• اخر الاخبار

    الأربعاء، 22 فبراير 2023

    " عراقوش " ..إضاءة المُعتم في منطقة اللاوعي للروائي شوقي كريم حسن ..بقلم : غانم عمران المعموري

     

                                                         


    عندما يمتلك الكاتب رؤية فلسفية واعية منطلقة من مرجعيات ثقافية تشكّلت نتيجة البحث الحثيث والمتابعة المستمرة لكل ما يُطرح في الساحة الغربية والعربية ومسامرة الحروف والكلمات الّتي ما انفكت عن مُداعبة شفتيه البراقة, تواسيّه ويواسيّها حتى أصبحت فكرة التمرد والتغيير كائنة في ذاته بل أصبحت جزءا لا ينفك عن شخصيته التي لا تأبى الحيّف والظلم, يصرخ في الليل والنهار فتتعالى الموجات الرافضة وتطلق جوقة من السهام برؤوس ناريّة تحرقُ المختفين في جحور السياسة والمُتلاعبين بمصائر الناس وتخنق المنتفعين والمتملقين والسماسرة وعُبّاد الزيّ المُدنس.. حملت ذاته الذائبة بحب الفقراء والمهمشين والبُسطاء من الناس فكرة الناطق بلسان الحق وقذف الباطل, فحتمية التغيير أصبحت هاجسه الوحيدة من خلال الكلمة الّتي هزّت عرش الطُغاة على مرِّ السنين.. لذا جاءت ( عراقوش ) للروائي والسيناريست شوقي كريم

     

    حسن لتُمثّل ذلك الوهج والجمرة الّتي يقبض عليها الشُرفاء من الناس في وسط حقول ألغام من الفاسدين وسُرّاق المال العام والجهلة والمتخلفين والمُبجلين تحت عباءات الشياطين .. جاءت لسان حال الفقراء والمضطهدين والمُثقفين الصامتين.. جاءت في وقتٍ قَلَّ فيه المصلحين وفي وقتٍ الكل يرتقب مُصلحاً يأخذ معول الحقيقة ويُهدم أصنامهم ويضع الفأس في رقبة كبيرهم..

    عراقوش عنْونة جاءت بتعريفٍ وايضاحٍ مقصودٍ من الكاتب لعلمه المسبق بأنَّ المتلقين همّ شركاء الكاتب في تحمّل الحيّف والظلم والاضطهاد في بلدٍ تكالبت عليه اللصوص وقُطّاع الطرق والعصابات, كما تمكن من خلال تلك العنْونة تحرّيك الرواسب في منطقة اللاوعي لدى المتلقي وجرَّه دون شعور إلى التَمعن وقراءة المخفي فيها ما بين السطور.. إلا أنَّ قصص المجموعة تحتاج إلى قارئ فطنٍ ومثقف وليس قارئ عادي حتى يستطيع الوقوف وكشف بواطن الابداع والتقنيّة الّتي استطاع الكاتب نهجها في مسرودته.. المزّج بين فنون مختلفة وتحويلها من خلال قوة حيّاكته إلى سرّد نثري تتسامى فيه الحبكة والتجريب والمُغايرة فلم يكُ سرداً تقليدياً يكتبه الكثير من القصاصين وإنما امتاز ببصمته الفريدة

     

    في تتبع وجريان الأحداث من خلال أسئلة فلسفية وجودية والتلاعب في الألفاظ بما يخدم الفكرة الّتي يُريد إيصالها, يجد المتلقي نفسه كأنه يجلس في مسرح ويتفرج إلى ممثلين يؤدون الأدوار بكل براعه ويسمع الأصوات ويرى الأضواء تنطفئ وتتوهج وحتى الموسيقى استطاع المتلقي التقاطها من خلال السيّل المتدفق من الصور الشعريّة والانزياح.. فقد جعل شوقي كريم للكلمة احساس وشعور وقوة وضعف وفرح وحزن وكأنها كائنٌ حيٌّ يتجول بيننا..

     

    السرّد المُرصَّع بالصور الشعريّة                                               

    يبتعد الكاتب شوقي كريم عن اللغة العادية والمباشرة الّتي تُحاكي الحياة اليومية و يميّل إلى اللغة الّتي تقترب من الشعر وذلك للتعبير عن الذّات واعتماده على الإشارة والتوصيّف في سير وتتابع الأحداث بامتزاج الواقع بالمتخيل مما يضفي على البناء الفني للقصة الروح والحيّوية والمُحاكاة غير المباشرة لمختلفي الميول والرغبات والهواجس.. كما أنه خلق تجانس وتناغم بين الألفاظ وبإيقاع موسيقي وعلاقات تركيبية تنبني على الانزياح وقد ورد في كل قصصه والّتي

     

    حققت طفرة نوعيّة وقفزة على مستوى التركيب البنائي الزاخر بالمعاني والألفاظ الأنيقة كما في ( خيم هدوء حذر على الوجوه الطافحة فوق سيول من الدهشة والخوف ص 19, وبتؤدة طرقت الأبواب المستحمة في وهج رعبها متذوقة باشتهاء بقايا صيحات الاعجاب المتعالية ص47, أجوس هلوستي, هز جسدها زمهرير الليالي, لا نتفضت لاعنةً غربتي ولا نسلت مواجهة رياح اضطرابي الهوجاء, لو استطعت ازالة خطاي المرتبكة, صرخت تنهشها رياح حلمها, مشوشة تعصف في اعماقها ريح, تتحرك أعماقي المشلولة التي طالتها معاول التهشيم دون قبول ورضى مني, اقتعدت دون رفقة اشلائي طرف الساحة المتناثرة وجوه كدرتها ومضات الهلع,...) قصص تضمنت في طياتها الفاظ زاخرة بالانزياح مما يعطيها صفة القبول والتلذذ من قبل المتلقي الّذي يتحسس الصور البلاغية وجماليتها ضمن حوار مونولوج يكشف تأزم الّذات واحتقان الألم والحزن في مخيلتها نتيجة التراكمات والاحداث الاجتماعية والسياسية لكن الّذات لم تك تتعذب لأجلها وإنما يستحوذ ويُخيم  عليها الحس الوطني والشعور بالمسؤولية اتجاه الناس والبلد الّذي ولد فيه وارتوى من مياه أنهاره لذا فإن الذات المكروبة والثائرة تتشظّى إلى

