• اخر الاخبار

    الاثنين، 13 فبراير 2023

    اللعبة اللغوية في مسرودات عربة شوقي كريم ..الناقد /علي لفتة سعيد

     

     


    يفضح السارد شوقي كريم علاماته الكتابية منذ العنوان في مجموعته القصصية التي يطلقها عليها (مسرودات) حين وضع العنوان ليكمله بالإهداء وكأنه يعلن أن العربة هنا وإن كانت في العنوان منسيّة، لكنها مطوّقة بالنصيحة التي أطلقها الأب، وجعلها عنوان ليتبعها بما أطلق عليه ( وهم البدايات ) التي هي على النقيض من فلسفة الإهداء للأب الذي أوصاه، حيث يقول في وهمه إنه لا يريد أن يلج المواعظ والحكم. ولهذا فإن اللعبة  الفكرية تبدأ من هنا، من عملية جمع العنوان والإهداء والتوضيح أو الاستباق حيث لا يريد سوى أن يتحرّر وأن يجد حريته في الكتابة.

    إن  قصصه أو نصوصه أو مسروداته السبعة عشرة بعناوينها التي تشي بعملية تفكيك المغزى من الحكاية والهدف من التأويل، حيث في أغلبها عملية إنضاج لما هو كائن في الغاية التي انتجت هذه المسرودات. ورغم أن العنوان الرئيس هو عنوان واحدة من القصص/ مسرودة، فإن العنون هنا لن يكون حاصل جمع التسلسل المنطقي لمرجعية أفكار القصص/ النص، فإن الخطّ المستقيم الذي تتولّد عنده خيوط اللعبة تبدأ من حيث يشاء المنتج/ شوقي، لا من حيث يشاء المتلقّي, ولهذا فإن هذه العناوين هي اللحظة الأولى التي تمكّن المتلقّي من معرفة إن كان دخل المدينة من هذا الباب أم هو بحاجةٍ الى أكثر من باب. فالعناوين ترتبط ارتباطًا شبه متينٍ مع الغاية التي وجدت من أجلها هذه المسرودات القصصية، رغم أنها في الأفكار لا تنتمي الى محطّةٍ فكريةٍ واحدةٍ، أو حكايةٍ متفرّعةٍ بقدر ما هي تعلن تشابه الطريقة السردية في تناول حكايات شبه مختلفة. بمعنى إن التشابه يشيد بنائه عبر ثلاثة مرتكزات:

    المرتكز الأول: العنوان  حيث يشير في أغلبها الى الحالة المعاكسة التي ترتبط بالإهداء من جهة، والتنويه الذي يأتي بعد الإهداء من جهة ثانية( نهار أبيضٌ بلون الخطيئة/ خاصرة القنفذ / ورق منتهي الصلاحية/ عناقيدٌ الجمر/ مطحنة اللذة / موت اصابع الجكليت / مزار هتلر الغريب....) وغيرها.

    المرتكز الثاني: الفكرة حيث تمتد خيوطها من مستواها التحليلي الى مستواها القصدي في مناقشة الفعّاليات التي يريدها المنتج كفاعلٍ متوافر في النصّ عبر إيجاد موطئ قدم كبير، له يشير الى أثره، ومتابعة هذا الأثر حيث يشاء باتجاه المستوى التاويلي.

    المرتكز الثالث: اللّغة التي تعتبر أحد أهم مميّزات هذه المسرودات، كونها هي التي تعطي خرائط وجود المنتج في قيادة المسرودة في تفاصيلها الثلاثة ، التي اتخذها كمطلقٍ من منطلقات المتن السردي:

    الأوّل: إنها لغةٌ تعتمد المستوى الإخباري لحركة المتن النصّي بالاعتماد على المستوى النصّي لحركة مفعول اللغة لإنتاج المبنى الحكائي.

    الثاني: إنها لغةٌ تمنح النصّ في جمله الممتدّة أفقيًا حين يقوم على كسر الروي من حركة الشخصية الى حركة الراوي لتتصاعد عموديا.

    الثالث: أنها لغةٌ ترسم كلّ ما يحيط بالفكرة والحكاية معا عبر المكان والزمان والشخصيات، حتى لو كنت عن طريق القفز الى الأمام أو العودة الى الخلف، فلا شيء يحد هذه النصوص في اجتراح طريقتها التدوينية.

    إن أهم ما في لعبة الإنتاج هي اللّغة التي هي قوام لا يبدو هادئًا رغم أنه مبنى لغوي طويل، حيث لا يشكو من ضعف الاختيار ولا يرتبك في توصيف الحيثيات، ولا تتعطّل لديه آلية لتمكين معنى اللغة، خاصة وإن المسرودة هاربة من جسد القصّة وهي هنا سيجد المتلقّي لماذا اختار هذه الكلمة (مسرودة) بدلًا من القصة التي لها اشتراطاتها  الدلالية والدالة على ميزتها وجنسها.. فهنا لعب المنتج/ شوقي في هذا الاجتراح لغايات خمسة:

    الأوّل: إنه أراد الهروب الى الأمام للتخلّص من تبعات القصة القارة التي قد تعيق مهمة اللغة التي يشتغل عليها  القاص.

    الثاني: إنه أراد البحث عن فسحةٍ يربط فيها التداخل الإجناسي القصة/ المسرح/ النثر.

    الثالث: إنه أراد التميّز وإعطاء الثريا الكبرى التي تمنح المتلقّي فرصةً للبحث عن أسباب اختيار الملفوظة، إذا ما كانت هي قصّة قصيرة.

    الرابع: إنه أراد منح نفسه حرية التخلّص من مقولة ( الراوي العليم ) وهذا لا يأتي بالاعتماد على خاصية البقاء داخل أطر القصّة القصيرة التقليدية.

    الخامس: إنه أراد التخلّص من الشكل العام للقصة، حيث بإمكانه أن يبدأ بما يريد بالإهداء أو بالإحالة أو بالنصّ أو بالترقيم أو التنجيم أو أيّ شيءٍ يأتيه لحظة التفكير بإنتاج النص.

    إن اللّعبة الإنتاجية في هذه المجموعة التي تقودها اللّغة تمنح الكثير من الحرية للمنتج لكي يبث أفكاره، وهو هنا لا يشتغل على سرد الحدث ولا يقوّي من آصرة الفكرة، بقدر ما يعتني بهدفية المسرودة التي تحتاج بالضرورة الى العناصر الأخرى التي ذكرناها. ولهذا نجد أن الاستهلال في المسرودة الواحدة لا يبدأ بالحدث، بل بالصورة الخارجية.

    (ربما كانت تراه للمرة الأخيرة ، تحدق في ذوبان جسده بين براكين الخو ف والاضطراب) قصة حصى

    (صدفةً ودون سابق إعلان، و بعد أن اندست الشمس بكرتها التي تشبه البرتقالة، بين أحضان الشط) قصة قوافل الشط.

    (هو، أبدا، لم حٌدثني ونحن نخترق باحات العويل، ومعش الرؤوس التي ما صارت تعرف غير هذه المهنة) موت اصابع الجكليت.

    (بهيبٌته الباعثة على التبجيل والاحترام، جلس محاطا بهالات ضوء، تظهر ببطء، وتتلاشى دون ان تترك اثراً) قصة عربة ماركيز المنسية.

    (فجأة، وجدت المدينة الضاجة بالاضطراب، ليلٌ نهار، نفسها غارقة بصمت ثقيل موحش) من قصة المنقرض.

    إن هذه الاستهلالات وغيرها تشي بأن المستوى التصويري هنا هو مستوى إخباري وهو مستوى قصدي أيضا، ولهذا فإن لا شكل محدّد لهذه المسرودات، ولا مساحة محدّدة لها.. فهي تقاد من قبل المنتج حيث يشاء والى أين يشاء أو يريد، وأن المتلقّي يشعر بوجود الراوي/ السارد/ الحكّاء/ القاص. وبعيدا عن الشكل العام للنصوص، فان البنائية التدوينية لا تخضع لشروط التصاعد المتسلسل،/ بل بعمليات كسر  الروي مرّة أو كسر التوقع مرّة أخرى، وهذه لعبة الإنتاج الكبرى التي تبنى عليها جميع النصوص. وهي أن لا استقامةً للجملة السردية. ولا مكانًا لا يمكن التوقّف فيه وعنده ومن أجله، ولا مساحةً لا ينتقل فيها من السارد الى الشخصية ومن مستوى الى مستوى. وهذه طريقة تحتاج الى أفقٍ واسع ليس للخيال فحسب، بل بالمقدرة الإنتاجية التي تتوافر أدواتها الأولية لدى السارد، ولهذا فإن الشكل العام وبعيدًا عن الأفكار ينبني المتن النصّي عبر عدّة مراحل.

    الأولى: التحوّل من الإخبار الى التصوير والعكس صحيح.

    الثانية: التحوّل من  الراوي الى الشخصية والعكس صحيح.

    الثالث: التحوّل من خلال اختلاق السؤال ليكون هو منطقة الانتقال.

    الرابع: التحوّل عبر منظومة الروي من الراوي الى المخاطب ومن المخاطب الى الغائب والعكس صحيح.

    الخامس: التحوّل من صورة داخلية الى خارجية / من مرحلة البحث عن حيثيات داخل الفكرة، الى مداخلة الخارج والبحث عن حيثيات الحكاية والعكس صحيح.

    السادس: التحوّل من جملة المتن الى جملة المبنى حيث الغاية والهدف في التناول الموضوعي لسياق الفكرة.

    إن كلّ هذه المراحل أنتجت لنا نصًا لا يخضع لشروط القصّ ولا يبتعد عنه، ولا يغرق فيه أيضا.. ولهذا فإن النصّ السردي قد يجد له طولًا في الكثير من الأحيان وهنا  الطول ليس اشتراطيًا خاضعًا لحاجة المتن الى ذلك، بل لقدرة المنتج على أن لا شيء يخونه في التعبير ولا يمنعه من إعطاء الحركة السردية قوامها وخارطتها، ولهذا يلجأ في الكثير من الأحيان الى وضع الترقيم تارةّ أو الاستمرار في تصاعدية الحدث تارةً أخرى، مثلما يتوّج اللّغة بأنها هي مفتاح الحل والانتقال والتحوّل من أجل منح اللّذة النثرية قدرة الولوج الى الشعرية التي تمنح المسرودة بحسب اشتقاقه قوامها الخاص به. وتلك هي المحصّلة التي يريد من المتلقّي البقاء في داخلها وعدم المغادرة.

     

     

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: اللعبة اللغوية في مسرودات عربة شوقي كريم ..الناقد /علي لفتة سعيد Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top