الحرارة
المرتفعة تلفح الوجوه في شهر أغسطس حتي
بعد فرار شمس النهار، وعودتها لمستقرها ،
لهيبها لا ينطفيء، يتحول إلى رطوبة، الوخم والضجر كانا حليفا الحاضرين في ذلك
المكان، المشهد كان مريعا ومثيرا للسخرية، قطارا بائل يتأخر يوميا ما يقارب النصف
ساعة ،عندما يصل لا تجد به منفذا إلا لعبور الهواء.
"منصور
"، كان أشدهم ضجرا، رجل سمين ، لا يتحمل ذلك الجو والزحام ،خيوط العرق علي
خديه تتجمع لتصنع نهيرا صغيرا، ينحدر نحو
عنقه ،أمسك بمنديله القطني الذي ما زال يقتنيه ،مسح القطرات الغزيزة بحدة ،كاد
يمزق جلده الملتهب ثم دسه في جيبه، وهو
ينهج.
جاء
القطار يتهادى كحسناء فارعة الطول ، الأدمغة تخرج من النوافذ ،الأجساد تتدلي من
الأبواب، اندس بين الحشود فلم يجد مقدار شبر ،فأجسام البشر تخفي الفراغات ،حاول
حشر نفسه، بصعوبة دلف للداخل ،لكن فردة حذائه اليمني سقطت ، لا يعلم هل بداخل
العربة أم خارجها ؟ صرخ مستنجدا :
-
سقطت فردة حذائي.
استطرد
فزعا : أريد المساعدة .
تجاهله
من سمعه، أما الباقي، "فكل يغني على ليلاه".
انطلق
القطار بسرعة جنونية، محدثا ضجة ودوارا للركاب ، الأجساد تترنح ، تلتصق ببعضها
البعض ، ما تبقي من زجاج النوافذ يهتز ، يحدث صوتا شنيعا تجز له الأسنان.
رائحة العرق النفاذة تخترق الأنوف ،في تلك
الأثناء حاول أن يقتنص نظرات خاطفة لزرقة
السماء، ونجومها المضيئة، عسي أن تخفف عنه ضنك الرحلة طويلة الأمد ، لكنه
لم يفلح .
حجب
الرؤية استدارة بطن سيدة في منتصف العمر،
تستند علي ، ولا يوجد من يرحم وهن
، ويدعها تجلس بدلا منه.
زاد
عناء الطريق مع وجود فردين ملاصقين له، رجل وسيدة، أنفاسهما تتقاطع مع بعضهما
البعض ، محدثة نشازا عجيبا ، رائحة فم الرجل تدل علي تدخين شَره للنارجيلة ، أسنانه شديدة الاصفرار ،يحيط بها الجير ،
يخرج مع كل نفس من أنفاسه رائحة تبعث في النفس الغثيان، أما السيدة فبطنها يصدر
قرقرة، كأنها لم تتناول الطعام منذ قرن من
الزمن.
فاتته
محطة النزول ، فهو مجبر علي التكملة لآخر ،
بحثا عن حذائه المفقود.
بعد
مضي دقائق مضت كسنوات ضوئية توقف القطار ،في أخر محطة نزل جميع الركاب باستثناء
منصور، أنكب علي وجهه يبحث أسفل المقاعد ، سقطت محتويات حقيبته السوداء المصنوعة
من الجلد الصناعي ، لملم ما سقط في ما يقارب الخمسة عشر دقيقة ،فجأة سمع صوت نسائي
يقول بنعومة:
ـ
من فضلك!
رفع
نظره ، فوجد فتاة بيضاء رشيقة ،لها طابع حُسن
، وغمازة علي خدها الأيمن فقط ،وأسنان كاللؤلؤ ،تنظر إليه بخجل،وهي تحمل فردة حذاء
نسائية قالت:
-
عفوا ؛هل رأيت فردة حذاء مطابقة لتلك التي أحملها؟
أشار
إلي الجورب الذي يرتديه ،قال ساخرا:
ـ
ربما التحقت بفردتي المفقودة
وهما
الآن في موعد غرامي، انفرادي ؟!
أحمرت
وجنتاها ،دست وجهها في الأرض بعدما فهمت مقصده .
أشار
بيده إلي عدة متاجر تقع في الجهة المقابلة للقطار ،انطلق بجرأة بالغة:
-هل
من الممكن أن نذهب إلي هناك ؟
نظرت
له والتعجب يظهر على ملامحها .
لم
يمهلها كي ترد ،أردف:
ـ
هدية متواضعة ؛حذاء ،بعدها كأس من المثلجات ليلطف حرارة هذا الجو
قالت
علي استحياء بصوت هامس :
-
دعني أفكر!
0 comments:
إرسال تعليق