"فلسطين الشعب" غير فلسطين الواجهات الأمامية والفصائل ، أخبار الأخيرة تبعث على الانقباض وعدم الارتياح ، وتكاد توحى بأن القضية ماتت ، بينما "فلسطين الشعب" تقاوم ببسالة هائلة ، وفى حال اشتباك يومى جسورمع الكيان المحتل ، وفى كامل الوطن من النهر إلى البحر ، من القدس إلى الخان الأحمر ونابلس وجنين وغزة والنقب ، والحركة دائبة ، الشهداء يصعدون ، والأسرى يزفون ، والأمهات ملح الأرض وأشجار السنديان يلدن الفدائيين ، ويرتلن الصلوات والأغنيات ، ويرابطن فى الساحات والمساجد والكنائس ، والكل يثق فى وعد الله الآتى حتما بتحرير كل فلسطين .
كل يوم ملحمة فى فلسطين ، يصنعها الناس
العاديون جدا ، ومن دون تنظير ولا تأطير ، مرابطات المسجد الأقصى يفزعن العدو بالتكبيرات
، وشيوخ البدو فى "النقب" يستميتون دفاعا عن قراهم ، وشباب المقاومة يديرون
عملياتهم التلقائية الجريئة ، ويردون ويصيبون ما تيسر من عسكر الاحتلال وقطعان المستوطنين
، والعدو يجن جنونه ، ويشهر "نفتالى بينيت" ـ رئيس حكومة إسرائيل ـ عجزه
عن مواجهة بدو النقب ، برغم استخدام كل الأسلحة من خراطيم المياه "العادمة"
إلى قنابل الغاز إلى الطائرات المسيرة وحتى الرصاص الحى ، ومن دون أن يرفع أهل النقب
راية بيضاء ، بل تزحف تجمعاتهم ومظاهراتهم هادرة إلى مقر حكومة العدو ، وتجتمع على
صيحاتها لجان المتابعة العربية داخل الأراضى المحتلة عام 1948 ، وهى الحالة نفسها فى
القدس والضفة الغربية ، وفى صمود الناس أمام الاستيطان وهدم المنازل والأحياء العربية
، ولا تخفت المقاومة أبدا ، برغم القمع والقتل والاعتقال ، ففى أول شهر من العام الجارى
، أسرت "إسرائيل" مئات من الأطفال والشباب والشابات والمجاهدين المضافين
إلى أسرى عام 2021 الذى سبق ، وقد بلغ عددهم
ما يزيد على ثمانية آلاف فلسطينى وفلسطينية ، كان بينهم 1300 قاصرا وقاصرة ،
وما أن يفرج عن بعضهم بعد الترويع ، حتى يعودوا إلى الاشتباك من جديد ، على نحو ما
فعل مثلا الشهيد المقدسى "فادى أبو شخيدم" ، الذى أطلق الرصاص على عسكرى
إسرائيلى فأصابه ، وعلى المستوطن "إلياهو كاى" فقتله ، وهدم العدو منزل أسرته
انتقاما ، ومن دون أن يجدى ذلك قهرا ، أو يطفئ لهيب المقاومة ، فقوافل "خنساوات
فلسطين" تواصل طريقها إلى نهايته ، وقبل أيام ، توفيت فقيدة فلسطين "أم محمد
عز الدين" من بلدة "عرابة" فى "جنين" ، وهى أم وجدة لعشرات
الأسرى فى سجون الاحتلال ، بينهم سبعة من كبار الأسرى المحررين ، حرم بعضهم من المشاركة
فى جنازتها بسبب الإبعاد إلى غزة ، ومثل "أم محمد" كثيرات وبالمئات ، ففى
سجون الاحتلال الثلاثة والعشرون ، يقبع ما يزيد اليوم على خمسة آلاف أسير فلسطينى ،
بينهم 700 أسير فى حالات مرضية حرجة ، لم تمنعهم من المشاركة فى إضرابات متصلة متنوعة
، حققت انتصارات كسرت جبروت العدو ، كما حدث فى حالة الأسير "هشام أبو هواش"
الذى أضرب عن الطعام لمدة 141 يوما متتابعة ، وأرغم الاحتلال على التسليم بالإفراج
عنه ، وكما يحدث اليوم فى حالة الأسير المصاب بالسرطان "ناصر أبو حميد" ،
الذى تواصل الحركة الأسيرة حملاتها لنحريره ، ومن دون أن تفتر همة الأسرى والأسيرات
، وقد بلغ عددهم منذ بداية احتلال فلسطين 800 ألفا ، منهم من قضى نحبه ، ومن ينتظر
ولا يبدل ويثبت على وعد وعهد الحرية ، لا يخيفهم كما لايخيف أحرار شعبهم ، الباسل المبدع
، أن موازين القوة العسكرية فى صالح الاحتلال ، وأن حكومات أمتهم فى غالبها تسند عدوهم بالتطبيع الفاجر ، فصبوات
الروح المقاومة أقدر على تعديل الموازين المختلة ، ولا يوم يمر بدون إنهاك قوة العدو
، وإبداع الفلسطينيين لأساليب جديدة ، من حفر الأنفاق تحت السجون بالملاعق ، وإلى التصنيع
الذاتى لتكنولوجيا الصواريخ والطائرات المسيرة ، والثبات المذهل بالصدور العارية كما
يجرى فى "القدس" و"النقب" ، وإرضاع الأمهات لأطفالهم بحليب التحدى
، والثقة الكاملة بأن يوما سيأتى ، تتحرر فيه كل فلسطين ، ولو زحفوا شبرا فشبر ، وجيلا
بعد جيل .
وفى مقابل حيوية الشعب الفلسطينى ،
الذى يصنع الحدث ، ويفرش الأرض بسيل الدماء الزكية ، بينما الواجهات الفلسطينية فى
مكان آخر تماما ، توالى حواراتها العقيمة ، تحت عناوين صارت مزمنة كمصالحات الفصائل
وغيرها ، وتذهب إلى "الجزائر" بعد مقابلات "القاهرة" ، ومن دون
أن تصل إلى جديد يذكر، فالهوة على حالها بين "فتح" و"حماس" منذ
الاحتراب الدموى أواسط 2007 ، وبين سلطتى رام الله وغزة ، وكأننا بصدد كيانين عدوين
، وليست فصائل تنتسب إلى شعب واحد ، وما إن يتم اتفاق على بيان مشترك ، حتى يجرى نسخه
عمليا وبالجملة ، واستئناف الدوران فى حلقات مفرغة ، لا تنتهى أبدا إلى غاية تجديد
منظمة التحرير الفلسطينية ، ولا إلى برنامج تحرير متوافق عليه ، فلا تزال الأوهام تفرض
قانونها ، ودعاوى الذهاب لمفاوضات تتواصل ، برغم أن كلمة كيان الاحتلال قاطعة ، وحكومة
"بينيت" تؤكد عدم اعترافها حتى باتفاقات "أوسلو" سيئة الصيت ،
و"بينيت" نفسه يرفض أى مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين المعنيين ، ويعتبر
أن إقامة دولة فلسطينية ، حتى لو كانت منزوعة السلاح بمثابة انتحار لإسرائيل ، وهو
كصهيونى متطرف ، لا يؤمن بغير مبدأ "إسرائيل الكبرى" ، والاستيطان اليهودى
الكامل للقدس والضفة الغربية ، ولا مانع عنده من اتصالات لا مفاوضات مع سلطة رام الله
، يحصر غايتها فى تقليص الصراع لا حله ، وحث عمليات "التنسيق الأمنى" فى
الضفة الغربية ، وتجنيد الطرف الفلسطينى فى خدمة مشروعه الاستيطانى الإحلالى ، بينما
لا تجد عند الواجهات الفلسطينية جديدا ، سوى التنادى إلى اجتماعات تعقب الاجتماعات
، ودعوة ما يسمى "المجتمع الدولى" إلى إدانة الاحتلال ، والاستغاثة بعطف
موهوم من إدارة "جو بايدن" ، وتكرار الاتصالات الملحة مع بايدن ، أو مع وزير
خارجيته الصهيونى "أنتونى بلينكن" ، والشكوى إليه من توحش الاستيطان وهدم
بيوت الفلسطينيين ، ومن تباطؤ واشنطن فى إعادة افتتاح قنصلية اتصال مع الفلسطينيين
فى القدس ، فيما تتلاعب واشنطن بأعصاب المسئولين فى الواجهات الفلسطينية الرسمية ،
ولا تنفذ عمليا سوى رغبات الكيان الإسرائيلى ، الذى لا يريد أبدا عودة قنصلية أمريكية
للفلسطينيين فى القدس ، ويعتبر إقامتها مخالفة صريحة لاعتراف واشنطن بالقدس الموحدة
كعاصمة أبدية لإسرائيل ، وهو القرار الذى اتخذه الرئيس الأمريكى السابق "دونالد
ترامب" ، ولا يجرؤ خلفه على شطبه ، تماما كما يمتنع بايدن عن إعادة فتح ممثلية
منظمة التحرير فى واشنطن ، ويقترح على الرئيس الفلسطينى "محمود عباس" حلا
هزليا ، وتعيين مستشار قانونى للمنظمة فى واشنطن بدلا من إعادة فتح السفارة ، ثم يذهب
إلى ما هو أنكى ، ويدعو السلطة الفلسطينية لإيقاف رواتب الأسرى الفلسطينيين ، مع استمرار
التظاهر بدعم واشنطن لما يسمى "حل الدولتين" ، والمعنى ظاهر ، فلا جديد عند
"واشنطن بايدن" مختلف عن "واشنطن ترامب" ، ولا وقت عند الإدارة
الأمريكية الحالية لاهتمام بمشاغل الفلسطينيين الرسميين ، فمشاكلها الداخلية والدولية
بالكوم ولها أولوية مطلقة ، بينما الإدارة الفلسطينية لا تفعل غير اجترار ما فات ،
والتعويل على اتفاقات "أوسلو" التى شبعت موتا ، ويتنصل منها رئيس الوزراء
الإسرائيلى بصورة كاملة ، ويعد بعدم التفاوض حول إقامة دولة فلسطينية طوال فترة رئاسته
للوزراء الممتدة نظريا إلى أغسطس عام 2023 ، ثم عرقلة أية مساعى من شريكه ووريثه
"يائير لابيد" لتجديد التفاوض مع الفلسطينيين الرسميين ، والتعهد بالانسحاب
فورا من الحكومة وإسقاطها إن حدث شئ من ذلك ، خصوصا أن الحكومة لها أغلبية صوت واحد
فى الكنيست ، و"بينيت" لديه سبعة أصوات ممثلة لحزبه "البيت اليهودى"
، وهو ما يعنى ببساطة ووضوح ، أنه لا فرصة لظهور طرف إسرائيلى رسمى مستعد لمفاوضة الفلسطينيين
سياسيا حتى نهاية العمر الافتراضى للحكومة الإسرائيلية الحالية بنهاية عام 2025 ، أى
إلى وقت مرور 32 سنة على توقيع إتفاقية "أوسلو" ، جرى خلالها تفاوض متقطع
على مدى عشرين سنة ، لم يحرر شبر أرض ، بينما جرى إجبار كيان الاحتلال على الجلاء عن
غزة ، ومن طرف واحد ، وبقوة المقاومة والانتفاضة الفلسطينية الثانية وحدها .
والمفارقة الظاهرة فى المحصلة ، أن
حركة مقاومة الشعب الفلسطينى تزدهر وتتطور ، وبمبادرات شعبية باهرة تلقائية غالبا ،
بينما حركة الفصائل والواجهات الرسمية المتنازعة تمضى فى الاتجاه المعاكس غالبا ، وقد
صار التناقض بين الحالتين مزمنا ، ولا حل له ولا تسوية منظورة ، بغير ترك الأوهام والالتحاق
بالأحلام ، والخروج نهائيا من متاهات "أوسلو" وما تلاها ، وربما حل السلطة
الفلسطينية ذاتها ، وتجديد شباب القيادة فى منظمة التحرير الفلسطينية ، وجعلها عاصمة
قائدة لمقاومة كل الشعب الفلسطينى .
*كاتب المقال
مفكر وكاتب صحفى ومحلل سياسى مصرى
رئيس تحرير جريدة
صوت الأمة المصرية
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق