• اخر الاخبار

    الاثنين، 13 فبراير 2023

    أ.د. محسن وحيوح الحمد يكتب عن : الجرع المميتة للكائنات الحية

     


    لم تعرف التأثيرات البايولوجية للأشعة المؤينة الا بعد اكتشاف الاشعة السينية. فلقد حصلت عدة حوادث خطيرة كنتيجة لاستخدام هذه الاشعة قبل الفهم الصحيح لمخاطرها علي صحة الانسان وحياته. الامر الذي أدي الي وضع لوائح وقواعد لضبط صورة التعامل مع الاشعاعات المؤينة من قبل كل من يهمه الامر من علماء ومهندسين وطلاب ابحاث وعمال .                                              .
    فحتىعام 1922 توفي حوالي مائة شخص من بين هؤلاء العاملين في هذا الحقل نتيجة لضرر الاشعاع البايولوجي. ولعل اشهر حادث في هذا الصدد هو ما جري لعمال صناعة الساعات ذوات العقارب والأرقام المضيئة. فلقد دأب هؤلاء العمال علي جعل اطراف فرشاة الطلاء دقيقة بترطيبها بأفواههم. ولما كان هذا الطلاء حاوياً في تركيبه علي عنصر الراديوم المشع فقد أخذ هذا العنصر بالتراكم في اجسادهم مع مر الزمن مما أدي الي زيادة وتأثر الاصابة بمرض السرطان .                                                             
     .
    يمثل الاشعاع وبصورة دائمة خطرا أكيدا للأنظمة البايولوجية. وان هذا الخطر يتناسب اطرادا مع مقدار جهل العامل في حقول الاشعاع لطبيعة هذه الاشعاعات وكيفية تداولها واتقاء المخاطر الناجمة عنها. اذ يمكن اختزال الخطر الي حدوده الدنيا المقبولة بالتزام التحفظات المناسبة ومراعاة قواعد واساليب السلامة كما هو الامر في أي مختبر كيميائي. ولما اصبح الكشف عن النشاط الاشعاعي ــ مهما صغر ــ ميسورا، فان الخطر المتوقع لم يعد بالمشكلة المستعصية في الوقت الراهن وخاصة بالنسبة للمختبرات التي تتعامل مع مواد كيميائية مشعة والتي تم تصميمها بشكل ملائم وروعيت فيها مقاييس السلامة والامان .                                              .

    التأثيرات الجزيئية البايولوجية للأشعة المختلفة بصرف النظر عن نوع الاشعاع، وجد ان طاقة هذا الاشعاع اللازمة لاحداث تغيرات بايولوجية هي في الواقع قليلة. فعلي سبيل المثال ان كمية الاشعاع الكافية لقتل الثدييات لا تسبب الا ارتفاعا طفيفا في درجة حرارة اجسامها لا يتجاوز 01.0 درجة مئوية (واحد في المائة فقط من الدرجة المئوية). من الجدير بالذكر ان هذا الارتفاع في درجة الحرارة ناتج عن تحول طاقة الاشعاع الي طاقة حرارية وانه احد اعراض المرض المسمي بالمرض الاشعاعي وليس سببا له. كما ان طاقة الاشعاع هذه تنتشر خلال مرورها بالاعضاء الحية بالطريقة نفسها التي تنتشر بها في اية مادة اخري: أي بتأيينها وتهييجها لذرات او جزيئات المادة المارة بها .                                                
    .
    وفي كائن حي يتسبب عن عملية التأين هذه تخريب مباشر جراء تكسر الروابط الكيميائية التي تربط ذرات الجزيئات ببعضها داخل نسيج الخلية الحية. اما التأثير المتبادل للاشعاع مع الماء سواء داخل او خارج الخلايا الحية فانه يكون سببا في تكوين الجذور الحرة القادرة علي القيام بتفاعلات كيميائية عديدة مما يؤدي الي تخريب الخلايا عن طريق تفاعلات الاكسدة والاختزال بشكل خاص .                                    
    .
    يعتمد مقدار الضرر البايولوجي علي عوامل عدة منها نوع الاشعاع (كأشعة ألفا او بيتا السالبة والموجبة والاشعاعات الكهرو ــ مغناطيسية كالاشعة السينية واشعة كاما، ثم الالكترونات والنيوترونات... مثلا) ومقدار طاقة هذا الاشعاع وسرعة دخوله الجسم الحي ونوع العضو المعرض لهذا الاشعاع (عين او كبد او عظم او رئة...) واخيرا عمر النموذج المعرض للاشعاع ثم حالته الصحية ان كان بشرا. اما اذا كان التشعيع من مصدر خارجي او من مصدر داخلي فتلك مسألة مهمة .                                                  
    .
    بالنسبة للتشعيع بمصدر خارجي تعتبر الاشعة السينية من اكثر الاشعة خطراً علي الانسان بسبب قدرتها الفائقة علي الاختراق والنفوذ. من امثلتها اشعة أكس (رونتكن) المستخدمة في التصوير الشعاعي، واشعة كاما التي لها طبيعة اشعة أكس نفسها. لا خطر من أشعة ألفا اذا أتت من مصدر خارجي اذ انها لا تستطيع النفاذ الا الي طبقات الجلد السطحية غير الحساسة. لكنها تعتبر الاشعة الاشد خطرا في ما لو اصبحت مصدرا داخليا ثابتا للاشعاع، اي اذا دخلت جسم الانسان واستقرت في احد اعضائه بشكل عنصر مشع او مركب فيه عنصر مشع لهذه الدقائق. دقائق ألفا هي نوي ذرات غاز الهيليوم النادر اي انها ذرات هذا الغاز لكنها منزوعة الالكترونات الخارجية.

     

    ان تعدد هذه العوامل وتشابكها يجعل الامر صعبا في تحديد أية كمية من النشاط الاشعاعي تتسبب في احداث حجم محدد من التأثيرات البايولوجية الضارة. اذ ليس هناك ثمة من علاقة خطية مباشرة بين الاثنين، وعليه يصعب الاستنتاج العلمي الدقيق .

    ان حزمة كثيفة من أشعة ألفا تؤدي الي تحطيم جزيئة الحامض النووي المعروف باسم الخلايا الحية. ومعلوم ان النواة هي مركز فعالية أية وهو احد مكونات خلية. DNA(Deoxyribonucleic)

     هذا ومن الجهة الاخري لو اخذنا حالة نوع آخر من الاشعاع وهو فوتونات اشعة غاما فانها لا تسبب اي تكسر او تشوه ان مرت خلال كروموزوم كامل. والكمروموزوم هو حامل العوامل الوراثية التي تتحدد بموجبها خصائص وصفات وملامح الوليد الجديد. وكل كروموزوم يتكون من حوالي ثلاثة بلايين جزيئة من جزيئات الحامض النووي DNA . لكن اشعة غاما وأشعة ألفا وأشعة بيتا تتسبب في ما يسمي التفكك الاشعاعي لماء الخلية الحية ونواتج هذا التفكك هي الآيونات والجذور الحرة والجزيئات الآتية :                                    .

    الي الحد الذي يفضي
    RNA(Ribonucleic(  سالف الذكر DNA و والتي قد تتفاعل مع الحامضين النويين الي قتل الخلية بعد ان تعجز عن اداء وظائفها المعتادة بسبب التغير الطارئ علي تركيبها الكيميائي. فالتركيب الكيميائي المحدد يؤدي وظيفة محددة بعينها. وطبيعي انه كلما ازداد الوزن الجزيئي لمركب معرض للاشعاع ازدادت كمية الاجزاء المدمرة من هذا المركب. ولما كان الكرروموزوم البشري يتكون من حوالي ثلاثة بلايين جزيئة من جزيئات DNA فان جرعة اشعاعية كبيرة ستقتل كل خلية تعرضت لها .                      .

    حساسية الاعضاء المختلفة للاشعاع  يتجلي تأثير الاشعاع التخريبي علي الخلايا الحية باشكال شتي. منها النقص في معدل الانقسام الخلوي (او الحجيري) لذا فان الخلية لا تؤدي الا الي عدد محدود من الانقسامات خلال فترة حياتها. ومنها التشوه الخلوي الذي يؤدي الي اضطراب مسلسل التطور البايولوجي الطبيعي الذي يؤدي بدوره الي نشوء نمط في سياق تطور جديد مغاير لنوعه الاصل كما في حالة تكون الخلايا السرطانية.
    هذا وان الخلايا الاكثر حساسية للاشعاع هي تلك التي في طور الانقسام. وعليه فان الخطر الذي يصيب جنينا عمره يتراوح بين 3 ــ 7 اسابيع هو اكبر بمائة مرة من الخطر الذي تتعرض له الأم الحامل لهذا الجنين. كذلك الاجهزة والاعضاء والانسجة التي تكون فيها معدلات تعويض الخلايا التالفة بطيئة فانها تعتبر عالية الحساسية للاشعاع كالجلد والاعضاء التناسية وكافة اعضاء التجويف البطني والعيون والاجزاء المسؤولة عن تكوين الدم في الطحال ونخاع العظام وانسجة الجهاز العصبي. وبشكل عام كلما كانت الخلايا عالية التخصص في ادائها النوعي كان العضو الذي تنتمي اليه عاليا في سلم التطور، وبالتالي يصبح هذا العضو وخلاياه شديد الحساسية تجاه الاشعاع. الجدول الرقم 2 يبين تأثير اشعة كاما علي مختلف الكائنات الحية من احياء دقيقة مجهرية ونباتات وحيوانات علما ان الراد
    Rad هو وحدة الجرعة الاشعاعية ويساوي مائة ارغ يمتصها غرام واحد من أية مادة (والارغ هو وحدة الطاقة الحرارية) .                                   .
    يمكن التمييز بين نوعين من الخلايا: نوع يساهم بشكل مباشر في وظائف الاعضاء كخلايا نخاع العظام والكبد وخلايا الجهاز العصبي. ونوع آخر يتعلق بعوامل الوراثة. اما النوع الاول من الخلايا فان خطر التخريب الاشعاعي يكون محصورا فيه فقط، ويسمي هذا النوع من التأثير
    Sommatic Effect بينما ينتقل التخريب الناجم عن تعرض النوع الثاني من الخلايا للاشعاع الي الاجيال القادمة، ويسمي هذا الصنف من التأثير Genetic Effect .                            .
    لم يظهر حتي اليوم اي دليل علي ان للخلايا او الكائنات الحية الاعلي اية مقاومة للاشعاع. ولكن بعض انواع البكتيريا اظهر قابلية علي مقاومة الاشعاع بتحجيم خطره او بصده بالكامل اثر تعرضها لجرعات اشعاعية صغيرة لفترات زمنية طويلة. وامكن تفسير هذه الظاهرة بتكون اجهزة حية شاذة عن سياق التطور العام لهذا النوع من البكتريا لها ردود افعال مغايرة تجاه الاشعاع للاحياء الاصل قبل تشعيعها. كما لوحظ انه يمكن زيادة فاعلية المقاومة للاشعاع لو عولج الكائن ببعض المركبات الكيميائية قبل تعريضه للاشعاع. اذ تلعب هذه المركبات دور عوامل الصيانة المضادة للاشعاع. واكثر هذه المركبات شهرة هي الثايولات الامينية كمادة السستين وهي حامض اميني طبيعي .                                                   
    .
    كما يفسر الفعل الرادع لهذه المركبات باحتمال قدرتها علي ان تلعب دور العامل اللاقط للجذور الحرة (بالتفاعل معها وتقييد حرية حركتها) الناتجة عن تفكك الماء تحت تأثير الاشعاع، كجذور الهايدروكاسيل
    وبالنظر للخصائص السمية لهذه المركبات فانه ولسوء الحظ لا يمكن Hydroxyl Radicals   (OH )      استخدامها الا بكميات صغيرة كمواد مضادة للاشعاع . 

                                  .
    تأثير الجرعات الكبيرة علي جسد الانسان


    الجرعات الفورية التي يتعرض لها جسد الانسان كله خلال يوم واحد فقط والتي تزيد عن ألف ريم (بوحدات الجرعة المكافئة) تؤدي الي الموت خلال اربع وعشرين ساعة بسبب دمار الجهاز العصبي. والتعرض لجرعة اشعاعية مقدارها 750 ريما يؤدي الي الموت اما في غضون بضعة ايام او خلال شهر كحد اقصي بسبب النزيف الدموي في الجهاز الهضمي. غير ان العناية الطبية المركزة يمكن ان تلعب دورا لكن في تأخير اجل الموت لا اكثر. اما الجرعات الاشعاعية التي تقل عن 150 ريما فنادرا ما تكون قاتلة. ولكن عند حدودها العليا يحدث الموت عادة خلال فترة تتراوح بين 4 ــ 8 اسابيع بعد التعرض للاشعاع بسبب دمار الكريات الدموية البيض. ومن لم يمت في هذه الفترة الحرجة يكن نصيبه الشفاء التام. وهذا لا ريب يدل علي ان لجسم الانسان القدرة علي اصلاح العطب الناجم عن التعرض للاشعاع، الامر الذي اثبتته تجارب عديدة اجريت علي بعض الحيوانات. ثم ان الجرعات الاشعاعية التي تقل عن الخمسين ريما لا يتسبب عنها الا نقصان عدد الكريات الدموية البيض. ويسمي التعبير الطبي لهذه الظاهرة
    Leukopenia .                                       .
    ان جرعة اشعاعية مقدارها 25 ريما تكفي لظهور الاعراض الاولي للضرر الجسدي (غير الوراثي) لو تعرض الانسان للاشعاع لفترة وجيزة .                                          
    .
    يمكن ان يحصل هذا السلم المتفاوت في مقادير الجرع الاشعاعية آنيا نتيجة لانفجارات الاسلحة النووية (قنبلة هيروشيما وقنبلة ناجازاكي... مثلا) او الحوادث المؤسفة التي تقع بين الحين والحين في بعض المفاعلات النووية كتبخر الوقود النووي الثقيل المفاجئ لخلل ما في اجهزة السيطرة والتحكم والتبريد

    (كما حصل في مفاعلات تشيرنوبل في اوكرانيا) .                                                .
    وكذلك بسبب نقص الانتباه لدي بعض العاملين في مجالات المعجلات العملاقة او اجهزة اشعة اكس (الاشعة السينية او أشعة رونتجن وهو اسم مكتشفها) او وحدات التشعيع المركز بعنصر الكوبالت 60 المستخدمة في العلاج الطبي او الابحاث العلمية او في الصناعة .                                              
     .
    ان اكثر حالات التعرض الحاد للاشعاع شيوعا هي تلك التي تصيب الايدي بالتعرض الفوري الكثيف للاشعاع. ولكن ولحسن الحظ وجد عمليا ان الايدي يمكنها مقاومة الفعل المدمر للاشعاع علي الرغم من ان الجلد يعتبر من اكثر انسجة جسم الانسان رقة وحساسية. اما اذا تعرضت الايدي لجرعات اشعاعية مفرطة في القوة، فعندئذ يتلف الجلد ويتعين نزعه وزرع جلد جديد مكان الجلد التالف. علما ان عملية زرع الجلد هذه تعتبر بالدرجة الاولي وسيلة سريعة للتخلص من الآلام المبرحة لا غير. ان جرعة تزيد عن ألف ريم من اشعة بيتا او غاما كافية لاحداث مثل هذا العطب في الايدي.                                                 
     .
    يعتمد ضرر الجرعات الاشعاعية اساسا علي زمن التعرض لها. وكما لاحظنا قبل قليل، ان للجسم القابلية علي الشفاء من تأثيرات الاشعاع. ولكن هناك من الآثار الباقية المؤجلة التي لا تكشف عن نفسها الا بعد مرور فترة زمنية طويلة. يدعي هذا النوع من التأثير الشعاعي (التأثير الجسدي الآجل) فضحايا القنابل الذرية التي القيت علي اليابان عام 1945 والذين تماثلوا للشفاء بعد اصابتهم بالمرض الشعاعي الحاد، كانت نسبة الاصابة بمرض السرطان بينهم تساوي 2% (اثنان في كل مائة منهم). لقد بينت دراسة حالات هؤلاء الناجين من الموت الذري ما يلي :                                                 
    .
    1 ــ ظهور حالات اضطراب الرؤية بعد فترة تتراوح بين 5 ــ 10 سنوات                          
     .                                   
    2 ــ سرطان كريات الدم البيض بعد فترة 8 ــ 10 سنوات .                                         
    .
    3 ــ سرطان الغدة الدرقية بعد فترة 15 ــ 30 سنة .                                           
    .
    اما حالة ما يسمي التشعيع الداخلي (كون المصدر المشع داخل جسم الانسان) فقد لوحظ ان الزمن اللازم لظهور اعراض مرض سرطان الرئة في عمال تعدين اليورانيوم في مناجم تفتقر الي وسائل التهوية الفعالة، ومرض سرطان العظام بالنسبة للعاملين في حقل طلاء عقارب الساعات وارقامها بالراديوم المشع، لوحظ ان الزمن اللازم لظهور اعراض هذين النوعين من السرطان يتراوح بين 10 ــ 20 سنة .
                .  

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: أ.د. محسن وحيوح الحمد يكتب عن : الجرع المميتة للكائنات الحية Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top