لا صوت يعلو على صوت القدس ، ليس فقط لأنها
عاصمة الروح ، وهى المقر والمستقر للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة ، وشاءت إرادة
الله جلت قدرته ، أن تحيى بشباب القدس وشاباتها عظامنا التى صارت رميما ، وأن تبدأ منها قصة الخلق الفلسطينى الجديد ، الذى لا يبالى
بخذلان الأبعدين والأقربين ، ولا بموات الأمة التى استعبدها واستذلها حكامها ،
وجعلوا من أنفسهم سندا لكيان الاحتلال الإسرائيلى ، الذى صدمته مفاجأة قيامة
وبسالة أهل القدس المحتلة الجريحة المنهكة ، ولكن المتحدية بمقاومة أسطورية سلاحها
الإرادة والإيمان والصدور العارية والفداء والتضحية إلى ما لا نهاية .
كانت القدس مركز الوحى والإلهام لانتفاضات
الفلسطينيين عبر العشرين سنة الأخيرة ، كان المسجد الأقصى نقطة انطلاق الانتفاضة
الثانية فى أواخر 2000 ، وجسرا لصعود انتفاضة "شباب السكاكين" من أكتوبر
2015 إلى نوفمبر 2016 ، وساحة بطولة هائلة أفزعت جيش الاحتلال فى 2017 ، وهزمت
عدوان تركيب كاميرات وتشييد أبراج مراقبة تتحكم بالدخول عبر بوابات المسجد الأقصى
، ومن دون أن يأبه شبان وشابات المدينة العتيقة بتطورات السياسة الصادمة ، ولا
بتأييد أمريكا لقرار الاحتلال القديم بضم القدس كلها أواسط عام 1980 ، ولا
بإعلانات الزهو الإسرائيلى الفاقع باعتبار "القدس الموحدة" عاصمة أبدية
لكيان الاحتلال ، ولا بأطواق المستوطنات شرقى القدس ، وشق الطرق العازلة ، ومنع
مئات آلاف المقدسيين لعشرات السنوات من البناء فوق أراضيهم ، وخلخلة أساسات المسجد
الأقصى بحفريات توراتية مهووسة مكذوبة ، وحملات التهجير القسرى فى حى "الشيخ
جراح" وغيره ، وهمجية المستوطنين المستعمرين مع الشرطة والمخابرات وجيش
الاحتلال وفرق الخيالة ، وفى زحام الهول الباطش ، وترك القدس وأهلها المحاصرين
وحدهم ، بدت المعجزة بأنصع معانيها ، ودارت حروب شوارع متصلة ، عجزت فيها "إسرائيل"
عن دفع شباب القدس للاستسلام ، وسقط المئات بعد المئات جرحى وأسرى ، ولكن من دون
أن يتراجع زحف طوفان البشر ، يبتسمون والدم يسيل من أجسادهم ، يبتسمون وهم يقعون
فى الأسر ، يبتسمون وهم يكسرون حواجز الخوف ، يبتسمون وهم يغنون للقدس وفلسطين ،
يبتسمون وهم يكيدون للأعداء بأغانى صنعوها ناطقة بالعبرية ، تتوعد الغزاة العابرين
بسلاحهم وبالطلقات الحية والطلقات المعدنية وقنابل الغاز وخراطيم المياه العادمة (تشبه
مياه الصرف الصحى) ، يبتسمون وهم يهزأون بصنوف القهر كلها ، وبالقتل والهدم
والتشريد ، ويعلنون أنهم باقون ما بقى الزعتر والزيتون ، وأن عدوهم العابر ذاهب
غابر لا محالة ، وإلى حيث ألقت القدس غزاتها القدامى فى مزابل التاريخ .
ليس فى القدس جيش عربى ، ولا فصائل فلسطينية
مسلحة ، ولا جماعات سياسة ، تختلف فى جنس الملائكة ومواعيد الانتخابات ، ولا نوازع
طائفية من تلك التى تمزق الروح ، لكن القدس بأهلها وشبابها وشاباتها ، صارت جيش
الأمة الوحيد الذى يهزم جيش الاحتلال ، وفى معركة تلو المعركة ، كما جرى قبل
أسابيع فى معركة "باب العامود" ، وبعدها فى "سبت النور" ، حين
حاول الاحتلال منع وصول المسيحيين الفلسطينيين إلى "كنيسة القيامة" ،
فأهل القدس هم المعنى الأرقى لوحدة الأمة ، ودفاع المسلمين فيها عن كنيسة القيامة
، كما دفاع المسيحيين والقساوسة عن المسجد الأقصى ، وقهر الاحتلال لأهل القدس
جميعا ، يخلقها من جديد ، ويستعيد لها معنى الصلاة الجامعة لله وحده ، وللوطن
وعروبته ، كما للمسجد والكنيسة ، ولشعاع النور الذى يخترق الحجب والحواجز العسكرية
وجدران الفصل ، ويبعث الروح فى "رام الله" و"نابلس" و"جنين" و"بيت لحم" ،
تماما كما يبعثها فى "عكا" و"اللد" و"الرملة" و"حيفا" و"يافا" ، وفى "غزة" العزة
، وأفواج الشهداء الصاعدين للسماوات فى حرب القدس ، فالقدس لن تكون أبدا عاصمة
لاحتلال ، وثروة القدس ليست فقط فى مقدساتها الدينية ، بل فى أهلها المباركين بنور
الله ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا يخيفهم جيش الاحتلال ولا جرافاته ولا محاكمه
المزورة ، ولا خطط السحق الكلى الجارية من عشرات السنين ، وقد أفسدوا على المحتلين
احتفالات ومسيرات وأعياد النصر التهويدى ، فهم على أرضهم ثابتون راسخون ، وأعداؤهم
أمة خلت من قبلها أمم الغزاة ، و"الشيخ جراح" ليس مجرد اسم عرضى لمنطقة
ولا لشارع ، بل عنوان صمود طالع كما أحجار القدس من رئة الزمن الباقى ، فالشيخ "جراح"
المقصود هو "حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحى" ، طبيب صلاح الدين
الأيوبى محرر القدس الأول ، بأقصاها وكنيستها قبل أكثر من 800 سنة ، وكل شاب وشابة
فى "الشيخ جراح" ، وفى عموم القدس ، هو مشروع صلاح الدين جديد ، وإن كان
بغير جيوشه ولا سلاحه ، وكما كتبنا هنا قبل أسبوعين ، فى مقال بعنوان "عظات
القدس" ، فإن "نداء القدس وعظاتها وانتفاضاتها ، هى وحدها التى ترد
الروح ، وتعيد النجوم التائهة إلى مداراتها الأصلية" ، وهو عين ما جرى ويجرى
متصلا متصاعدا فى فلسطين كلها ، فانتفاضة المقدسيين بعثت الروح فى أراضى 1948 ،
كما فى مدن الضفة وقراها ، وامتزجت دماء شهداء القدس وشهداء الضفة وغزة والداخل ،
وجمعت قوافل الأسرى نفسها المئات فى ذات الوقت ، وبغير تمييز بين بقاع فلسطين
التاريخية كلها ، ثم صعدت الروح المقدسية إلى ذراها بتجاوب غزة البطولى ، ورشقات
صواريخها بالمئات وبالآلاف ، التى ضربت العدو وتجمعاته الاستعمارية فى ضواحى غرب
القدس ، كما فى مستعمرات غلاف غزة و"أسدود"،
كما فى "عسقلان" وخط أنابيب البترول الواصل إليها من "إيلات" ،
وصولا إلى قصف تل أبيب نفسها ، وبما نشر الرعب بين أغلب سكان إسرائيل ، وأثبت
للعدو أن المقاومة تملك قوة الردع ردا على جرائمه وغاراته ، وجعله يتألم كما يتألم
الفلسطينيون .
وكلامنا فيما مضى ويحل ، ليس تحليقا فى فضاء
الأمانى ، ولا هو دفع لشعور اليأس بشد حبال أمل تخيلى ، بل طريق واقعى جدا لسعى
جدى إلى تحرير فلسطين ، وفى قلبها القدس ، وبقدرات الفلسطينيين أولا ، بعد أن
خذلهم القريب والبعيد ، وتلهت عنهم الأمة بمآسى من صنع الشواذ والأعداء ، وبحروب
أهلية وطائفية مهلكة ، وبمذابح فاقت فى وحشيتها ما ترتكبه "إسرائيل" ،
وليس مطلوبا من الفلسطينيين فيما نظن ، سوى احتذاء مثال القدس ، وجعل كل مدينة
فلسطينية قدسا إضافية ، وبالكفاح الشعبى الذى يحطم حواجز الخوف ، ويكسر قيود "أوسلو"
وأخواتها وسلطاتها الباهتة المتنازعة ذاهبة الريح ، فالقدس وحدها ، وبطاقة أهلها
التلقائية المبرأة من شوائب السياسة ومطامعها الصغيرة ، كفاح القدس وحده هو الذى
يشق طريق النصر الأكيد ، وليس مطلوبا ـ فقط ـ تضامنا مع القدس وأهلها ، بل استنساخ
معنى القدس فى كل دار فلسطينية ، وجعلها عاصمة الكفاح كما هى عاصمة الصلاة ، وفى
القدس بضعة مئات الآلاف ، لكن فلسطين المحتلة كلها فيها ملايين سبعة ، وموارد
بشرية عربية تفوق موارد البشر الصهاينة المغتصبين ، وصحيح أن كيان الاحتلال يملك
سلاحا عسكريا لا يملكه الفلسطينيون ، ولديه ترسانة قنابل ذريه ، كانت سلطة " جنوب
أفريقيا " العنصري تملك مثلها ، لكنها هزمت بالكفاح العنيد الطويل للسود
المستعبدين ، وبذات أساليب الفصل العنصرى " الأبارتايد" والتهجير
والحصار ، الذى يمارسه كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وما من بديل أفضل عند
الفلسطينيين سوى بتطليق الأوهام ، وترك خرافات بائسه غير ممكنه التحقق ، ولا تلبى
الحد الأدنى من الحق الفلسطينى ، من نوع وهم دويلة الضفة وغزة ، الذى يتقزم مع
مرور الزمن الجارى إلى دويلات أصغر ، تتناحر فيما بينها على نحو ما عرفنا ونعرف ،
وتنتهى إلى تقسيم المقسم ، بينما نداء القدس وعظاتها البطولية فى مكان أخر تماما ،
وفى مقام العودة للأصل المهجور ، وهو العمل من أجل تحرير فلسطين كلها من النهر إلى
البحر ، وإقامة دولة فلسطنية ديمقراطية جامعة ، لا فرق فيها بين الأراضى المحتلة
فى 1948 والأراضى المحتلة فى 1967، وهو هدف لا يتحقق بغير كسر أسنان ألة الاحتلال
العسكرية ، وإنهاكها دوما بانتفاضات شعبية ، لا تستبعد المقاومة المسلحة كلما
وحيثما امكنت ، وإن كانت تركز على المقاومة الشعبيه التى يستطيعها الناس جميعا ،
ووظيفتها بالغة التحديد والوضوح ، بالتصدى للعدو واستنزاف قوته ، وزيادة تكاليف
بقاء الاحتلال دما ومالا ومعنويات ، وكل احتلال يذهب ، إن زادت تكاليف بقائه عن
فوائده ، وهذه عبرة كفاح الأمم جميعا ، وعبرة الكفاح الفلسطينى نفسه ، وعبرة كفاح
القدس الابداعى بالذات ، فالقدس وحدها تمثل الكل ، وحالتها الفريدة تلخص أحوال الفلسطينيين
جميعا ، قسمها الغربى جرى احتلاله فى نكبة 1948 ، ثم احتلال الجزء الشرقى فى 1967
، ورمزية كفاحها هى التى تحرج وتردع خونة الأمة ، وهى أولى القبلتيين فى مقام
الروح ، وأول الإختيارات عند مفارق الطرق .
0 comments:
إرسال تعليق