يقوم علاج الفساد في الإسلام على
مجموعة من الأسس والمعايير الاقتصادية، لعل أهمها :-
(1) حسن الاختيار في التعيين، أو ما يمكن أن
نطلق عليه معايير التخصيص الأمثل للموارد البشرية، .. يقول تعالى " قالت
إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" (القصص الآية – 26).ومن
السنة هناك الكثير من الأحاديث التي يصعب سردها هنا فهي أكثر من أن تحصى، ولكني
سأكتفي هنا بواقعة صغيرة يمكن من خلالها استنتاج بعض تلك المعايير فعن أبي ذر رضي
الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ألا تستعملني ؟
قال : فضربني بيده على منكبي ثم
قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها
بحقها وأدى الذي عليه فيها ( صحيح مسلم بشرح النووي. ج12 ص209) ومن هذا الحديث
يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بالأمانة المتطلبات الأساسية والحد
الأدنى من كفاءة الأداء ، والمهارات
الذهنية والعقلية التي تتطلبها الوظيفة التي طلب الصحابي أن تسند إليه. ولما كان
الرسول عليه السلام ببعد نظره وجد أن المهارات والقدرات الذهنية والاستعداد النفسي
والعقلي غير متوافرة لدى هذا الصحابي فإنه قال له " إنك أمرؤ ضعيف" بمعنى
أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصد أن ما لدى هذا الصحابي من مهارات وقدرات
أقل نسبياً مما تتطلبه الوظيفة العامة، فكان الرسول عليه الصلاة والسلام – ببعد
نظر – يعطي تقديراً خاصاً للموارد النادرة نسبياً، وأنه كان حريصاً على استغلال
هذه الموارد أفضل استغلال ممكن. وهذا من شأنه تحقيق المجتمع الإسلامي لأعلى
إنتاجية ممكنة.
فإذا افترضنا- جدلا – أنه عليه
الصلاة والسلام أخذته جوانب العطف والشفقة في تولية الوظائف والمهام، وتغاضى عن
جانب المهارات والقدرات المتوافرة لدى الأفراد المختلفين، فإن الأمر سينتهي به إلى
وضع بعض الأفراد في وظائف تتطلب مهارات وقدرات أكثر مما لديهم، مما يعني أن هؤلاء
الأفراد سيقومون بأداء بعض الجوانب الوظيفية ومهامها التي تتفق مع مهاراتهم،
والبعض الآخر من جانب الوظيفة لن يقوموا بأدائه لعدم توفر المهارات اللازمة لهذا
الأداء.
وحيث أن عدم أداء هذا الجزء من
الوظيفة يضيع على المجتمع الإسلامي جني مكاسب هذا الأداء، فإن المنفعة الاجتماعية
لن تكون عند حدها الأقصى. ومن هنا يكون هذا المجتمع معظماً للمنفعة. وحيث أن
الرسول صلى الله عليه وسلم قدر مهارات وقدرات هذا الصحابي تقديراً صحيحاً، مما
يعني أنه عليه السلام كان حريصاً على استثمار القدرات والمهارات البشرية لدى أفراد
المجتمع الإسلامي بطريقة صحيحة، مما يجعلنا نستنتج أن " المجتمع الإسلامي
الكفء،
والذي يأخذ بأفعال وأقوال وتصرفات
الرسول صلى الله عليه وسلم يتميز بالتخصيص الأمثل للموارد البشرية ويمكن أن نسمي
هذا المجتمع بالمجتمع الإسلامي الكفء" . ولما كان المجتمع الإسلامي الكفء
يحقق التخصيص الأمثل للموارد، فإن انحراف المجتمع الإسلامي الفعلي عن المجتمع
الإسلامي الكفء هو الذي يؤدي إلى انخفاض مستوى إنتاجية عناصر الإنتاج عن مستوى
الإنتاجية المتحقق في ظل التخصيص الأمثل للموارد للمجتمع الكفء. وبمقدار انحراف المجتمعات
الإسلامية عن المجتمع الإسلامي الكفء يكون انحراف الناتج القومي المحتمل . وهذا
الانحراف ينجم عن التصرفات السلوكية المنحرفة عن السلوك الإسلامي الرشيد ، وينجم
عن التصرفات السلوكية المنحرفة انتشار المحاباة والمجاملة في إسناد الوظائف وتخصيص
الموارد وتوزيع الدخول.
وقد ساد المجتمع الإسلامي الكفء
في عهد الخلفاء الراشدين أيضاً فلم يؤثر عنهم المحاباة والمجاملة، كما لم يؤثر
عنهم الإسراف في استخدام موارد المجتمع الإسلامي، بل إن الموارد الاقتصادية
المتاحة للمجتمع كانت تخصص في أفضل استخداماتها لصالح المجتمع ككل . ولهذا حققت
الدولة الإسلامية في عهودها الأولى معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي في المجالات
الاقتصادية المختلفة سواء كانت زراعية أو صناعية أو تجارية .
(2) ومن المعايير الهامة التي يقرها الإسلام
المبدأ الاقتصادي الذي يقرر المساواة بين الأجر والإنتاجية، حتى لا يكون هناك
إثراء بلا سبب، ولا يكون هناك غبناً في الأجر، وهي من صور الفساد في المجتمعات
المعاصرة فعندما يعرف الفرد مقدماً أن الأجر الذي سيتقاضاه يعادل إنتاجيته
الحقيقية ( الإنتاج الحدي النقدي/ مستوى الأسعار أو سعر المنتج الذي يساهم فيه )فإن
جهده واهتمامه سينصرف إلى زيادة إنتاجيته بهدف زيادة أجره ،
وإذا اختل هذا المبدأ فإن الحرص
على الحصول على المال من مصدر آخر غير العمل سيزيد وسيشتهر حصول الأفراد على دخول
لا تستند إلى العمل .ولهذا فإن الإسلام أقر مبدأ المحاسبة للعمال وسؤالهم عن مصدر
هذا المال حيث أن ثروة الفرد في الإسلام إما أن تأتي من الإرث أو مدخراته
المتراكمة ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وهو خليفة – يحاسب الولاة
حساباً شديداً ، فيحصى ثروته قبل العمل وأثناء العمل فإذا ظهرت زيادة غير مبررة
بسبب غير مشروع أخذها منه وردها إلى بيت المال.
وقبله كان عليه السلام يحاسب
عماله ويناقشهم، فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه استعمل رجلاً على الصدقة فلما
جاء قال هذا لكم وهذا أهدى إلى فقام عليه السلام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال
" ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدى إلى ألا جلس في بيت أمه
أو أبيه فينظر أيهدي له أم لا ، لا يأتي أحد منكم بشئ من ذلك إلا جاء به يوم
القيامة إن كان بعيراً فله رغاء أو بقرة فلها خوار أو شاة .. اللهم هل بلغت ،
اللهم بلغت ، (سنن أبي داود . جـ3 ص135).
وقد أكدت هذه المبادئ السابقة
أيضاً وصية الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه لأحد عماله حيث قال له " ثم
أنظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة أو أثره فإنهم جماع من
شعب الجور والخيانة . وتوخ فيهم أهل التجربة والحياء .. فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح
أعراضاً وأقل في المطامع إشراقاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً .. ثم أسبغ عليهم
الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة
عليهم إن خالفوا أمرك أو تلموا أمانتك ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق
والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق
بالرعية ( نهج البلاغة ، 1416هـ / 1996م ، ص 634).
(3) فإذا ما أضيف إلى ذلك الرقابة الداخلية
لدى المسلم ، والمتمثلة في ضميره الحي المرتبط بالله عز وجل في كل أموره الظاهرة
والباطنة ، وإدراكه التام لرقابة الله عز وجل له في السر والعلن، كما قال تعالى:
" أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون . الزخرف
الآية 80 وقوله أيضاً: "وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور "
الملك الآية (13). فإن هذا يدفع المسلم إلى البعد عن الممارسات الفسادية أيا كان
نوعها ، وإن غاب عن أعين الناس أو أعين السلطة وأجهزة الأمن، لأنه يدرك أنه مراقب
من خالقه محاسب على أعماله السرية والجهرية وعليه فإن هذه الرقابة تعتبر أسلوباً
وقائياً هاماً في النظام الإسلامي لمكافحة الفساد، وهذا ما لم تركز عليه السياسات
الوضعية .
الخاتمــــــة
وفي نهاية هذا البحث يمكن أن نصل
إلى النتائج التالية :-
(1) وقوع الفساد الاقتصادي في القطاع العام
والخاص على حد سواء، إلا أن الموظف في القطاع العام أكثر عرضه للفساد من غيره
لبعده عن المساءلة، وأمنه من الرقابة ، بخلاف الموظف في القطاع الخاص الأكثر
المساءلة إما من مديره مباشرة أو من مالك المشروع أو مجلس الإدارة ونحو ذلك .
(2) وجود الفساد في كل المجتمعات المتقدمة
والنامية، إلا أنه أكثر شيوعاً في المجتمعات النامية، لما تتسم به من خصائص معينة
تجعلها أكثر سهولة لجني الريع منها أكثر من غيرها كضعف الرقابة والمؤسسات ونحو ذلك.
(3) تعدد صور الفساد واختلافها من بلد لأخر،
إلا أن أشدها خطورة هو الفساد المنظم.
(4) تنوع أسباب الفساد، وهذه الأسباب بعضها
يعود لعوامل داخلية، والبعض الآخر منها يعود لعوامل خارجية، وهذه العوامل لا تقل
أهمية عن سابقتها في الآونة الأخيرة، إن لم تكن أكثر أهمية منها في أحيان أخرى.
(5) علاج الفساد في الأنظمة
الاقتصادية الوضعية يكون بتقليل الفرص المتاحة لجني الريع، وذلك باتخاذ مجموعة من
الإجراءات والإصلاحات الاقتصادية والسياسية ونموها.
(6) دور الإرادة الصادقة في
مكافحة الفساد، ولكن هذه الإرادة غير
كافية إن لم يرافقها مجموعة من الإجراءات والإصلاحات السياسية والاقتصادية
المختلفة للمعالجة .
(7) دور الوازع الديني أو الرقابة الداخلية
لدى الفرد المسلم في منع الفساد قبل وقوعه، وهذا الأمر يعد من الإجراءات الوقائية
لمكافحة الفساد في الإسلام وهو ما أغفلته الدراسات الاقتصادية الوضعية.
(8) أن هناك مجموعة من الآثار الاقتصادية
الكلية التي يحدثها الفساد وهذه الآثار تتمثل في:
أ) إعاقته للنمو الاقتصادي.
ب) إخلاله بمبدأ العدالة
الاجتماعية في توزيع الأعباء العامة، وتخفيضه للطاقة الضريبية للمجتمع ككل.
ج) سوء تخصيص الموارد العامة
للمجتمع.
د) تدهور أسعار الصرف وما يترتب على ذلك من
عجز ميزان المدفوعات واستمراريته.
هـ) تضليل المستثمرين في سوق الأوراق المالية.
وقد توصل البحث إلى التوصيات
التالية :
1- أن الحاجة ما زالت ملحة لمزيد من
الدراسات حول أسباب الفساد (وخصوصاً العوامل الدولية ) لما لها من أهمية في العصر
الحاضر، وتقديم الحلول لها وخاصة الإسلامية.
2- الدعوة ( وخصوصاً في الدول النامية) إلى
توفير قدر كبير من الشفافية في القوانين والتنظيمات المختلفة ، سواء كانت اقتصادية
أو سياسية أو قضائية أو إدارية ، التي من شأنها الحد من انتشار الفساد.
3- غرس الوازع الديني لدى الأفراد في
المجتمع الإسلامي من خلال وسائل الإعلام المختلفة، وهذا يكون باستضافة العلماء
المتخصصين في علوم الشريعة والاقتصاد من خلال برامج وندوات متعددة، يتم فيها تسليط
الضوء على هذا الداء الفعال وعواقبه الدنيوية والأخروية وأثاره السيئة سواء كانت
اقتصادية أو اجتماعية على الفرد والمجتمع.
4- تفعيل أجهزة المساءلة مع إشراك أصحاب
الأعمال والمواطنين فيها، ومعاقبة من يثبت إدانته بالفساد معاقبة سريعة وقاسية .
0 comments:
إرسال تعليق