لكيان الاحتلال "الإسرائيلى" حكومتان ، واحدة فى فلسطين المحتلة ، والأخرى فى واشنطن ، وزيارة وزير الخارجية الأمريكى "أنتونى بلينكن" الرابعة إلى المنطقة ، والخامسة لكيان الاحتلال فى الثلاثة شهور الأخيرة ، لا تعبر أبدا عن رغبة أمريكية فى وقف حرب الإبادة الجماعية "فى أقرب وقت" كما زعم "بلينكن" ، ولا فى تسهيل انسياب المساعدات الإنسانية لمئات آلاف الضحايا فى "غزة" ، ولا فى إعادة النازحين من الجنوب إلى الشمال ، ولا فى تقوية سلطة "رام الله" ومنع انهيارها ، ولا فى فتح طريق إلى ما يسمى "حل الدولتين" ، وإقامة دولة فلسطينية فى غزة والضفة الغربية .
وقد لا تبدو
من حاجة لأدلة مضافة على حقيقة "الإندماج الاستراتيجى" بين تل أبيب
وواشنطن ، وهى الحقيقة التى ظهرت خازقة لعيون الغافلين منذ 7 أكتوبر إلى اليوم ،
وهو ما عاد "بلينكن" لتأكيده بوضوح ، بعد لقائه مع مجلس الحرب و"بنيامين
نتنياهو" رئيس وزراء تل أبيب ، وقال إننا ـ أى واشنطن ـ نفعل ما نستطيع حتى
لا يتكرر هجوم 7 أكتوبر على "إسرائيل" ، أى أن الدنيا كلها عنده توقفت
فى 7 أكتوبر ، حين شنت المقاومة الفلسطينية هجومها المزلزل على كيان الاحتلال ،
ولم يلحظ أبدا ما جرى قبلها ولا بعدها ، ولا رأى شيئا من شلالات الدماء وزلازل
الدمار فى "غزة" ، ولا حملات القصف والإبادة الجماعية للفلسطينيين ، ولا
استشهاد وجرح وفقد قرابة مئة ألف فلسطينى إلى اليوم ، ولا الإفناء الشامل لكافة
موارد ومقدرات الحياة ، ولا التجويع والتعطيش والإظلام بالجملة ، ونزوح أكثر من
ثلثى السكان إلى الشوارع والخيام البدائية ، وعذاب الأبرياء وتقطيع أشلاء الأطفال
والرضع والنساء والشيوخ ، واعتبر ذلك كله ـ وغيره ـ مجرد متاعب إنسانية عارضة ، لا
ترقى فى نظره إلى جرائم حرب ، ولا إلى إبادة جماعية وتطهير عرقى ، وهاجم دعوى "جنوب
أفريقيا" إلى محكمة العدل الدولية ، ووصفها بأنها "بلا أساس" (!) ،
فكل ما يعنيه فى البدء والمنتهى ، هو مصلحة "إسرائيل" ، وهو الذى زار "إسرائيل"
عقب هجوم السابع من أكتوبر ، وقال فى سفور : "جئت إلى هنا كيهودى" قبل
أن أكون وزيرا لخارجية واشنطن ، ولم يقصد وقتها تبيان ديانته المعلومة ، بل قصد
إشهار هويته كصهيونى ، وهو ذات ما فعله رئيسه "جو بايدن" الذى ليس
يهوديا ، لكنه يفخر بصهيونيته القحة ، ويقول بصراحة "لو لم تكن إسرائيل
موجودة لاخترعناها" ، وهى ذات عقيدة الأغلب الأعم من شخوص إدارة "بايدن"
اليهود وغيرهم ، وفى ذات الوقت ، الذى ذهب فيه "بلينكن" مجددا للقاء
رفاقه فى مجلس الحرب "الإسرائيلى" ، ونقل إليهم نصائح حكومة "إسرائيل"
الأعلى فى واشنطن ، وكرر تأكيده أن واشنطن لا تطلب وقفا فوريا للحرب ، كان "جون
كيربى" منسق الاتصالات الاستراتيجية فى البيت الأبيض ، يعيد تأكيد أن واشنطن
لا تضغط من أجل وقف الحرب "فى الوقت الراهن" ، وكان الرئيس "بايدن"
نفسه محاصرا باللعنات فى كنيسة ، وبالصيحات الملحة على وقف حرب الإبادة الجماعية ،
وكان رده "أننى أعمل بهدوء مع الحكومة الإسرائيلية لحثها على تقليص حجم
العمليات العسكرية والخروج بشكل ملحوظ من غزة" ، أى أنه لا يريد إصدار الأمر
الفورى بوقف الحرب ، بل يسعى إلى تغيير الطريقة التى تجرى بها الحرب ، والتحول إلى
ما يسمونه "المرحلة الثالثة" ، وتقليل حملات قصف وإفناء السكان ، وإجراء
"عمليات جراحية" موضعية ضد قوات "حماس" والمقاومة وحدها ، وهو
ما ووجه باستهجان وزراء حكومة "نتنياهو" ، وتكرار الادعاء بأنهم يفعلون
ذلك ، وأنهم انسحبوا من أغلب مناطق وأحياء مدينة "غزة" بعد تدميرها ،
لكنهم يمانعون فى طلب عودة النازحين الفلسطينيين ، وكانت محصلة النقاش كما أعلن "بلينكن"
نفسه ، هى السماح ببعثة تقييم من الأمم المتحدة ، تزور شمال "غزة" ،
وتبحث إمكانية عودة النازحين إلى الشمال ، وإن كان "بلينكن" لا يتوقع ـ
كما أعلن ـ أن تتم العملية بين عشية وضحاها ، أى أنها مؤجلة إلى وقت غير مسمى ،
وقد لا تكون واردة أصلاعند واشنطن وتل أبيب ، مع تصاعد أصوات فى حكومة "نتنياهو"
، تطلب إقامة مستوطنات يهودية فى شمال "غزة" ، والمحصلة ببساطة ، أن خطر
تهجير الفلسطينيين المكدسين فى "رفح" جنوبا لا يزال قائما ، رغم إعلانات
أمريكية مراوغة عن رفض التهجير خارج فلسطين (!) ، وعن ضرورة إحلال سلطة رام الله
فى "غزة" ، بعد أن تنتهى الحرب ، وهو ما ترفضه حكومة "نتنياهو"
، وتطلب إحلال إدارة عميلة بمعرفتها ، بعد أن تنتهى مهمة القضاء على "حماس"
فى حرب متصلة لمدة عام إضافى .
والصورة
الظاهرة بغير رتوش ، أنه لا خلاف جوهرى ولا شبه جوهرى بين حكومتى "إسرائيل"
فى تل أبيب وواشنطن بصدد المقاصد الاستراتيجية السياسية والعسكرية ، بل هى محض
مناقشات داخلية وراء الكواليس غالبا ، وتوزيعات أدوار على المسرح الأمامى ، دفعت
إليها محنة ومأزق العدو "الإسرائيلى" الأمريكى ، بعد أن دخلت حربهما على
غزة شهرها الرابع ، ومن دون أن تتحقق الأهداف المعلنة ، فلا القضاء على "حماس"
والمقاومة يبدو واردا ، حتى لو استمرت الحرب الهمجية البربرية بطول وعرض سنة 2024
، ولا فرصة لإعادة المحتجزين الأسرى بالقوة المسلحة ، ولا لإقامة إدارة عائلات و"حمائل"
فى "غزة" بعد الحرب ، وقبل أيام من قدوم "بلينكن" إلى المنطقة
، كان "جون كيربى" قد أعلنها ، وقال أن "حماس" لا تزال تحتفظ
بقدرات قتالية كبيرة ، وأن إفناء "حماس" يبدو مستحيلا ، وأن على واشنطن
أن تتقبل استمرار فكرة "حماس" فى الوجود ، حتى وإن ذهبت خارج السلطة ،
فما يفزع واشنطن هو ذاته ما يفزع "إسرائيل" ، ورغم حشد واشنطن لكافة
قدراتها العسكرية الكونية ، ووضعها مباشرة فى خدمة حرب الإبادة الجارية ، وتشغيل
جسورنقل جوى وبحرى للسلاح والذخائر ، والدعم المتدفق بعشرات المليارات من
