الحاجة لطرح أية قضية صنعت قوة واقعية يتبناها الفرد، والفرد هنا هو الشاعر، كرغبة انسانية من الخيال والحلم والأمنيات التي ينطلق بها، متجاوزاً الوجود الى جنة يستحقها الفقراء الجياع، من أجل سعادة حتى وإن جاءت متأخرة عبر اللامكان، هو المعنى الحرفي لليوتوبيا، وما جاء في أشعار مَنْ كَتَب ذلك هو تعبير جمالي مليء بالحزن وصور الابتلاء مما يعانيه الفقراء البؤساء.
نجد عند شاعر عراقي معاصر يبني في قصائده الومضية
تشبيهاته التي اعتاد بها على صنع تخييل واقعي هو كاظم الحجاج، الذي كغيره من
الحالمين بجنة آنية وقتية، أو مع الغائب البعيد الذي لا يعرف قراره. في أحد نصوصه
المقتضبة والمكثفة جدا يحكي سيرة حياة مجموعة بشرية مستضعفة، منطلِقاً من الواقع
المضعضع؛ يقول في ومضته تحرير:
" الدمعةُ ماءٌ مسجون
ينتظر الحريةَ
من حُزنٍ ... قادم!"
وفي ومضة أخرى بعنوان تأجيل يقول:
" نحنُ الفقراء
أجَّلنا أكلَ التفاح..
إلى (الجنّة)"
في نص (جنوبيون) يتطور الفعل الدرامي للمشهد
بحقيقة عميقة أكثر من ذي قبل، ضمن اشتغالية واضح فيها كيف دَمَج صورتين معاً؛
الخيال أحد الأركان التي أرتكز عليها الشاعر بواقعية مجردة، والترميز الوصفي
الممنهج، لاسيما في ديوانه جنوبيون الذي تضمن ذات عنوان الومضة
"جنوبيون":
" مثلَ خُبزِ الأرياف
خَرَجْنا من تنانير أمهاتنا... ساخنين
لأجلِ أن نليقَ بفمِ الحياة!"
هنا، وبشكل أكثر دقة، نلاحظ التداولية المقصودة
في بناء النص ضمن مفهوم دلالة الصلة المُشتغِل عليه الحجاج؛ تصارعياً مع حدث
مستمر، هي آلامه في الواقع؛ المنبعثة من هواجسه الحزينة، والتي تنبثق وتتفجر منها
أمنيات دفينة للدعوة بتبني جنّة أرضية للفقراء الجياع، تعجز كثير من الموازين عن
تحقيقها واقعياً بوجود مجتمع فاسد ينتقص لقيم العدالة والمساواة، وكغيره ممن كتب
في هذا المجال عن (العدالة والمساواة والسعادة) يحاول ترجمة نصوصه الى حالة
انسانية تتنبأ بعيش كريم، يقترب من مجتمع يسعى للخير، رغم اختلاف معايير قيم الخير
من مكان لآخر، ومجتمع لآخر، لا شرّ وقحط وجوع فيه، وليس التنبؤ بنهاية قاتمة مرعبة
تنتهي عندها كل صور الجمال؛ مع أن في الكثير من نصوصه توقعاً لنهايات صادمة،
لتضمحل وتذوب لاحقاً؛ الذي نجد مثله في نص أمجاد:
" حتى بينَ رصاصات الجنود
رصاصاتٌ محظوظاتٌ:
تلك التي تُخطئُ أهدافَها
و رصاصاتٌ تعيساتٌ:
تلك التي ترتكب أمجادَ الحروب!"
لكن الشاعر هنا لا يسعى لخلق مدينة فاضلة، أو جنة
الخلاص الموعودة، بقدر ما يدعو للتخلص من ظلم الفاسدين، والثورة على قيمهم
البالية، بزفرة شعرية منطلقة من الروح، تحدد معالم طريق الخير والسعادة؛ بكلمات
هادئة، كمفكر ابن يومه وواقعه، عاش المأساة وويلات الحروب طويلاً، يعرض أشعاره
بشكل موجز وصادق من أجل كشف الحقائق للرأي العام، بوجود ضغط واقعي، وصعوبة في
التغيير، وليس بثورة بركانية تسحق ما
يعترض طريقها، لذا فلن تتوقف هنا أو هناك الدعوة والحلم بتلك اليوتوبيا مادامت
هواجس النفس ومشاعرها تتجدد كل حين وهي تتصارع من أجل الانعتاق، ونجاح المشروع التنويري
الذي يدعو اليه الشاعر وغيره من البشر، بماهياتها كمُتوقعٍ مُتَصوَّر وجودي،
وأمنيات خالدة قادمة من بعيد، كتبها الشاعر أحلاماً تنتظر الضياء..
في نصوص كثيرة يصور لنا الشاعر اتجاهاً آخر من
مدينة الأحلام، أو الأمنيات المُتخيّلة، ويرصفها مع الانتظار الذي لا تُعرف ساعة
نهايته، والوصول الذي لا تُعرف ساعة مقدمه؛ في تبشير يقول:
" كانت الحسناء
تنشر الإيمانَ بخالقها
أسرع مِن جيشٍ من المبشرين...
فأينما مشَتْ
تتردَّدْ مِن حولِها: (سبحانك)!"
مع نهاية كل مقطع مما كتب الحجاج نلاحظ النهاية
بوضع علامة تعجب؛ لم يأتِ هذا التنقيط اعتباطاً عفوياً، بل بقصدية تكوينية لها
سيميائيتها بمغازٍ هي في الأصل ليست إدهاشية بقدر ما هي استفزازية مثيرة للمتلقي،
وفاتحة المديات الواسعة للتأويل.
وتظل الصور تتغير كل حين مع كل نص في كل ديوان أو
مجموعة شعرية، وتأخذ منحى ثانياً في التدرج واللون والمعنى، لكنها ضمن سيرورة
البناء العام، والسرد المفعم بالأمل، والغارق بالمأساة. في حين نجد الشاعر كيف
وظّف رمزية معينة في رسم نصوص صورية للحلم فيه مكان للحياة، وللبشر فيه اختيار.
هناك أيضاً تجريد واضح الانطلاق أراده الشاعر بلا
تكلف، وباختيار متقن وصف العشق والجمال المتماوج بين لون ولون، وبين الرغبة
المختبئة تحت أزمنة أجساد ممزقة تنتظر الأمل، نجده مختوماً بقفلة فيها نهاية
موسومة بشيء يسعى اليه بمنهجيته الوصفية أو البنائية، تارة يستدرك ويقف، وأخرى
يمضي الى حيث يريد، ففي "زوار" يصف حالة معينة:
" نَفُكُّ صُرَّةَ الحزن بوجه الضريح
نبكي – يقول والدي - .. لنستريح!
فالشرقُ دمعتانِ:
للحسين- يا بنيَّ- و ... المسيح!"
في واقع الحجاج اليومي يعيش الحقيقة الوجودية
المرّة، ليس بما يصف شاعر حالم أو متعود على ضخ هواجس شعرية كتسلية؛ لا أبداً،
لأنه طُرد من بيته الذي اعطته له الدولة فعلاً، دون النظر لحاله كواحد من
المبدعين، فكيف به والحال هذه التي استقرأها من سنين طويلة؟ اذن هو معذور عندما
يبحث عن حلم فيه السعادة له ولغيره.
يمكن لنا في كل نص من نصوص الحجاج أن نجد الحلم
في حياة فاضلة، ومدينة فاضلة؛ بين الأخلاق واللامبالاة؛ الغريزة والعاطفة، شهوة
الروح للانعتاق من الذلّ والهزيمة، وشهوة اللذة الحميمة القابعة بين طيات الجسد،
وبين كل ما قيل عن مأساة البشر، أي بشر مهما كان جنسه يحيى فوق هذه الأرض، لأنه
انسان ارتبط مصيره بها، كما لو أنه ابنها البار الذي يستحق منها كل خير وهناء؛ إنه
ابن البصرة وناحية الهوير، لكن الشرّ هو من أهاج ريح الدخان فالتهبت الأرواح تبحث
عن خلاصها، واضحى الجميع ينتظر بريق الشمس بلا مواربة تامة..
0 comments:
إرسال تعليق