عاد سعيد ذات ليلة إلى المنزل واستقبلته زوجته بوجوم ظاهر كانت شديد شحوب الوجه، أدرك بأن ليس كل شيئ على ما يرام، ومع ذلك قال لها مداعبا: "ماذا أعددت لنا من طعام؟ إني أكاد أموت من الجوع".
قالت في شيء من الغضب: " وإبنتك عافية تكاد تموت من شدة الحمى.."
هتف سعيد.. "الحمى؟؟ دائما تبالغين.. حتى مجرد نزلة الزكام العادية تجعلك ترتعدين خوفا.. ثم تنمهر دموعك كالطوفان.."
قال هذا، ومع ذلك شعر بخوف لم آلفه طول حياته، حينما رأى دموع زوجته تنسكب في صمت، وفي لحظة همسته ابنته الصغيرة عافية: " أنا تعبانة يا بابا.."
نظر إلى وجهها المستدير الدقيق الملامح، والعرق يقاطر على جبينها الشاحب وترددت نظراته على عينيها القلقتين الزايغتين، ورمق صدرها الذي يعلو ويهبط بصورة واضحة، فداخله قلق غامض واضطراب نفسي.
فكر عند ذلك، وغاب الجوع، حمل ابنتها الوحيدة لأقرب طبيب.. لكن كيف ذلك..؟ نفذ الإغلاق التام في المدينة لأجل تفشي بلاء كورونا، توقفت الأمور كلها، قد عطلت الحياة والنشاط في البلد.
خرج من البيت وصل إلى الشارع الطويل، لكنه لم يجد التاكسي، فبدأ يسرع إلى المستشفى القريب حاملا على كتفه، دخل المستشفى، فحصها الطبيب وقال له: " إنه التيفوئيد.. وسيتم تحليل الدم". لا بد لها الدخول لكي يرعاها بكل رعاية.
ظن سعيد في خلال يومين أو ثلاثة سيكون كل شيء على ما يرام..
مرت أيام ثلاثة كأطول ما تمر الأيام، ولا يذكر أنه استطاع خلالها أن يقبل على طعمه بشهية، يأكل ويشرب، ولكن لا طعم فيه ولا لذة، لجأ إلى الموسيقى التي كان حريصا على سماعها لكنه فقد كل جمالها ومرحها، تجردت الحياة من كل أنواعها ومذاقها، تلاشى كل مرحى السنين في لحظات من التعاسة أطول من الزمن، ولم تسعه الدنيا من الفرحة ،وهو يرلاى أن حرارتها تنخفض، وحالتها تتحسن في الرابع.
تقدم نحو ابنتها "عافية" وضم إلى صدره في حنان وأخذ يقبل رأسها وجبينها ووجهها ويدها، ودموعه لا تكف عن التدفق.. ثم اشعل سيجارة وأخذ يدخن، شعر راحة في قلبه، وشعر كأنه ولد من جديد، وأنزل الله في قلبه أنذلك قبسا من اليقين والإيمان والإطمئنان.
واليوم ينظر إلى ابنتها من شرفة المنزل، وهي تجري وتلعب مع اقرانها في الحديقة، يقول نفسه: أه ما أقساها من تجربة.. أه لو تعلمين ياعافية.. من خلال مأساتك العنيفة التي عصفت بي، ووسط ظلامها القاسي الرهيب، ثم اكتشف ستار النافذة التي يستطيع أن يطل منها على أحزان التعساء.
*كاتب القصة
الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها
جامعة عالية ،كولكاتا - الهند
merajjnu@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق