سحب "إسرائيل" للفرقة (36) من "غزة" لن يكون الخروج الأخير ، فمع بدء التوغل "الإسرائيلى" بعد عشرين يوما من هجوم "طوفان الأقصى" المزلزل ، ومع الاندفاع الجنونى لتدمير كل "غزة" بشرا وحجرا ، تواصلت زيادة عديد قوات الغزو ، وإلى أن بلغت نحو ست فرق ، وبما يزيد على 120 ألف جندى ، أغلبهم من لواءات النخبة ، وتراجع العدد اليوم إلى النصف ، بعد تضاعف الخسائر البشرية لجيش الاحتلال ، وفشله المتراكم فى شمال القطاع ومخيمات الوسط ، وتعثره المتصل فى "خان يونس" عاصمة الجنوب ، رغم محارق الإبادة الجماعية ، التى راح ضحيتها لليوم نحو مئة ألف فلسطينى ، بين شهداء وجرحى ومفقودين تحت الأنقاض ، ونزوح ثلثى سكان "غزة" ، وتهجير أكثر من مليون فلسطينى إلى "رفح" فى جنوب الجنوب .
والمفارقة
المدهشة فى كل ماجرى ويجرى ، أن الشعب الفلسطينى الذى ترك وحيدا من الأقربين
والأبعدين إلا من قليل ، هو الذى صنع الفارق بصموده الأسطورى ، وصنعته فصائل
المقاومة بإبداعها القتالى المذهل ، وصار العدو الأمريكى "الإسرائيلى" فى
وضع المهزوم بالحرب التى تطوى شهرها الرابع ، فلم يتحقق أى هدف معلن للعدوان
الوحشى البربرى الهمجى ، فلا هو قادر على اجتثاث "حماس" ولا حتى إضعافها
، ولا هو قادر على تحرير أسراه بالقوة المسلحة ، ولا هو فاز فى حرب الإعلام
والمعارك النفسية ، رغم الفوارق المهولة فى الأسلحة والإمكانات والتكنولوجيا
الأحدث لصالح الغزاة ، التى لم تنجز سوى آلاف مجازر الإبادة الجماعية للمدنيين
الأبرياء العزل ، وبالذات من الأطفال والرضع والنساء ، ومن دون أن تظهر لها كرامات
فى ملاحم القتال وجها لوجه ، مع مقاومة فريدة عنيدة قادرة ، تصنع أسلحتها بأيديها
، وتبدى عقيدة قتال غاية فى التفوق ، وتصور كثيرا من معاركها بالصوت والصورة فى "فيديوهات"
عظيمة الإتقان ، إضافة لأشرطة لأسرى العدو ، تكثف الضغط النفسى والشعبى على حكومتى
"إسرائيل" فى "تل أبيب" و"واشنطن" ، وتبدد آمالهم
فى خلق أى انطباع بنصر قائم أو محتمل ، فالمقاومة نفذت خطتها الهجومية المحكمة
صباح السابع من أكتوبر الماضى ، وثبت أنها أعدت وتنفذ خطة دفاعية فعالة لصد التوغل
البرى الذى توقعته مسبقا ، بينما يعانى العدو "الإسرائيلى" من تخبط ومن
انفجار عصبى فى المخ ، ومن انفجار للعقل والخطط الموضوعة ، فقد كان تصور العدو ،
أنه ما هى إلا أيام أو أسابيع قليلة ، وينتهى كل شئ ، وقد استخدموا كل ما فى
الترسانة العسكرية الأمريكية "الإسرائيلية" ، ومن دون أن يتحقق لهم شئ
مما رغبوا به ، بل ضاعوا فى متاهة موحلة ، دفعتهم لتغيير الخطط العسكرية يوما بيوم
، وقد كان الظن دائما ، أن "إسرائيل" تعرف ما تريد ، وأن استنادها إلى
الجدار الغربى الأمريكى ، يكفل لها النصر الحاسم فى حروب خاطفة ، لكن صناع العقل "الإسرائيلى"
فوجئوا وصدموا بما جرى ، فهذه أطول حرب عربية "إسرائيلية" متصلة أيامها
، ولا يمثل الطرف العربى فيها سوى فصائل المقاومة الفلسطينية ، وقد أرادوها حربا
تستنفد طاقة الصمود الفلسطينى الشعبى ، و"كى" الوعى الفلسطينى بدفعه إلى
نكبة جديدة ، وتهجير الفلسطينيين إلى خارج أراضيهم ، وعلى نحو ما جرى فى نكبة 1948
، وفات صناع العقل "الإسرائيلى" الأمريكى ، أن الأوضاع تتغير بالجملة ،
وأن الشعب الفلسطينى وعى من زمن درس النكبة الأولى ، وعرف أن خروجه من أرضه
المقدسة سيكون بلا عودة ، وأن العدو ليس قوة لا يمكن أن تقهر أو تنهزم ، فلم تنتصر
"إسرائيل" أبدا فى أى حرب لحقت عدوان 1967 ، لا فى حرب الاستنزاف على
جبهة مصر ، ولا فى حرب 1973 ، ولا فى حرب لبنان وجنوبه ، ولا فى حروب متعددة ضد "غزة"
ذاتها ، وكان تراكم الوعى الفلسطينى الجديد ، مع تضاعف عدد السكان العرب فى فلسطين
التاريخية بكاملها ، وتجاوزه لأعداد اليهود المجلوبين للاستيطان ، وهروبهم بالهجرة
العكسية ، كان لذلك كله أثره المحسوس فى انقلابات الصورة ، خصوصا مع الوعى المضاف
لدى أجيال الفلسطينيين الجديدة ، وإدراكها المتزايد لحقائق العصر ، وإبداعها
الكفاحى المستند إلى بيئة هى الأكثر تعليما فى كل العالم العربى ، وضراوة المحن
التى خلقتها خلقا مقتدرا ، وانخراط الكثير منها فى موجة المقاومة من نوع مختلف ،
التى تطورت من مقارعة أعلى قيمة تكنولوجية يحوزها العدو بالحس الاستشهادى الذى هو
أعلى قيمة إنسانية ، وباكتساب تكنولوجيا سلاح متحدية لتكنولوجيا العدو ، وهكذا
قلصت المقاومة الجديدة من فوارق التفوق التكنولوجى للعدو ، مع شفع عقيدة القتال
ذات الطابع الاستشهادى بفنون مبدعة ، وإلى أن تحولت المقاومة الجديدة إلى قوة لا تقهر
، زادت معدلات الثقة بنفسها فى إطراد ، بلغ الذروة فى إثبات المقدرة على الخداع
الاستراتيجى و"مرمطة" وإذلال جيش العدو فى هجوم "طوفان الأقصى"
، واختراق تحصيناته التكنولوجية الفائقة الامتياز ، وسحبه إلى متاهات الموت فى "غزة"
، التى بدا فيها العدو مختالا مزهوا بعتاده وعديده فوق سطح الأرض ، بينما المقاومة
تظهر له فجأة كالأشباح من حيث لا يحتسب ، ومن مدن أنفاق تحت الأرض ، جرى حفرها
بإعجاز هندسى بارع ، وكلما ظن العدو أنه عرف السر ، وهدم أنفاقا وجد فتحاتها ،
زادت الألغاز غموضا ، وبما دفع صحيفة "نيويورك تايمز" قبل أيام ، إلى
إشهار إخفاق الأمريكيين والإسرائيليين فى اكتشاف خرائط الأنفاق الفلسطينية ، رغم
البحث الذى لم ينقطع يوما ولا لحظة ، وباستخدام أرقى وسائل التكنولوجيا الحربية ،
وقد كانت "إسرائيل" ـ ومعها أمريكا ـ تقدر أن الأنفاق ممتدة بطول
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق