شوقي
كريم حسن في روايته الاخيرة ( نهر الرمان ) الصادرة في مطلع العام الجاري عن داري
العراب في دمشق والصحيفة العربية في بغداد ، مثلت نوعا من السيرة الذاتية عن الحب والوجع وهو ينظر إلى ايامه الماضية التي ولت ( بعين الطائر ) في لحظة فاصلة بالتماس مع الموت ، وهو بين يدي
جراح ماهر ، يحاول إزالة تكلسات الزمن التي سدت مجاري دوران الدم في شرايينه
المعطوبة ، ليخرج من تلك التجربة بهذه الرواية .
/
كل ما يجري هنا يتخذ طابعا غرائبيا /
١_
العنوان
ابتداءا
لا اتفق معك كليا في عنوان روايتك الاخيرة الفرعي ( تجربة موت ) و هي الرواية التي
ادهشتني حقا ، ومثار دهشتي كان لسببين ، الاول يقع على عاتقي لانني لم اقرا لك
رواية من قبل وهذا مؤشر خلل في صداقتي معك التي امتدت لاكثر من أربعين عاما مضت ،
والثاني لان لغة الرواية مختلفة كليا لاسباب متعددة لعل في مقدمتها شعرية اللغة
العالية ، واستدعائك لتجاربك الطويلة في المسرح تمثيلا وتاليفا واخراجا ، فلم تكن
الرواية تجربة موت اطلاقا بل هي تجربة حياة بالتماس مع لحظة موت محتملة ليس الا ،
جعلتك تستعيد ماضيك منذ الخطوات الاولى وصولا لتلك اللحظة الفاصلة ، التي جعلتك
تاسس لما بعدها بتدوين ( نهر الرمان ) التي حولتها لخليط من الغرائبية التي اجدتها
تماما ، الحياة التي مازالت تضج فيك وانت على أعتاب التجربة المجهولة التي ستخضع لها ، لكنك كنت
واثقا من عبور محنتها بدلالة كتابتها بسبعة أبواب
، وهو الرقم الذي يرمز للحظ نفسيا ويمثل ( البحث عن المعرفة والنمو الروحي ) فعمدت الى منح الروح بعدا ماديا مع القلب
والجسد الذين اشتركا معها في محاورات طويلة .
في
بلاد تصنع اباطرة المال من العدم ، الاباطرة الذين يسلبون حيوات الناس بتلذذ عجيب
، وبطرائق لم تحصل حتى في قوانين الغاب ، تكابد وتكافح للتشبث بالحياة ، انت
الواهن الواقف على أبواب الموت ، الموت ذلك الغياب السديمي المجهول ، لا تملك سوى
سيل من ذكريات حياتك التي تمر عليك سراعا لتكتظ براسك المليء بالأسئلة ويتشابك كل
شيء دفعة واحدة ، وانت تحت رحمة الجراح ومبضعه الذي يجيد استخدامه ، ربما كان
تعاطف معك للوهلة الاولى ، لكنك بالمحصلة النهائية لا تعني له سوى رقما يضاف الى
سجله في حالتي النجاح والفشل ، في هذه اللحظة بالذات والتي تعيها جيدا تنساب
ذكرياتك هادرة كانبجاس دمك حين يشطر مبضعه صدرك ، كما شطر آلاف الأجساد من قبلك ،
تنساب ذكرياتك كسيل هادر من الهذيانات
التي تبدو للوهلة الاولى وكانها عشوائية وغير منتظمة بفعل تماسك المباشر مع الموت
وانت تتعامل معه بوعيك وحياتك التي لم تكن سوى نوعا من الكفاح الدامي مع الازمان
والسلطات ، هي حرب طويلة كنت تقاوم فيها ما استطعت ، لعلك استسلمت في باديء الامر وانت تكتب / لم ليلك الى وحشة وجودك المنحاز الى الرحيل / او
هكذا ظننت من خلال الجمع المراهن على موتك كما تفترض .
٢_التمرد
/
انصت الي أيها الغارق بالظلام حقيقتك لا يعرفها سواك وعيون طفولتك ممتلئة بالرحيل /
شخصيا
لم ار ايا من أجدادي ، لكنك تبوح بان جديد كانا حارسا تمردك الازلي
منذ طفولتك ، فهما يمثلان الحاضنة الرخوة بالضد من تسلط الاب الصارم ولهذا بقيا
معك في رحلتك الطويلة محاولا جعلهما السبب الرئيسي لذلك التمرد لتلقي عليها دون
وعي ذنب تمردك ، وهو الذي تحاول تامله من
هذا البعد الزمني ، فتحاول التملص منه من
خلال تقمص شخصية الاب الصارمة في لحظات عديدة وهذا ما يمثل نوعا من جلد الذات .
