّل، وخاصّةً بعد علمه بأنّ السنين القادمة
هي سنوات الوَفْرة، والتي تليها هي سنوات المجاعة والقحط، فدعا الناس في زمنه إلى الاهتمام
الزراعة وزيادة الإنتاج الزراعي، وذلك في هذه الجملة الخبرية على لسانه: ﴿تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً﴾، أي تزرعون هذه السبع السنين، كما كنتم تزرعون سائر السنين
قبلها، على عادتكم فيما مضى، و(تَزْرَعُونَ)-كما يقول الإمام الطبري- خبر في معنى الأمر،
...وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به، فيجعل كأنه يوجد،
فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾، و(دَأَباً)
مصدر يعني -في الأصل- إدامة الحركة واستمرارها، كما أنّها بمعنى العادة المستمرة، فيكون
معنى هذه الجملة اليوسفية القرآنية: عليكم أن تزرعوا تبعًا لعادتكم المستمرة في مصر،
ولكن ينبغي أن تقتصدوا في صرف إنتاجكم.. ويحتمل أن يكون المراد منه أن تزرعوا بجد وجهد
أكثر فأكثر؛ لأنّ دأبًا ودؤوبًا بمعنى الجدّ والتعب أيضًا، أي اعملوا حتّى تتعبوا.
الوسيلة الثانية:التخزين العلمي للمحاصيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما طلب سيدنا يوسف-عليه السلام- من أهل
مصر أن يُخزِّنوا المحاصيل الزراعية تخزينًا علميًّا دقيقًا، يتمثل في ترك المنتجات
الزراعية في سنابلها؛ لئلاّ تفسد بسرعة وليكون حفظها إلى سبع سنوات ممكنًا؛ فيستفاد
منها أثناء الجفاف والشدّة، وبعد انتهاء السنوات السبع.. وبالطبع فمن المعروف لديه-عليه
السلام-أنّ سنةً ستأتي بعد هذه السنوات مليئة بالخيرات والأمطار، فلابدّ من التفكير
في البَذْر في تلك السنة، وأن الاحتفاظ بشيء ممّا يُخزَّن ضروري للمتابعة في مزيد من
الإنتاج الزراعي، حيث يحلّ بهم القحط لسبع سنين متوالية فلا أمطار ولا زراعة كافية،
فعليهم بالاستفادة ممّا جمَّعوا في سنيّ الرخاء، قال الله تعالى على لسان سيدنا يوسف
-عليه السلام-: ﴿ثمّ يأتي بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ﴾....
وقد جعل سيدنا يوسف-عليه السلام- هذه الوسيلة
عقب وسيلة الزراعة مباشرة، حيث عبر بحرف العطف الفاء الذي يفيد الترتيب والتعقيب، وذلك
في قوله: ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾. قال الإمام الطبري: وهذا مشورة
أشار بها نبي الله- صلى الله عليه وسلم- على القوم، ورأيٌ رآه لهم صلاحًا، يأمرهم باستبقاء
طعامهم...
الوسيلة الثالثة: الاستهلاك الرشيد والإنفاق
المعتدل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في زمن الشدائد والأزمات والمشاكل المادية
لابد من الاستهلاك العاقل الرشيد، ومن الإنفاق المعتدل المنضبط، مصداقًا لقول الله
تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾
[النساء:5]، يقول الإمام الطبري: ينهى الله -تعالى- عن تمكين السفهاء من التصرف في
الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا، أي: تقوم بها معايشُهم من التجارات وغيرها فينبغي للعبد المؤمن أن يعرف مصدر كل ماله ومخرجه،
وأن يعمل على تنميته واستثماره بكل وسيلة شرعية وحلال، وألا يعرضه للنقصان أو الضياع
أو الإتلاف! مصداقًا لقول رسولنا-صلى الله عليه وسلم- لسيدنا عمرو بن العاص-رضي الله
عنه-:" نِعْمَ المالُ الصالِحِ للمَرْءِ الصالِحِ"[أخرجه البخاري في الأدب
المفرد]، ووصف المال والإنسان بالصلاح هنا يعني صالح المال مصدرًا وإنفاقًا، وصلاح
صاحبه في طريقة الحصول على المال وطريقة إنفاقه أي: نِعْمَ المالُ الحَلالُ للرَّجُلِ
الذي يُنفِقُه في حاجَتِه ثم في ذَوي رَحِمِه وأقارِبِه الفُقَراءِ ثم في أعْمالِ البِرّ،
وكل عمل تطوعي يعود على الوطن والمواطنين بالنفعِ والخير والفائدة . .
وهذا ما دعا إليه سيدنا يوسف -عليه السلام-
الناس في زمنه، دعاهم إلى عدم الإسراف في استعمال المنتجات الزراعية وتحصين الحبوب
وخزنها وحفظها؛ للاستفادة منها في أيام القحط والشدّة؛ فعليهم أن يحذروا من الاستهلاك
السفيه للطعام والخيرات، وذلك في هذين الاستثناءين البليغين الدالَّينِ: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً
مِمَّا تَاكُلُونَ﴾، و﴿وإِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾، والتحصين هنا هو الادخار
والتخزين والحفظ، فإنهم إذا واظبوا على الالتزام بهذه الخطّة المحكمة فإنه لا خطر يهدّدهم،
حيث سيأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس بأن يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا
فحسب، بل وفيه رفاهية تتمثل في أنهم يعصرون المحاصيل لاستخراج الدهن والفاكهة لشراب
عصيرها؛ فمن المعروف من سنن الله -تعالى- في هذه الحياة الدنيا أنه تكون عقب كل مِحنةٍ
منحةٌ، وعقب كلِّ ضراء تكون السراءُ، وعقب كلِّ قحط يكون الرخاءُ، بعون الله ومشيئته
وقدره عز وجل.
الوسيلة الرابعة: الإيثار وقت الأزمات:
التعاون الجماعي على البر والتقوى من مقاصد
الإسلام ومبادئه الكلية الجامعة؛ وفي السيرة النبوية العطرة نجد أسلوب الإيثار موجودًا
منذ حادث الهجرة النبوية المباركة، حيث العطاء الكامل من سيدنا أبي بكر الصديق وأسرته،
رضي الله عنهم أجمعين، والعطاء الكامل من أهل المدينة من الأنصار، الذين وصفهم الله
تعالى وأثنى عليهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر:9]، وفي السنة النبوية الشريفة
نجد تقريرًا لهذه الوسيلة الرابعة الناجعة المهمة في مواجهة المشاكل الاقتصادية وحلها،
وتتمثل في المُواساةُ والتَّكافُلُ بيْن النَّاسِ عِندَ الأَزماتِ، ولقدْ تَميَّزَ
بِها الأَشعريُّون، وهمْ قَبيلَةٌ مِن أَهلِ اليمَنِ، ومنها الصَّحابيُّ أبو مُوسى
الأشْعريُّ، رَضيَ اللهُ عنهم؛ فقد مدَحَهُم النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذه
الصِّفةِ- حيثُ قال: "إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ
طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ، جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ
اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ، بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ"[صحيح
البخاري]؛ ففي الوقت الذي يفنى فيه الزادُ والطعام أو يقلّ، كانوا يجمَعُون القليلَ
الَّذي بَقيَ عندَ بَعضِه في ثَوبٍ واحِدٍ، ثمَّ يقتَسَمُونه بيْنَهُم في إناءٍ واحِدٍ
بالسَّويَّةِ، بأن يَأخُذُ كلُّ فَرْدٍ مِثلَ أخيهِ، وفي هذا يَتجلَّى الإيثارُ والمُواساةُ؛
لأنَّ بَعضَ هؤلاء لَيس عندَه شَيءٌ، وبَعضُهم عندَه قَليلٌ. ثمَّ شرفهم النبي -صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ- بقوله: «فهُمْ مِنِّي وأنا مِنهُم»، أي-كما يقول شراح الحديث-:
مُتَّصِلُونَ بِي في الأَخلاقِ والمُواساةِ فيما بيْنَهم، وكأنَّه يقولُ: هذا العمَلُ
مِن عَمَلي، وهمْ على طَريقَتي وسُنَّتي وهَدْيِي، وفي هذا تَنْبيهٌ على مَكارمِ أخلاقِهم،
للحثِّ على التَّأسِّي بهم والاقتداءِ بأَفعالِهم في كل زمان ومكان.
فاللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر،
واللهم وفِّقْنا لليُسرى وجنِّبْنا العُسرَى، واللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا
بفضلك عمن سواك، ونسألك اللهمَّ الهُدى والتُّقَى والعفافَ والغِنى...
**كاتب المقال
أستاذ ورئيس قسم الادب والنقد بكلية
الدراسات الاسلامية والعربية للبنات بمدينة
السادات
وعضو اللجنة العلمية الدائمة للأساتذة
والاساتذة المساعدين بجامعة الازهر.
0 comments:
إرسال تعليق