ربما تكون هبة القدس الأخيرة فتيل اشتعال لانتفاضة فلسطينية رابعة ،
فباستثناء الانتفاضة الأولى التى بدأت فى نهايات 1987 ، وكانت شرارتها الأولى من
مخيم "جباليا" بقطاع غزة ، وتوقفت مع عقد "اتفاق أوسلو" وإقامة
السلطة الفلسطينية المقيدة ، بعدها تحولت القدس المحتلة إلى عاصمة الانتفاضات
الفلسطينية اللاحقة ، بدأت منها شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية فى 28 سبتمبر 2000
، ثم شهدت ذروة حوادث الانتفاضة
الفلسطينية الثالثة من أكتوبر 2015 إلى نوفمبر 2016 ، وقد عرفت فى سيرة الكفاح
الفلسطينى المعاصر باسم "انتفاضة السكاكين" .
وقد لا يكون مهما ترقيم الانتفاضات الفلسطينية ، وما إذا كنا بانتظار
الانتفاضة الرابعة أو الثالثة بحسب الكتابات السيارة ، فلم يتوقف نضال الشعب
الفلسطينى عبر مئة عام مضت ، وبالذات فى العقود الأربعة الأخيرة ، التى بدا فيها
انصراف العرب ظاهرا عن قضيتهم المركزية ، وتخلت عنها الأنظمة ، ثم بدا الكثير منها
فى حالات تطبيع وتحالف مفضوح مع كيان الاحتلال الإسرائيلى، ثم سرى التحلل
فالانقسام فى بدن الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها ، وتداعت صراعات الفصائل
وحواراتها ، التى لا تنتهى غالبا إلى شئ فارق ، وبالذات فى العقد ونصف العقد
الأخير ، منذ صدامات "حماس" و"فتح" فى غزة ، لكن حيوية الشعب
الفلسطينى صمدت فى الميدان ، وقاومت التدهور الرسمى وبؤس الأوضاع السياسية العامة
، وكانت انتفاضة 1987 تعبيرا مبكرا عن حيوية الإبداع الفلسطينى الشعبى ، والتحقت
بها وقتها فصائل كبرى ، وشهدت الميلاد الأول لحركة "حماس" ، إضافة لدعم
حركة "فتح" وفصائل منظمة التحرير ، وكان رمز "الحجارة" أيقونتها
الذهبية الطاغية ، كانت الحجارة و"المقلاع" سلاحها العفوى الأعظم تأثيرا
فى مواجهة جيش الاحتلال ، وتفجرت حوادثها بعد واقعة بدت عادية متكررة ، فقد دهست
شاحنة إسرائيلية عمالا فلسطينيين عند معبر "إيريز" بين غزة والأراضى
المحتلة منذ نكبة 1948، وعبر سنوات الانتفاضة الأولى المتوهجة ، قدم الشعب الفلسطينى
ما يزيد على ألف شهيد ، فى حين جرى إنهاك الجيش الإسرائيلى المحتل ، وإيقاع 160
قتيلا فى صفوفه ، ثم خبت الجذوة مع سراب "أوسلو" ووعودها العبثية ، التى
لم يتحقق شئ منها مع نهاية مدة الخمس سنوات المقررة على الوصول للحل النهائى الذى
كان مفترضا ، فلم تقم الدولة الفلسطينية كما وعدوا عام 1999 ، وكان ذلك سببا
مباشرا فى انفجار غضب الانتفاضة الثانية ، وبالذات بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد
الثانية برعاية الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون، واقتحام آرئيل شارون وجنوده
للمسجد الأقصى ، وكان الراحل ياسر عرفات لايزال وقتها على رأس عمله قائدا لحركة "فتح"
، فيما كانت حركة "حماس" فى ذروة عنفوانها ، وهو ماساعد على انتقال من
انتفاضة الحجارة إلى انتفاضة الرصاص ، وعبر أربع سنوات سبقت اغتيال عرفات فى "المقاطعة"
بالسم الإسرائيلى ، ودارت خلالها معارك ضارية ، كان أبرزها ما جرى فى اقتحام الجيش
الإسرائيلى لمخيم "جنين" وغيرها ، وجرى تدمير 50 دبابة "ميركافا"
إسرائيلية ، وإيقاع 1095 قتيلا إسرائيليا من الجيش وقطعان المستوطنين ، فى حين
ارتقى 4412 شهيدا فلسطينيا ، وكان رحيل عرفات ختاما للانتفاضة ، التى تورطت السلطة
الفلسطينية بعد عرفات فى إيقافها أوائل عام 2005 ، لكن الحيوية المتدفقة للشعب
الفلسطينى ظلت تؤتى أكلها ، وخاب رهان إسرائيل على نسيان الأجيال اللاحقة ، وعلى
توريط الجهات الفلسطينية المتنفذة فى التنسيق الأمنى ، ومطاردة خلايا الفدائيين
وتفكيك المنظمات المسلحة ، وجاء المدد الجديد من شبان وشابات ، ومن إلهام الدفاع
عن المسجد الأقصى ، الذى حاولت فيه إسرائيل اختبار صلابة الأجيال الفلسطينية
الجديدة ، ممن يظهرون بقصات شعر غريبة ، ويرتدون أزياء أغرب ، ربما لا تكون لها
صلة مباشرة برمزية المسجد الأقصى الدينية ، ودار الصدام عنيفا متصلا دفاعا عن
القدس ومسجدها العتيق ، وإبتكارا لطرق جديدة فى مواجهة عنف المحتلين ، وتوالت
حوادث طعن الجنود والمستوطنين الإسرائيليين ، وسرى الفزع فى نفوس الإسرائيليين
جميعا ، وانهارت السياحة فى كيان الاحتلال ، وعبر عام كامل بدأ فى الأول من أكتوبر
2015 ، سقط فيه 35 قتيلا إسرائيليا ، فيما فاضت أرواح 245 شهيدا فلسطينيا ، كلهم
ذهبوا فداء للقدس ، ولأرواح عائلة "الدوابشة" ، التى أحرقها المستوطنون
الإسرائيليون المتطرفون وهى نائمة فى منزلها بإحدى قرى "نابلس" ، ولم
تتوقف "انتفاضة السكاكين" إلا بخطايا التنسيق الأمنى مع جيش الاحتلال .
وكان لافتا ، أن تكون "القدس" عنوان الانتفاضات الأبرز ، برغم
إعلان إسرائيل قرارها ضم القدس كلها منذ أواسط 1980 ، وبرغم تأييد الكونجرس
الأمريكى للقرار الإسرائيلى أواسط تسعينيات القرن العشرين ، وبرغم نقل الرئيس
الأمريكى السابق دونالد ترامب لسفارة واشنطن إلى القدس ، وهو القرار الذى لم
تتراجع عنه إدارة جوبايدن الأمريكية الحالية ، التى تتيح لإسرائيل مواصلة التوسع
بالاستيطان فى الضفة والقدس ، ومضاعفة وتيرة "تهويد" القدس ، وحصار
أهلها بمنعهم من البناء فى أغلب أحياء إقامتهم ، وبإقامة أطواق من المستوطنات
اليهودية شرقى القدس ، وشق طرق عازلة ، ومضاعفة الحفريات المهددة لأساسات المسجد
الأقصى ، وقلب التوازن السكانى لصالح اليهود المستعمرين فى المدينة المحتلة ، التى
ظلت صامدة بمئات الآلاف من سكانها العرب الفلسطينيين ، وبتزايد حيوية أجيالهم
الشابة ، التى والت صمودها وبسالتها فى مواجهة جيش الاحتلال وشرطته ، وهمجية حركة "لاهافا"
ـ اللهب ـ اليمينية الإسرائيلية المدعومة من حكومة بنيامين نتنياهو، وفشل كل هؤلاء
فى حرب شوارع عنيفة فى حى "باب العامود" وغيره على مدى أسبوعين كاملين ،
أصيب فيها المئات من الشبان الفلسطينيين ، وجرى اعتقال العشرات ، ومن دون أن تلين
عزيمة المقدسيين ، لا فى حى "باب العامود" ، ولا فى "الشيخ جراح"
، ولا فى "التلة" "الفرنسية" ، ولا عند مداخل المسجد الأقصى