٣_الحرب
/
قلت لأمي _ ما الحرب ؟
فاشارت
الى دشداشتها الكودري السوداء ، وشيلتها الفاحمة كالليل ، ولواعج فؤادها المستعرة /
نعم
الحرب هي حزن الأمهات الازلي الذي يرافقهن حتى الممات ، انه يتناسل في ذواتهن حتى
يرسم خطوطه الغائرة في الوجوه النحيلة والعيون التي تجحظ وتفرغ من دمغها ، وهو
يتحول الى انين في ليلهن الموحش الابدي ، ليتحول فيما بعد الى إرث متداول جيل بعد
جيل ، ومع ان حزن الأمهات لا يختلف من
ام لأخرى ، لكنني أجزم بان حزن الجنوبيات مختلف تماما
لاسباب لا تخفى على احد ، هو حزن الانتظارات الطويلة التي يمتد ظلام لياليها الى
الارواح ، انتظار الأزواج والأبناء والاخوة الذين كان قدرهم ان يكونوا حطبا للحروب
التي لا تنتهي ، لكان تلك الحروب قدرا لا يمكن الفكاك منه ، وها انت في تلك اللحظة
الفاصلة ، تبحث عن ( فطيم وحيلي ) التي تحولت إلى كل النساء في لحظتك الفاصلة
لانها المراة التي لايمكن تكرارها في الحياة ، تستعيدها من العدم وتقوم من خلال
وجودها المفترض لعقد مقارنات مع جميع النساء اللواتي مررن في حياتك ، وكذلك للتخلص
من سطوة الاب الذي يجعلك تتلبس شخصيته في الكثير من مما يدور في يومياتك .
لم
تكن الحرب حدثا عابرا في حياتك ولذلك فانها تتسرب فيما تكتب بوعي او دون وعي ،
ولذلك تستعيدها باعتبارها فناء جمعي ، لتدون تاريخا لا يعرفه احد غيرك عبر شخصيات
ومواقف مرت بك خلالها ، تلك الحروب التي نجوت منها بالمصادفة ليس الا ، هي معادل
للموت الذي كان قريبا منك في الغرف الحمراء في ( الحاكمية ) على ما اظن ، تدون
وانت على تماس مع موت اخر لايختلف عن فرص الموت السابقة ، وانت مستسلم بين أيدي
تمرست على منح حيوات جديدة للالاف ممن سبقوك في محنتك بتلك اللحظة الفاصلة ،
٤_الحب
/
اوصتني فتنة ذرب ان امسك احلامي فامسكت الريح ومضيت جوابا بين أنثى وأنثى وطريق
وطريق /
لم
يكن الحب سوى الحافز الاقوى للتشبث بالحياة وانت في لحظة الوهن والاستسلام الكلي
بين يدي ( البضاع ) ولذلك عمدت الى خلق توترات افتراضية تتصاعد مع الحدث الرئيسي ببناء كتابي يقترب
كثيرا من كتابة المسرحية اكثر منه للسرد الروائي ذلك من خلال خلق شخصيات تتصارع
فيما بينها ( المخدرة وسيدة الكرسي ) من أجلك انت الذي لا تستطيع التدخل لحسم هذا
الصراع للوهلة الاولى منذ ان اوصتك ( فتنة
) ورحت تدور بين النساء قابضا على الريح ، هذا الصراع الذي امتد حتى النهاية ، لكنك تميل ضمنا باتجاه سيدة الكرسي بانحياز
مفضوح / لايمكن للمخدرة ان تراهما معا ، وهما يرفلان بضحكات أرواحهم/ وهذا نوع من التحييد للمرأة تبثة على لسان احدى
الشخصيات .
٥
_ النساء
سيدة
الكرسي
/
أيتها السيدة الوانك لا تفيد القبح بشيء /
لا
تنكر بان حياتك عجت بنساء من الوان شتى ولذلك فانك تستعيد احداهن في كل مرة فمن
فطيم وحيلي الى فتنة والعرافة والمخدرة
والعديد من النساء اللواتي لم تمنحهن ملامح واضحة وصولا الى الملكة ، لكن
سيدة الكرسي تهيمن على اجواء الرواية لتتحول الى محورا رئيسيا فيها رغم
ظهورها في مواقع ليست بالكثيرة ، الا انها مثلت الحلم بالنسبة للجسد المسجى وبذلك
تنسحب على مايسرد من حياته التي تتخذ شكلا غرائبيا نوعا ما ، هذا الحلم الدفين
الذي يظهر في لحظات محددة كنوع من الافيون العاطفي الذي يهدهد الجسد كلما تأزم الموقف في تلك
اللحظات ، ، ولعل اعتراضه على ألوانها لم يكن سوى محاولة لابعاد التاثير الكبير
الذي تمارسه عليه لانه لاحقا من خلال تأكيده على ان/ ألوانها لاتفيد...الخ / يؤكد على لسانها / مرة
رسمت صورة رجل بشع يقتل ارنبا بلون البرتقال / ، فهي اذن سيدة الاحلام التي تسربت
من خلال لاوعيه لتتسيد الكثير من ثنايا
الرواية وقد مثلت له حبا قتيلا كما هو واضح .
شوقي
كريم حسن
٦_
المختلف
/
انا لا اناصب احدا العداء ، كل ما في الأمر انا احلم بما يحلم به غيري /
لعل
فكرة العداء او الخيانة متجذرة في العقلية المتسلطة في كل مكان وزمان ولذلك فهي
تضع المختلف فكريا تحت طائلة الخيانة ، المختلف الذي يطرح الاسئلة ، لان الاسئلة
تمثل لها تهديدا وجوديا ، فهي تمتلك فكرة
يقينة ثابتة بان هي صاحبة الحق الوحيد في طرح الاسئلة ، وعليه فهي تمضي في التضييق
على المختلف وتتدخل حتى في مساحة الحلم ، لان الحلم يعني محاولة زعزة كرسي السلطة
الممنوح بأمر إلهي والمقبوض عليه حتى الموت ، ولان السلطة على حق دوما فأنت متهم
ازلي أيها الحالم ، وعليك أن تدور بين سيول من المحققين والزنازين حتى تكف عن
الاحلام او طرح الاسئلة ، هكذا درت وانت تحاول التملص من أحلامك خوفا من ان تطالها
عيون المحقق ، ولا فرق بين محقق وآخر ، سواء كان ضابطا في حروب العبث او محتلا او
شرطيا للامن ، فلا مكان لك سوى الزنازين الرطبة لتتعفن فيها حتى النهاية ، وتتقلص
مساحة أحلامك الى حلم واحد في الخلاص ، فتمر عليك سراعا وجوه الضباط والمحققين
والقتلى ، لعلك تنسى تلك الوجوه بذات السرعة ، لكنك تتوقف طويلا امام وجوه القتلى
، ملامح الحزن ورعب اللحظات الاخيرة وهم بالتماس مع الموت المجاني في لحظة تماسك
مع الموت .
٧_
الضياع
/
عشت عمري كله ابحث عن مأوى رغم وجود بيوت كثيرة تؤويني... لكنه الخوف ياسيدي.. الخوف
الذي عشش مثل غربان سود في عقول من اعرف /
لم
يكن المأوى هو المكان اطلاقا ، بل هو الانتماء ، الانتماء للفكر اختياريا ، الانتماء الذي سيفرض عليك سلوكه وممارسات ،
وهو خيار سيضعك بالضد من السلطة القامعة حتما ، لتقع تحت طائلة الاسئلة المتكررة،
فتحاول التملص من ذلك بوضع وزر ما يجري لك على الآخر المتماهي معك شكليا ، لكنه
مختلف ضمنا ويمثل ذراعا من اذرعة السلطة ، وعليه فان ضياعك سيطول حتى اواخر ايامك
، وانت تدور في تجارب كثيرة ومتعددة مسقطا
كل ما مر بك على العديد من شخصيات الرواية عبر ثقمص تلك الشخصيات ( الولد والأب
والمختار وشكسبير ) ولذلك تلتجا اخيرا نحو البضاع باعتباره نوعا من الحل فلا حلول
أمامك سواه مفترضا انه سيزيل تراكمات ايامك بمبضعه الذي يمثل لك خلاصا .
0 comments:
إرسال تعليق