لابد أن نقر بأن فلسفة الزمن تلعب الدور الاساس في بنية الكتابة الأدبية, وتحول الكتابة من نمط الى اخرو لابد من توفر عوامل تأهيل, وعلى وجه الخصوص التحول في المسار الزمني من مرحلة الحداثة الى مرحلة ما بعد الحداثة, فالحداثة هي الاصول التي ثبتت الكتابة الادبية معياريا, واوجدت اطار للكتابة تملكها مقدرة التعيين, ومن هناك انطلق الجنس الادبي وتبلور الموقف التجنيسي, لكن ذلك لم يعارض تنوع المضامين الادبية, والكتابة الادبية انقسمت ما بين الخيال الحر والذي يمثله الشعر اساساً, وفي الفنون التشكيلة او الرسم, واما الخيال المقيد فتمثل في القص القصير والرواية والسينما, وقد اهتم الذوق الادبي بالسعي لمعالجة ادبية للحكاية والتاريخ, والقصد هنا ليس لأبعاد الذاكرة او ازاحتها, لكن كي يكتسب الاثر المكتوب حسا ادبيا, وبما أن الحكاية هي مادة التاريخ, فكان أن تكون القصة مادة الادب, والتي اعتمدت اساسا على الوحدات السردية من اجل اعادة انتاج الحكاية ادبياً, والقصة لا تعود بنا من خلال الحكمة الا لهرمس, ومن خلال المفارقة الى اشعب, ومن خلال تلاقي القيم الجوهرية بين المتخيل والحقيقي في الف ليلة وليلة, والتي تعتبر الصيرورة الباهرة لفن القص, والتي تمنى بورخيس وقبله الفيلسوف الفرنسي فولتير الى نسيانها لإعادة قراتها من جديد, وما كان نجاح رواد القصة العالمية من مثل موبسان, ومن بعده الطبيب الملهم بكتابة القصة, واتجاها الى ساحر الحكايات بورخيس, والذي اصبح بؤرة او نقطة التقاء المواهب, وهو صراحة اهم من برعم في خلق حكايات ساحرة تخرج من رداء الواقعة للتوجه الى الفلسفة ومن ثم الى التاريخ, ولقد تطور فن القصة تقنيا ولسانيا ايضا, واستوقفنا شوق كريم امام صناعة متفوقة جدا عبر الكتابة القصصية الجديدة لدية, وكانت المسرودات القصصية – عراقوش – لحظة فاصلة في هذا الفن السردي .
شكلت تجربة
الكتابة عند شوقي كريم في مجموعة – عراقوش – اولا بلوغ الوعي الادبي اقصى مراحله, وثانية
نمط من التجارب التي تقدم لنا مفهوم النص اولا و ثانيا تقدم مفهوم الجنس او القص, وثالثا
يتمثل في مشتركات عدة من مما تتصف به
ظاهرة ما بعد الحداثة, ومنها من يرتبط بفقدان مؤشر الواقعية, ليكون المفترض القصصي
نوع من التخمينات الواقعية, وايضا هناك العامل النفسي ازاء انهيار مؤشر الواقعية
وتغير فكرة الحقيقة وتوسع موقف الزيف, والقصة تهدف الى بلوغ حد من التفسير على
إنها تلك الكينونة التي تمثل حقيقتها بصدق ادبي, وليست تعنى الا بالمفارقة التي
برزت بتميز في تمثيلها للواقع العام, والتي هي تدخل في توصيف يعني وجود اشكال
لساني في الجملة القصصية او فعل القص, ونحن تصدينا الى ذلك في عدة كتب في المعرفة
اللسانية, وهنا في تفسير الموقف اللساني في القصص نتناولها واحدة بعد اخرى, وفي
اول القصص – كوميديا الوجوه – هناك ازاحة اولى ابدتها العنونة, وبذلك قد وجهت
المتن القصصي الى اقصى مستويات التفسير, وانسياب نفس الحكي في دخوله في جمل القص
يدخل في مجال التصنيف اللساني من جهة قيمة اللغة, ومن جهة المعنى الادبي في بنية
القصة هو ايضا قد دخل في افق التعدد السيميائي وتداخل التواريخ, ففي المستهل
القصصي وجهنا جملة تؤكد وجود زمن يمحو ما
سبقه من زمن, ووجود معنى جديد يقوم بإلغاء المعنى السابق, وتشكل جملة المستهل (السيناريو
لعبة تتكرر عبر الازمان دون طلب من أحد ) ذلك التعريف المعرفي وليس البياني القصد,
وهنا يتضاعف افق التفكير ويتطور, وهذا يعني عند البنية الظاهرية هناك عدة مستويات
صوتية مختلفة زمنيا .
تشكل الجمل
السردية عدة افعال مختلفة في بنية القصة, وايضا يختلف المستوى الصوتي للجمل
السردية ومنسوب التاريخ ايضا, لكن بنية النص القصصي بقيت متماسكة بالرغم من انتفاء
مؤشر الواقعية, وتداخل التواريخ وتعدد الازمنة, والقصة اتجهت الى استدراج مضمون
فلسفي لعدة افكار وردت مسرودة, وبذلك تمكنت من الغاء اهمية مؤشر الواقعية الى حد
كبير, وجذبت نحوها نماذج من الحقائق الكبرى,
فمسألة القربان التي افضت الى نتائج من الكوميديا السوداء, وكذلك ازمنة
وافعال سرد كل من المدون وشخصية ياكو وكاتبها شكسبير, والذي اهلته بنية القصة
المتداخلة التواريخ, الى الدخول ككيان مكتوب وشخصية ورقية خارج توصيفه التاريخي
المعروف, وكذلك الشخصيات المرقمة بالأول والثاني والثلث والرابع والخامس وصاحب
الكرش المكدور, وتلك الشخصيات دخلت الى بنية النص بالشكل المسرحي الذي عهدت عليه, وقد
لعب صاحب الكرش المكدور الدور الاساس في التمثل كبؤرة جذب, وكانت جميع الشخصيات
المرقمة تنجذب اليه مؤتمرة وممتثلة مطيعة,
ذلك ما فتح افاقاً مضافة لواقع وفضاء النص القصصي, وقد تعددت وتنوعت بذلك
ايقاعات الفعل السردي, و انتهت اللعبة بعدما تأكد انحدار مؤشر الواقعية الى ادنى
مستوياته, وذلك بعد تلك الدعوة الى الحاجة الى الكثير من الاقنعة, والقصة تنبهنا
بأن مفهوم الحقيقة ضاق افقه, فيما مفهوم الزيف قد توسع كثيراً .
يتواصل نسق السرد
في القصص لتغريب مؤشر الواقعية من اجل توسيع افق الاستدلال, وعدم تحنيط المعنى, بل
استغلاله في افكار عدة, سيان متفقة او متعارضة, ليكون لبنية النص القصصي
الكبرى وحدات نصية تمازجت عبر تأهيل الوعي
القصصي له, وفي قصة – كوميديا الشيطان – هناك عدة محاور وزوايا سرد تتبدل من خلال
الشخصيات, فمن رضيوي حمار البيت الى فرج الدسم, ومن ثم الى المله رشك السفاط, ونعود
اولا الى لسانيات اسماء الشخوص, فهي ليست الا تحيل التلقي الى التأمل او البحث عن
تفسير لتلك المسميات, والتي بدورها تجعل تدني مؤشر الواقعية ينخفض اكثر, وهذا
الذ ي نسميه – الاغتراب اللساني – لواقع النص
واسماء الشخوص, ويستمر ذلك الاغتراب اللساني بالاتساع المؤدي الى احاطة ميتا من جهة تعدد المتون
السردية, ومن جهة دعم تدني مؤشر الواقعية وانخفاضه, ففي قصة – كوميديا الفائز – نواجه
المستهل بعنونة تشير الى – مشهد الحكاء ذرب – ومن الطبيعي يتضاعف الاغتراب اللساني
اذا تستهل القصة بهذه الجملة المتطرفة لسانيا, لكن المعالجة عدلت في القسم الثاني
من القصة, فكانت العنونة – مشهد الفعل وخرجه – وهي بحد ذاتها احد موجهات رولان
بارت النظرية, لكن في بنية القصة ومضمونها اتجهت الى معنى مختلف وقصد اخر, ومركز
القصة هو الكهانة, لكن المعنى القصصي ارتبط بالهموم والقهر والألم, وف قصة – كوميديا
التوحش – نقف عند المفردة الأولى التي تكررت في عتبات القصص السابقة وستتكرر ايضا,
فهي بنفس يختلف عن لون الرداء التي تتلفع به, فالرداء اسود او كالح, ويحيلنا الى
الحزن والقهر والألم .
نقف على بنية
القصة التراكبية في قصة – كوميديا الممثل – هناك ثلاثة نصوص بثلاث عتبات داخلية, والشخصية
المحور هي شخصية الممثل, والتي تدور حولها التفاصيل والمعاني, وعندما تكون الشخصية
المحورية كيان ممثل, وهذا يعني دخلت حقيقة النص في مجازات متعددة الوجوه, وهذا ما
يفتح افاقا مع الوعي القصصي, وتجربة شوقي كريم مؤهلة عضويا لبلوع تلك الافاق
واستثمارها, وهناك نتجت من القصة ثلاثة نصوص تتجه جميعا نحو شخصية الممثل بكل
المقومات الواقعية والنفسية, وعلى وجه الخصوص ذلك المحمول الهائل للألم, فلبس
الممثل الاقنعة, واكتظاظ المسرح بالمصابين بالعمى, وتلك الصيحات السرية من شدة
القهر والألم, وصراحة تقنيا ومنهجيا ومعرفيا ولسانيا نحيل بنية النص الى مقاربة
نوعية مع مسرح العبث, والتي استغلها في بنية السرد شوقي كريم بالشكل المناسب, وتشترك
ايضا في الغايات الفنية قصة – كوميديا الارباب – لكن هنا بدلا من شخصية الممثل
الذي يقدم لنا المفترض على أنه حقيقة, هنا شخصية العارف, والذي هو كتلة من النور
المتدفق جوهريا, والذي يصعد بهذا النور من مرتبة الى اخرى, والذي يتطلب مواكبة نوعية في بناء هكذا شخصية, و هنا
لابد من الاشارة الى الحس الايديولوجي للوعي القصصي, لكن على مستوى الاحتجاج
وعارضة تلك الفوضى التي تسير بنا ليس فقط الى الوهم بل الى الضياع, وفائض الحقيقة
الجوهرية انقلب هنا الى فائض المعنى . يستمر تدفق مسميات وجمل وافعال وسرد نمط
الاغتراب اللساني, والذي هو احد مفاهيمنا الجديدة, وقد برع في ذلك النمط ادغار
الان بو ومن ثم بورخيس, واستطاع بو اعطائه معنىً مهما في سياق الكتابة القصصية, وكما
اعطاه بورخيس ميزة تحرير الزمن من الاستقامة والتوجه الواحد, فكيف بنا ونحن نسمع
ساعة القتيل في قصة ادغار الان بو, وكيف بنا ونحن ندخل من مفهوم فلسفي بعد أن
خرجنا من اخر في مكتبة بابل, فاللحظة الزمنية ايضا قد استغلها شوقي كريم, وابتعد
عن الواقع المشهود الى واقع متخيل, ومن لغة مدركة الى لغة لسانيا الى تأمل ومفارقة,
ففي قصة – كوميديا العاشق – اولا المستهل اوقفنا من جديد على الشخصية التي يتدفق
من خلالها النور والتحرر من الزمن العضوي, ومن البداية نجد هناك ميتا, او حسب
مقتضبات لغتنا هناك احاطة نص باخر, فقد دس العارف بيد شخصية السارد مخطوطة قديمة, ومن
ثم تتجه بنية القص الى حوار الجوهر والاقع, لكن التفسير اللساني لجمل الحوار
يحيلنا الى ذات المعنى الادبي الذي تتصف به لغة العارف, ومن ثم تلوح لنا لافتة
المقطع الثاني, ويتطور مجاز اللغة, فالجد عاد من حرب البلقان, والذي زرع سدرة التي
هي المثال النباتي لخطوات ادم, وفي المقطع الثالث يكون هناك جدل بين قدرة الرؤية
لاستيعابها الرؤيا, وفي المقطع الرابع تكون المرأة هي النخلة البشرية, والتي تتميز
بواقع اغتراب لساني بصفاتها ومعناه, ولكن هي تتمكن من تحيد الوجهة .
من الصعوبة في
هكذا نوع من الكتابة القصصية, تكون مسألة تحيد نسق خطاب القص بيسر, فأنت امام نص
دائري زمنيا, وفي التحديد العضوي ثمة صعوبة اولى تتمثل في نسق اللغة, فاللغة تسير
في مسار الواقع قبل لحظة الدهشة, ومن ثم تتخلى عن ذلك المسار لتظهر جنحي الفراشة
ومرة تحلق في فضاء الرؤيا والحلم, ومرة اخرى تكون في فضاء النور خارج الزمن العضوي,
ولا تحتاج هنا حتى الى جنحي الفراشة, وليس من السهل أن يحتمل نص الكتابة تلك الصيغ
الفنية للغة والتفاصيل والافكار والحدث القصصي, لكن للغة ملكة كما يرى جومسكي ونرى,
من الممكن أن تؤهلها الى اقتباس اي افق دلالي, حتى لو كان هناك صلابة عضوية, وقد
اهل الاغتراب اللساني لغة القصة لقلب البلاغة حتى وانتاج بلاغة جديدة, ففي اخر
القصص – كوميديا الخنفساء – والتي هي عبارة عن خلطة متجانسة لمعان تختلف الواحدة
عن الاخرى, وتبل حتى التعارض في المضامين, فصياح احدهم الذي يأتي من بعده صياح
احدهم المختلف, منح القصة طاقة جدلية مهمة, وذلك الجدل يصب في الخيط الخفيف الذي
تمتد به صراخ الاحتجاج الى ما لانهاية, وتنمو داخلها معاني الألم والقهر, وكذلك
ابدت تلك المشاعر والاحاسيس المتعددة الوجوه والمقاصد والغايات, والتي منها ما هو
متعارض, رسمته لنا اللغة بصيغ تعبيرية دالة, ومنها ما هو يتفق ولا يضع لصرخة
الاحتجاج من حد معين .
0 comments:
إرسال تعليق