الدولارات ، فإن شيئا لم يتحقق لصالحهم عسكريا ، رغم استطالة مدة الحرب ، وهى أطول
حرب عربية إسرائيلية متصلة أيامها وعنفها الجنونى ، واستخدامها لأعقد التكنولوجيات
، وأكثر الأسلحة والصواريخ والقنابل الذكية والغبية الفائقة التفجير ، ورغم الدمار
المهول الذى لحق بغزة وأهلها ، فلا يزال الصمود الأسطورى للشعب الفلسطينى يتحدى
آلة الحرب الأمريكية الإسرائيلية ، ولا تزال المقاومة تواصل ملاحم إبداعها القتالى
المذهل ، وبصورة قلبت كل الموازين المتعارف عليها عالميا ، فرغم انعدام التوازن
العسكرى بأى معنى حسابى ، فلم تفلح الآلة العسكرية الرهيبة ، إلا فى آلاف مجازر
قتل المدنيين العزل ، فى حين ظهر عجزها فادحا فاضحا فى قتال الرجال وجها لوجه ،
وتكبد جيش الاحتلال خسائر غير مسبوقة ، جاوزت تدمير الألف من آلياتها العسكرية
وناقلات الجند والدبابات والطائرات المسيرة ، وبأسلحة صنع غالبها ذاتيا فى أنفاق "غزة"
، وجرت أوسع مقتلة جماعية لضباط وجنود جيش الاحتلال ، لم نشهد لها مثيلا منذ حرب
أكتوبر 1973 ، وعلى نحو نشر الذعر فى صفوف جيش الغزاة ، الذى جرى إذلاله ومرمطة
نخبه فى ساحات القتال ، وبحسب إعلانات الجيش "الإسرائيلى" نفسه ، فقد
أصيب تسعة آلاف ضابط وجندى بعاهات نفسية وعصبية ، ووصلت أعداد الجرحى والمصابين
والمعاقين إلى ما يزيد على 22 ألف بحسب إعلام العدو ، والأرقام فى الحقيقة أعلى
بكثير ، ولا تتضمن أرقام قتلى المرتزقة المحاربين مع جيش الاحتلال ، وعلى نحو دفع
الغزاة إلى الجلاء قسرا عن أغلب أحياء ومخيمات مدينة "غزة" ، فيما يغرق
جيش الاحتلال فى رمال وأوحال وأفخاخ أنفاق مدينة "خان يونس" ، ومن دون
الوصول إلى أحد من كبار قادة "حماس" و"كتائب القسام" ، ربما
باستثناء ادعاء العثور على "فردة حذاء" ، يدعون أنها قد تعود إلى "يحيى
السنوار" قائد "حماس" فى "غزة" ، ويجهل هؤلاء الأغبياء
ثقافة الشهادة المقدسة عند الشعب الفلسطينى ، فحتى لو وصلوا أو قتلوا "السنوار"
نفسه ، فلا يعنى ذلك إلا مضاعفة وتيرة المقاومة ، التى تفاجئهم وتذهلهم وترعبهم من
فوق الأرض ومن تحت الأرض ، وتدفعهم لإطلاق النار عشوائيا ، حتى على جنود وضباط
جيشهم ، وكأن الله يعذبهم ويقتلهم بأيديهم قبل قذائف المقاومين ، وهم يمضون فى
المتاهة على الطريق المسدود ، وتعلو صيحاتهم الملتاثة المطالبة بحرق "غزة"
، بينما هم الذين يحترقون ، وهو ما تدركه أكثر حكومة "إسرائيل" فى
واشنطن ، التى تحاول إنقاذ إسرائيل من مضاعفات لوثة حكومة تل أبيب ، وتذكيرها
بمخاطر الانزلاق الأعمى إلى الهاوية ، وإسداء النصائح بالتوقف الجزئى عن الجنون
الحربى ، الذى ترك واشنطن ذاتها فى حالة عزلة أخلاقية دولية ، بعد الهزيمة التى
تلحق بها فى فلسطين ، كما تلحق بها فى حرب أوكرانيا .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق