وكأن التاريخ يعيد نفسه ، كاتب روسى اقترح حلا لوقف استفزاز أمريكا لبلاده عبر "أوكرانيا" ، ودعا للتفكير فى إقامة قاعدة صواريخ روسية فى "كوبا" ، وكأنه يريد استعادة ما جرى أوائل ستينيات القرن العشرين ، حين وقف العالم على أطراف أصابعه ، وكادت أزمة "خليج الخنازير" تشعل حربا نووية ، ووصل التوتر إلى مداه بين أمريكا والاتحاد السوفيتى وقتها ، ولم تنزل الأصابع عن الأزرار النووية ، إلا بعد التوصل إلى تسوية وتراجع متبادل ، ألغت أمريكا بمقتضاه عملية غزو "كوبا" الشيوعية ، وسحبت موسكو صواريخها النووية الاستراتيجية من قاعدتها المتقدمة فى "كوبا" .
وظلت "الأزمة الكوبية" مثالا
كلاسيكيا تجرى العودة إليه ، وبدواعى التحذير من مخاطر انفلات جامح على القمة
الدولية ، ونشوب حرب نووية تدمر العالم كله عشرات المرات ، خصوصا مع عودة الحرب
الباردة الجديدة ، ونشوء مسارح ساخنة على خرائطها ، وتطور استقطاب دولى جديد ، ظلت
أمريكا والغرب طرفا فيه ، بينما الطرف المقابل يضم روسيا والصين اليوم ، وبقدرات
تدمير نووية مضاعفة آلاف المرات ، قياسا إلى ما كان فى قصة "كوبا"
الشهيرة ، وعلى مسارح ساخنة لصيقة بالصين وروسيا ، من "تايوان" إلى "أوكرانيا"
، وبدرجات أقل على مسارح أبعد فى "إيران" و"أثيوبيا" ، بينما
توارى حضور "كوبا" ، التى ظلت على علاقة جيدة مع روسيا والصين ، لكنها
لا تملك اليوم ترف المجازفة بالتورط فى الصراع الكونى المستجد ، وتحرص على مد جسور
مع جارتها الأمريكية ، قد تساعد فى تفريج الكروب الاقتصادية .
فى "أوكرانيا" ، يبدو المسرح الملتهب
، كأنه استعادة لما كان بين موسكو وواشنطن ، مع فارق ملموس مرئى ، هو أن الخطر
اليوم على حدود روسيا لا حدود أمريكا ، وقد كانت "أوكرانيا" من جمهوريات
الاتحاد السوفيتى قبل تفككه ، وكسبت استقلالها أوائل تسعينيات القرن العشرين ، وعلى
الخرائط ، تبدو أهمية أوكرانيا الحاسمة ، فهى أوسع دول أوروبا مساحة بعد روسيا
نفسها ، وامتدادها غرب روسيا ومعها على سواحل "البحر الأسود" و"بحر
أزوف" ، لا يجعل موسكو مستعدة لتهاون ولا تسامح ، ولا قبول سعى حلف الأطلنطى
لضم أوكرانيا إلى عضويته ، وتقدم شبكات الصواريخ الأمريكية الأطلنطية إلى حدود
روسيا المباشرة ، وهو ما يعد "خطا
أحمر" وتهديدا وجوديا ، يفسر خشونة التصرفات الروسية العسكرية ، فكما فعلت
موسكو مع "جورجيا" من قبل ، وضمت مناطق منها إلى وصايتها ، وحالت دون
انضمامها إلى "حلف الأطلنطى" ، فقد كررت موسكو التصرفات نفسها مع
"أوكرانيا" ، وأقدمت على ضم شبه جزيرة "القرم" وميناء
"سيفاستوبول"بضربة واحدة عام 2014 ، ولم تلق بالا للرفض الأمريكى
والأوروبى عالى الصوت ، وتحملت سلاسل العقوبات الاقتصادية المتوالية ، ثم نقلت
المعركة إلى داخل ما تبقى من "أوكرانيا" ، فاللغة الروسية معترف بها فى
"أوكرانيا" كلغة رسمية ثانية ، ونحو خمس سكان "أوكرانيا" من