     

    ذوات جمعية.. لذا استطاع شوقي كريم الانتقال والتغيير الجذري في البُنية الفنية السردية التقليدية ودخول مرحلة التجريب الحقيقي من خلال المزج بين جميع الفنون الأدبية ليخرج لنا بحلّةٍ جديدة وهو يصور لنا الواقع الاجتماعي والسياسي في البلد بأسلوب متفرد ومتميز وعندما تقرأ قصصه فإنها تخلو تماماً من الإخبار والتقرير فهو حكّاءٌ بامتياز وكأن الكلمات لم تخرج إلا من صرّته الخاصة  ومن خزائنه ومجوهراته الثمينة.. فكان لكل كلمة صدى وهدف وغاية، وبذلك استطاع الكاتب أن يرسم لنا صور شعريّة مكتملة تعتمد  على التصوير المشهدي والخيال   بعباراتٍ دالةٍ يستطيع من خلالها المتلقي التقاط المشهد ذهنيًّا..

     

     

    تأثير السينما والمسرح  والمسلسلات في السرد التجديدي                       

    يتضح من خلال  مسرودات شوقي كريم البُعد السينمائي في سريان الأحداث والحوارات الّتي تتسم بالمشهدية والحرّكية وتسليط الأضواء على نقاط مُعتمة وتجسيد الشخصية من خلال الاطلاع على تقنية الكاميرا وكيفية التنقل من مشهد إلى آخر والتلاعب في

     

    القرب والبُعد وكل ذلك استطاع الكاتب من خلال  خبرته في فن السينما والمسرح وتجاربه في تأليف مسرحيات ومسلسلات تلفزيونية و ملاحظته الدقيقة لحركة الشخوص والتنقل في الكاميرا والمؤثرات الصوتية والمونتاج وغيرها من مراحل التي تتبع أثناء العروض المسرحية كل ذلك كان له الأثر الواضح على مسرودات شوقي كريم  التي تميز بها عن غيره من القصاصين .. هذا من جانب ومن جانبٍ آخر فأنه استطاع من خلال أسلوبه التجديدي في السرد  خلخلت القواعد والنظم والاساليب التي كانت مُتَّبعة في السرد التقليدي..

         اتخذ شوقي كريم أسلوباً مُغايراً ومتمرداً على القوالب الجاهزة والأطر الضيقة والتلاعب في البنيّةِ الفنيّةِ السرّديةِ من خلال مزج الواقع بالمتخيل وتناول ثيمات مختلفة وربما شاملة تتعلق بهمِّ ووجعِ الفرد العراقي ولا سيما طبقة الفقراء والمهمشين فهو لسان حالهم وبخطابٍ لغويّ وفلسفي أشدُ تركيزاً في التدقيق والتحليل والكشف والمعالجة لكل ما يتعلق بتيار الوعي ..

     كما أنه بدهاء وحكمة أدخل المتلقي إلى صالة العرض المسرحي ومشاهدة الشخوص وهي تتحرك، تتقدم

     

    وتتأخر، تضحك وتبكي وحتى الحركات والافعال استطاع ترجمتها بأسلوب فني ابداعي.. فقد قدم لنا عملاً أدبياً تجريبياً من خلال نقل تقنية المسرح والعروض وأدوار الفنانين وسحنات وجوههم وتعابيرهم والأضواء التي تتنقل على خشبة المسرح والظل وكيفية وقوف الشخصيات وطريقة تحاورهم والموسيقى والغناء والانتقال في الثيمات التي شملت مأساة الحروب والفقر والظلم والجهل الّتي عاشتها الأجيال قرابة عدة عقود وتسلط الحكام وطغيانهم ولكن بطريقة ممتعة وبنقدٍ لاذعٍ وسخرية من خلال عناوين تُشكّل سلسلة متكاملة من فضح المخفي والمسكوت عنه ونبش جيفة السُرّاق والمرتشين والمزورين وكشف اساليبهم القذرة ومعاناة المضطهدين التي لا تنتهي في هذا البلد الذي يسمى وطناً كما ذكرها في ألم وقهر وعذاب شوقي كريم في نهاية أوجاعه ( البحث عن معنى وسط هذا الخراب الذي يسمى وطناً لا فائدة منه، إنها مجرد مغامرة للتحول من ذات فاعلة إلى رقم خامل وجدار شيطاني ترسم على سطحة خطوط ايامك، مدونا. – يا قارئ كتابي ... إن حالك الحظ وخرجت من هذا الجحيم تذكر أن هناك في دائرة الغياب من كان مثلك يحلم بالمسرات لكنها قتلته عنوة دونما سبب

     

    وجيه!!.

    كوميديا بأنواعها وثيماتها تذكرنا بأوجاعنا وتنبش القابع في اللاوعي وتصرخ بحناجر الفقراء والمهمشين والمظلومين وتكون نار الرعب الّذي يُلاحق الفاسدين.

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: " عراقوش " ..إضاءة المُعتم في منطقة اللاوعي للروائي شوقي كريم حسن ..بقلم : غانم عمران المعموري Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top