( 1 )
سيبنديّة
، والمفرد سيبندي ، وهو توصيف شعبي يُطلق
على : الماكر ، التائه في الشوارع ، الذي لا يسلم الناس من أذاه ، اللاعب على
الحبال ، سيء الأخلاق .. إلخ . ورواية ( سيبنديّة ) اًللروائي شوقي كريم ، أُستثمر
فيها المعنى الجامع لهذه التوصيفات ليصقطه ُ على ما حصل في تاريخ العراق الحديث من
أحداث دامية في بداية الستينيّات . والروائي سبق َ وإن استخدم التوصيفات الشعبية
عناوين َ لروايات أخرى : شروكَيّة ، هتليّة
، هبّاشون ، قنزه ونزه ، ثغيب ، وغيرها . من هنا يكون الإنشداد إلى هذه
التوصيفات ما هو إلا تفاعلا ً مع مدركات طبقيّة من قاع المجتمع أملتها ضروف حياتية
قاهرة لم ينج ُ الروائي هو الآخر من آثارها
، إذ كان في مداراتها الزمنية ، طفلاً ، شابّا ً ، رجُلا ً . ومن ثم َّ في
مدارتها الإبداعية : قاصا ً ، روائيا ً ، كاتبا ً مسرحيا ً ، وكاتب َ مسلسلات
إذاعية وتلفزيونية . ومثل هذا التنوّع يشيء بأنّه ُ منغمر في الذي حصل َ وما يحصل
وبتماس مع كل ماهو اجتماعي / طبقي بمنظار واقعي أو بفعل ما تراكم في طبقات العقل
الباطن ( ما جاءت به ِ المسرودة حقيقة من المنبوشات بين أطمار ماض ٍ قريب مسكوت
عنه .... ، قد لاتُصدّق ما قيل ودوّن َ
كونه ضربا ً من الخيال .. ما أقبح الواقع الذي يُنافس الخيال ويتغلّب عليه ) . وهكذا
جاءت رواية ( سيبنديّة ) واقعية الرصد ، عاصرَ الروائي أحداثها منذ تفتّحات
الطفولة وصولا ً إلى فاعلية الوعي لاحقا ً .
(
2 )
شوقي
كريم ، في معظم رواياته ، يميل إلى الاستطراد اللغوي ، ويجعل من هذا الاستطراد
شاغلاً لأن تعوم وتطفو فيه الأحداث بعيدة عن مركز الرواية ، ولكنّه ُ حتى حين يعود إلى المركز ، فإنّه يعود باستطراد
لغوي أيضا ً . وهنا قد يصح القول بأن َّ سرديته ُ ماهي إلا سردية الاستطراد اللغوي
، وأرى أنّه ُ يفصح عن خصوصيّة مغايرِة
لطبيعة السردية الوصفية ، إذ أنّه ُيجعل السرد مستترا ً ومتزيّنا ً باللغة . ومثل
هذا الإجراء الفني في جوهره ، ليس متاحاً بسهولة إلا ما ندر .
في
رواية ( سيبنديّة ) حصل العكس ، إذ أصبحت سرديّة الأحداث هي الفاعلة ، هي المهيمنة
، والتعليل أن َّ أحداث الرواية متتالية /
متزاحمة / صادمة ، لايمكن مشاغلتها سردياً بالاستطراد اللغوي أو الذهنية التصويريّة ، لأن الواقعة ، واقعة
الروي ، حدث ٌ يحمل سرديته ضمنا ً ، وهي سردية يذكرها الكثير من الأحياء ممن
عاصروا سنواتها ، وبذلك عمّق َ الروائي ما هو مشترك ، بينه ُ والآخر في تأصيل
واحد ( فطنت ُ إلى المعنى وما أُريد منه ،
وما الحقيقة التي تحتاج منّا إلى إعادة كشف ) . والفطنة إلى المعنى هنا ، تعني استهجان معنى ما حصل سياسيا ً واجتماعيا ً وإنسانيا ً وبالتالي
تاريخيّا ً. والحقيقة التي تحتاج إلى الكشف ، هي الحقيقة السّريّة التي ظُللت بالتبريرات الظاهرية في محاولة
لتسويق الفعل الإجرامي . وكل ُّ هذا رصدته ُ الرواية بواقعية فنيّة بعيدا ً عن
الانحياز لأي ّ طرف أو جهة إلّا الانحياز بالضِد لكل ماهو مُقوّض للحرية بمعناها
الشامل ، ومُناقض لفكرة العمل ( الثوري ) .
(
3 )
إن
َّ أحداث الرواية ، هي أحداث ما حصل عام 1963
سياسيا ُ في العراق وما حملته تلك الأحداث
من فجائعية ، وهي َ أحداث معروفة ، ولا
تستطيع هذه الإشارة أن تُعيد سرد َها ،
غير أنها تؤكد الملمح الفني في سرديتها ، إذ اعتمد الروائي تقنية المداخل
لسردها وبتوصيف الأبجدية – التي حملت
أقوالاً توضيحيّة دالّة بين قوسين - لكل
مدخل : أبجدية اليتم ، أبجدية الآثم ، أبجدية القحط ، أبجدية القسوة ، أبجدية
النهاية ، أبجدية الرفض ، أبجدية الهذر ، أبجدية الإزاحة ، أبجدية الرغبات ، أبجدية الإفتضاح . وإن َّ مثل هذه الأبجديات
وتوصيفاتها ( المرّة ) هي الكاشف الأوضح
لما حصل ، هي مفاتيح ذهبيّة لصناديقها ، وقد كانت المقدمات الإستباقية المكمّلة
للمتون .
كما
أن َّ الدلالة الكامنة في معنى ( أبجدية ) تُشير إلى أن َّ للأحداث ( حروفيتها ) الخاصة ! ، وهي حروفية خارج سياق
الأبجدية المتداوَلة ، حروفية عسيرة الفهم في كل ِّ ما أوجدته ُ من لغة : رصاص ،
دم ، ونهايات فجائعية ، وبذلك تحقق َ ما
هو إيحائي ، ما هو رمزي ، ما هو دهشة ، ما هو كاشف للواقع . ومن هنا
تكون رواية ( سيبنديّة ) رواية : الواقع وأبجديات ما حصل ...
0 comments:
إرسال تعليق