كلها ، وإلى أن انتصرت إرادتهم ، واضطر جيش الاحتلال إلى إزالة حواجزه ، وتدفق
عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى ، يؤكدون عروبة القدس بإسلاميتها
ومسيحيتها ، ويطلقون نداءات تحرير جمعت حولها الفلسطينيين من مدن الضفة إلى عرب
الداخل إلى غزة ، التى تدافعت رشقات صواريخها الهازئة بقبة إسرائيل الحديدية ،
وكأن الشعب الفلسطينى وجدها فرصة ليقول كلمته ، التى لايصح أن تعلوها كلمة أخرى ،
فالشعب الذى أدار ثلاث انتفاضات ومثلها فى حروب غزة ، وقدم ما يزيد على عشرة آلاف
شهيد فى العقود الثلاثة الأخيرة وحدها ، إضافة لعشرات الآلاف من الجرحى ، مثل هذا
الشعب لا يقبل الوصاية من أحد ، لا من عرب التطبيع والخذلان ، ولا حتى ممن يفرضون أنفسهم
عليه كزعماء وقادة فصائل ، بانتخابات أو بغير انتخابات ، لا تقدم جديدا يذكر ، سوى
ادعاء الرهان على تسوية ، أو العودة لمفاوضات بليدة ، لن تنتصر أبدا للحق
الفلسطينى ، ولا حتى فى حدوده الدنيا ، فالذى أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ، وهو
درس تعرفه كل الشعوب الحية ، التى لم تحفل أبدا باختلال موازين السلاح لصالح
المحتلين ، فأى احتلال ، ومهما كانت طبيعته وسلطانه ، يجلو وينتهى فى لحظة فارقة ،
تأتى عندما تصبح تكاليف بقاء الاحتلال أعلى من فوائده المحققة ، ودور أى شعب تحت
الاحتلال ، أن يضاعف التكلفة على المحتلين ، أن يضاعف تكلفة الدم وتكلفة الأمن ،
وأن يستنزف وينهك قوة العدو ، وهذا هو الطريق الوحيد لتعديل موازين القوى الشاملة
، ولدى الشعب الفلسطينى طاقات لا تنفد ، وكثافة بشرية هائلة على الأرض المقدسة ،
تناهز وتفوق الموارد البشرية لكيان الاحتلال ، إضافة لمقدرة أسطورية على احتمال
التضحيات ، لا يملكها كيان العدوان ، الذى يرتعب من صاروخ شارد قرب "ديمونة" ، ومن نصل سكين فى طية
ملابس شاب أو شابة فلسطينية ، فما بالك بسيول الحجارة أو برشقات الرصاص والعمليات
الاستشهادية ، وبانتفاضة الناس التى تصنع المستحيل ، وقد نجحت الانتفاضة الثانية
فى إجبار الاحتلال على الجلاء عن "غزة" ، وتفكيك المستوطنات اليهودية
السبع التى كانت فيها ، وما من سبيل لتحرير لاحق ، سوى بالإنصات لكلمة القدس
ومسجدها الأقصى ، فهى وحدها الكفيلة برد الاعتبار للحق الفلسطينى ، وبناء تصور
شامل لمعنى المقاومة الشعبية ، يدمج التظاهر والاعتصام برمى الحجارة بجرأة اقتحام
الرصاص ، وتتنوع فيه الأدوار ، ويؤدى فيه كل طرف ما يستطيع ، ومن دون العودة مجددا
إلى أوهام "أوسلو" ومتاهاتها ، التى لم تخدم أحدا سوى الاحتلال وجيشه
وقطعان المستوطنين ، ووفرت سنوات ممتدة من الهدوء لكيان الاغتصاب ، ضاعف فيها
مستوطناته وحركته "التهويدية" ، وزادت من اتساع خروق التطبيع (العربى!) الرسمى
مع كيان الاحتلال ، وسحبت من رصيد حماس الشارع العربى والضمير العالمى لأولوية
ونصاعة الحق الفلسطينى ، بينما نداء القدس وعظاتها وانتفاضاتها ، هى وحدها التى
ترد الروح ، وتعيد النجوم التائهة إلى مداراتها الأصلية .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق