ما جرى ويجرى فى تونس ليس انقلابا ، اللهم إلا إذا كانت جماعة بذاتها ، تعتبر أن وجودها فى الحكم ثورة ، وأن خروجها منه انقلاب ، وفى ذلك ما فيه من مجافاة وازدراء للحقائق الصلبة ، فالرئيس قيس سعيد المتهم جزافا بتنفيذ انقلاب ، هو الأعظم شعبية بما لايقاس لغيره فى تونس اليوم ، وقد حصل فى انتخابات أكتوبر 2019 على نحو عشرة أمثال المصوتين لغريمته حركة "النهضة" ذات الجذور الإخوانية .
والمعنى ببساطة
، أن الشعب التونسى أراد قيس سعيد بأكثر مما أراد اختيار أى طرف آخر ، برغم أن قيس
سعيد كما هو معروف ، أستاذ قانون دستورى ، لم ينضم فى حياته إلى حزب ولا جماعة ،
وبدا فى صورة التونسى العادى ، المختلف فى حديثه على الدوام باللغة العربية الفصحى
، النزيه إلى أبعد الحدود ، فقير الإمكانيات المالية إلى حافة الكفاف ، وكان طلابه
هم قادة حملته الانتخابية ، أداروها من شقة مستأجرة متواضعة ، ورفض الرجل تلقى
المنحة المالية المقررة من الدولة لمرشحى الرئاسة ، وكان يمشى على قدميه بين الناس
فى الشوارع والأسواق ، ولم يعقد مؤتمرا انتخابيا واحدا ، ومع ذلك فاز بالمركز
الأول فى انتخابات الرئاسة ، وأقصى "عبد الفتاح مورو" مرشح حركة النهضة
، الذى حل ثالثا بعد رجل الأعمال نبيل القروى ، فى حين حل الرئيس الأسبق "المنصف
المرزوقى" فى ذيل القائمة ، وبنسبة أقل من نصف بالمئة ، وفى الجولة الثانية ،
كانت المواجهة الحاسمة بين سعيد الفقير و"القروى" الذى هو من أغنى
أغنياء تونس ، والمتهم لا يزال بوقائع فساد متراكمة ، وكانت المفاجأة الانتخابية
التى لم تكن مفاجئة ، فقد كانت نسبة التصويت هى الأعلى فيما شهدته تونس ، وفاز
سعيد بأكثر من ثلاثة ملايين صوت انتخابى ، وحصد ما فاق ثلاثة أرباع إجمالى الأصوات
، فقد حملته موجة شعبية هادرة حالمة بتغيير ثورى حقيقى ، وقد وصفت الرجل فيما كتبت
وقتها بأنه "قيس تونس" ، ربما فى إحالة رمزية إلى دراما "قيس وليلى"
المشهورة فى التراث العربى القديم ، وهى واحدة من قصص الحب الأسطورية ، التى لا
تتوج أبدا بخاتمة زواج ، ووجه الشبه ، أن قيس سعيد الأكثر شعبية ومحبة فى أوساط
التونسيين ، قد لا تمكنه صلاحياته المحدودة فى الدستور ، أن ينفذ حلمه وأحلام
الذين انتخبوه ، وربما كانت هذه هى المحنة ، التى حاول سعيد الخروج من أسرها
بقراراته الأخيرة فى 25 يوليو 2021، من نوع إقالة الحكومة وتجميد البرلمان ورفع
حصانات النواب ، التى يحلو لبعضهم وصفها بالانقلاب على الدستور .
ومن حق الشعب
التونسى وحده ، أن يحسم رأيه فى قرارات قيس سعيد ، وقد اتخذها بعد وقت طويل من
الصبر ، ومن شلل عمل المؤسسات ، ومن تردى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، ومن
مآسى مضافة ، بانتشار مريع لجائحة كورونا ، ومن تضاعف أرقام البطالة ، وتراكم ديون
تونس إلى ما يجاوز إجمالى ناتجها القومى ، ومن انكماش الاقتصاد بنسبة 8.6% فى
العام الأخير وحده ، ومن تفشى الفساد بغير ردع ولا حساب ، والعجز المفزع لبرلمان
معلق مشتت ، لا يحظى فيه حزب بأغلبية مطلقة ، وتجرى فيه المساومات والصفقات على
نحو لا يعرف طعما للمبادئ المعلنة ، ويجمع حزب النهضة (الإسلامى) مع حزب نبيل
القروى الموصوم بالفساد فى تحالف وثيق ، وبما انتهى بتونس إلى حال خطر داهم ، رأى
معه الرئيس ، أن يطبق نص المادة (80) من الدستور ، وبتفسيره المختلف عليه مع آخرين
، فى غياب "محكمة دستورية" كان
يمكن اللجوء إليها ، ولم تقم إلى الآن بعد سبع سنوات من إقرار دستور 2014 ، وكان
يتعين إقامتها فى غضون عام من سريان الدستور ، ولم يقم الرئيس سعيد بحل البرلمان ،
بل جمده لمدة شهر واحد ، ومن دون أن يعنى ذلك نهاية القصة ، فمن حق الرئيس طبقا
للدستور ، أن يحل البرلمان فى حالة وحيدة ، إذا أخفق البرلمان فى منح الثقة
للحكومة ، وهو ما يبدو واردا إذا ما امتنع البرلمان عن منح الثقة اللازمة لحكومة
جديدة ، يشكلها الرئيس بنفسه بحسب قراراته ، أو إذا ما تطور الموقف إلى أسوأ ،
ولجأت أطراف بعينها إلى إثارة عنف اعتراضى ، قد يضطر الرئيس إلى الرد عليه ،
استنادا إلى قوة الجيش والأجهزة الأمنية ، وإلى أغلبية شعبية ظاهرة متحمسة لقرارات
الرئيس الأخيرة ، تضم أغلب النقابات ومنظمات المجتمع المدنى النشيطة ، وبينها "اتحاد
الشغل" أكبر منظمة نقابية اجتماعية مؤثرة فى تونس .
ومفارقة الرئيس
قيس سعيد تبدو ظاهرة ، فهو الرجل الذى استخف به السياسيون المحترفون ، وظنوا أنه
سيكون رئيسا بروتوكوليا ، يكتفى باستقبال الضيوف فى "قصر قرطاج" ، ويوقع
ما يصله من قوانين ومراسيم ، لكن الرجل خالف مؤدى الظنون المسبقة ، ورفض الترويض ،
وتوسع فى تفسير كل صلاحية منحها له الدستور ، واستمسك باختصاصات الأمن القومى
والدفاع والعلاقات الخارجية ، واستثمر عجز "حركة النهضة" ، أكبر الأحزاب
تمثيلا نسبيا فى البرلمان ، عن تشكيل حكومة وتعيين رئيس وزراء من جهتها ، وسقوط
مرشحها الأول "الحبيب الجملى" فى امتحان الثقة البرلمانية ، لتتشكل
بعدها حكومتا إلياس الفخفاخ ثم هشام المشيشى ، الذى تورط فى صدام مع الرئيس بدفع
من حركة النهضة وحلفائها ، وإلى أن أطاح الرئيس بالجانبين معا ، مستفيدا بالمزاج
الشعبى العام ، الذى ينظر بازدراء للبرلمان الفوضوى ، ولحكومات عشرة تعاقبت بعد
ثورة 14 يناير 2011 ، ومن دون أن تفهم الجانب الجوهرى فى مغزى الثورة ، التى تحققت
بعدها لتونس كثير من مظاهر الحريات المدنية والسياسية ، ولكن مع تدهور اقتصادى
واجتماعى فادح ، فاقم آلام أغلب التونسيين ، فقد قامت الثورة بشعلة "محمد
البوعزيزى" ، الشاب الجامعى الذى اضطر للعمل كبائع متجول ، وصادروا عربته
اليدوية بما عليها من فواكه وخضروات ، فأشعل النار فى نفسه بعد صفعة إهانة شرطية ،
وإلى أن صعدت روحه إلى بارئها قبل عشرة أيام من انتصار الثورة الشعبية ، وهروب
الديكتاتور "زين العابدين بن على" ، وكان المغزى فيما جرى ، أن التنمية
الاقتصادية الإنتاجية والحقوق الاجتماعية لها الأولوية المطلقة عند الملايين ، وهو
ما لم يكن واردا فى حساب الطبقة السياسية التى تشكلت بعد الثورة ، وفى حلف مرئى مع
طبقة سياسة "بن على" ، وهو ما بدا فاقعا فى تحالف "راشد الغنوشى"
زعيم النهضة مع حزب "نداء تونس" لمؤسسه المخضرم "الباجى قايد
السبسى" ، وقد كان الأخير من أكبر أعوان بن على ، واستثمر السخط الشعبى على
حكومات النهضة و"الترويكا" التى أعقبت ثورة 2011 ، وكون حزبه من موارد
شتى مختلفة ، واستطاع خطف المركز الأول فى برلمان 2014 ، وجعل "النهضة" حليفا
أصغر ، اكتفى بتمكين أعضائه وأنصاره فى مؤسسات ووظائف الدولة ، فقد جرى عبر سنوات
تعيين 150 ألف موظف إضافى فى دولاب الدولة ، ومن دون أن يفيد تفكك حزب "نداء
تونس" فيما بعد ، وحتى قبل وفاة السبسى الذى شغل منصب الرئيس ، ولم يفد تفكك
حزب النداء فى صحوة شعبية لحركة النهضة ، التى جاهد الغنوشى لنفى صفة "الإخوانية"
عنها ، فالغنوشى الذى بدأ حياته السياسية ناصريا ، ثم تحول إلى "الإخوانية"
فى سبعينيات القرن العشرين ، وأنشأ "الجماعة الإسلامية" ، التى تبدل
اسمها فيما بعد إلى حركة "الاتجاه الإسلامى" ، ثم إلى حركة النهضة ،
التى وصفها قبل سنوات بغير الإخوانية ، وأنها صارت بعيدة عن حركات الإسلام السياسى
بعامة ، ربما فى محاولة للإفلات من مصائر محتومة عاد ليواجهها اليوم ، بعد التدنى
المتواصل لشعبية حزبه عبر العشر سنوات الأخيرة ، وكان حزب "النهضة" قد
فاز بنحو المليون ونصف المليون صوت فى أول انتخابات بعد الثورة ، تراجعت إلى أقل
من الثلث فى انتخابات أواخر 2019 ، وهو ما يدرك مغزاه الرئيس الذى يبنى حزامه
السياسى من أصوات مؤيديه السائلة ، ومن حيازته لتأييد أحزاب أهمها "التيار
الديمقراطى" و"حركة الشعب" الناصرية ، تجعل سعيد راغبا فى دفع
التطورات التونسية إلى انتخابات مبكرة ، بعد تنظيم محاكمات لأمراء الفساد ، وبعد
إجراء استفتاء على تعديلات دستورية ، تعزز مكانة وصلاحيات الرئيس فى النظام
السياسى ، وهذا فيما نظن ، هو رهان الرئيس ، الذى قد لا يسعى متعجلا إلى إصدار
قرارات من نوع حل "حركة النهضة" ، بل يريد العودة للشعب ، ويترك القرار
للمصوتين التونسيين ، وفى سياق ما تحدثنا عنه مبكرا قبل نحو سنتين ، قلنا وقتها
وبالعامية المصرية أن "تونس هتعيد السنة" ، أى أنها ستعود لثورة جديدة
بحثا عن تصحيح ممكن ، وها هى تونس تفعلها .
0 comments:
إرسال تعليق