أصول روسية ، وقد دخلت موسكو طرفا مباشرا فى دعم كيانات انفصالية روسية بمنطقة
"دونباس" ، تدير حربا ضد الحكومة الأوكرانية المركزية فى "كييف"
سقط فيها عشرات الآلاف ، وتريد هى الأخرى الانضمام إلى روسيا على طريقة
"القرم" ، وترعى موسكو مع أطراف أوروبية غربية ما يسمى "اتفاق
مينسك" ، الذى يهدف لإقامة حكم ذاتى أوسع لجمهوريات الروس داخل
"أوكرانيا" من نوع "دونيتسك" و "لوهانسك" ، ولا تكف
موسكو عن وضع "كييف" تحت الضغط ، وتحشد على حدودها مئات آلاف الجنود
والمعدات، وتجرى مناورات فى "القرم" وتجارب لصواريخ "اسكندر"
المرعبة ، وبرغم نفيها نية اجتياح "أوكرانيا" ، إلا أنها لا تتوقف عن
تسريب تهديدات باحتلال "أوكرانيا" حال ضمها لحلف الأطلنطى ، وفى حرب
تستغرق أقل من 20 دقيقة ، فى حين أعلنت واشنطن أنها لن ترسل قواتها إلى
"أوكرانيا" حال غزوها من روسيا ، وهو ما جعل الرئيس الأوكرانى
"فولوديمير زيلينسكى" يعبر عن فزعه ، وعدم ثقته فى جدوى تهديدات الرئيس
الأمريكى "جوبايدن" للرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، فلم
يتغير شئ على الأرض بعد قمة الاتصال المرئى المغلق بين بايدن وبوتين ، ولم تؤثر
التهديدات بعقوبات اقتصادية قاسية لموسكو فى قمم السبع الكبار والاتحاد الأوروبى
وقيادة حلف الأطلنطى ، وبادرت روسيا بفرض
سيطرتها المباشرة على سبعين بالمئة من "بحر أزوف" ، وطردت السفن الأوكرانية
، فيما أبدت ألمانيا اعتراضها على تزويد حلف الأطلنطى لأوكرانيا بأسلحة متطورة ،
وألمانيا هى الطرف الأساسى فى عقوبة الحد الأقصى التى تهدد بها واشنطن ، أى وقف
توريد الغاز الروسى لألمانيا وأوروبا عبر خط "نورد ستريم ـ 2" ، وحاجة
أوروبا إلى الغاز الروسى ، تبدو أقوى من حمية الدفاع عن أوكرانيا ، وردع تهديدات
روسيا ، التى تبدو مستعدة لدفع الصراع إلى الحافة النووية وكسبه بالتخويف .
وفى "تايوان" ، تبدو القصة أعقد ،
فليس لدى القيادة الصينية أدنى رغبة للقبول بانفصال واستقلال نهائى لدولة
"تايوان" ، وهى تصر على استعادتها كجزيرة صينية لحضن البر الصينى ، إن
سلما أو حربا ، بينما تبدو واشنطن حريصة على استقلال حليفتها "تايوان" ،
وتواصل استفزاز بكين بكافة الوسائل ، بفرض العقوبات الاقتصادية التى لا تجدى مع
الصين العملاقة ، وبعقد اتفاق "أوكوس" للغواصات النووية مع استراليا ،
وبتحريك الغواصات النووية الأمريكية إلى بحر الصين الجنوبى ، وبخرق اتفاق
"صين واحدة" الذى أبرمته مع بكين أوائل سبعينيات القرن العشرين ،
وباستضافة "تايوان" رسميا فى قمة المائة الديمقراطية التى عقدها بايدن
مؤخرا ، لكن بكين ترد بحزم ، وتحظر عمليا دخول الغواصات النووية الأمريكية إلى جوارها
البحرى ، وتخوض "حرب ألغام" دمرت بعضها ، ومن دون أى إعلان حربى مباشر ،
وتبعث بقاذفاتها النووية الاستراتيجية إلى سماء "تايوان" كل أسبوع ،
وتعلن أن غزو "تايوان" وإخضاعها حال الضرورة ، لن يستغرق من قوات الصين
سوى نحو سبع دقائق ، وأنها لن تستثنى من القصف قوات أمريكية إن وجدت على أراضى
"تايوان" ، وكلها احتمالات خطر ماحق ، خصوصا أن الصين دولة نووية من
عقود بعيدة ، وتستخدم فوائضها المالية الفلكية فى تطوير أسلحتها النووية
والصاروخية والفضائية ، وبطريقة توحى بأنها قد تصبح القوة العسكرية الأضخم عالميا
خلال سنوات ، والأعظم امتيازا بصواريخها فائقة السرعة ، وبتطورها التكنولوجى
المتسارع بشدة ، وبخططها لإنشاء نظام مالى عالمى خارج هيمنة الدولار يلغى مفعول
عقوبات واشنطن ، وهو ما كان موضعا لبحث جدى فى قمة اتصال مرئى قبل أيام ، جمعت
بوتين مع الرئيس الصينى "جين شى بينج" ، ناهيك عن قوة بكين الاقتصادية
والتجارية والمالية ، وهى صاحبة أكبر احتياطى نقدى فى العالم ، يقترب حثيثا من سقف
الأربعة تريليونات دولار ، و"تايوان" بالنسبة للصين قضية قومية عظمى لا
تفريط فيها ، ولا مانع عند بكين من دفع الأمور إلى الحافة النووية من أجل
"تايوان" ، بينما لا تبدو واشنطن قادرة على كبح الصين بوسائل الحصار ،
وبالضغط العسكرى التقليدى ، ولا المخاطرة بالتورط فى "حرب نووية" لا
يفوز بها أحد .
وعلى مسرح الحروب بالوكالة والأصالة البعيدة عن
حدود روسيا والصين ، لا تبدو واشنطن فى وضع يؤهلها الهجوم ، بعد خروجها المخزى مع
الحلفاء الأطلنطيين من أفغانستان ، وتعثر دبلوماسية بايدن مع إيران ، ومصاعب
التوصل إلى إحياء الاتفاق النووى الإيرانى ، وعبث التلويح بضرب منشآت إيران
النووية تحت الأرض ، حتى لو جرى تكليف "إسرائيل" بالمهمة ، التى بافتراض
إتمامها ونجاحها جزئيا ، فلا تبدو كفيلة بنيل المطلوب ، فقد راكمت طهران معرفة
نووية يعتد بها ، وضرب المنشآت لن يعيقها كثيرا ، وسبيلها إلى القنبلة النووية
سالك ، وقد لا تكون روسيا والصين سعيدتان بالقنبلة الإيرانية إذا صنعت ، لكن
مقتضيات الحرب الباردة الجديدة تفرض اعتباراتها ، إضافة لأهمية إيران وجغرافيتها
ومواردها فى الصراع الكونى المرشح للتفاقم ، وقد لا تغامر موسكو ولا بكين بخوض حرب
دفاعا عن إيران ، ولا بدفع الصدام على القمة إلى حرب نووية من أجل طهران ، فإيران
ليست "أوكرانيا" ولا "تايوان" ، بل مجرد مسرح يجرى التزاحم
والتدافع عليه ، تماما كمسرح "أثيوبيا" التى تعانى من حرب دمار ذاتى
شامل ، تحاول الصين دعم أحد أطرافها ممثلا فى حكومة "آبى أحمد" ،
وبدواعى الخشية على استثماراتها الهائلة فى "أديس أبابا" ، وقد جرى
تدمير وتفكيك ونهب مئات المصانع فى "الأمهرة" و"التيجراى" ، وأغلبها
باستثمارات صينية ، وبدا للصين أن الحرب حسمت لصالح حليفها ، بالتفوق الجوى
والطيران المسير ، لكن حروب العصابات على الأرض عادت مجددا بعد أيام ، وفى جولات
كر وفر وسحق بلا رحمة ، وقد تنتهى فى زمن قريب إلى فناء أثيوبيا وتقسيمها نهائيا ،
وبلا مبالاة أمريكية غالبا ، بقدر ما تفرح واشنطن بخسائر الصين وتآكل نفوذها .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق