متى يسمع النائمون ؟
أمدّ يدي وأقلّبُ أوراق تشرين
الأسماءُ كثيرةٌ ..
القاتلُ واحدٌ لم يتغيّر
أقلِّبُ أكثر في أوراقِ الضبابِ
نفسُ الوجوه على شواطئ الغزلِ
مازالت تندبُ حظّاً عاثراً
لتغطّي قدَّاسُ الشهادةِ بغيّها,
بعيداً عن صرخةِ التغريبِ والتعاسةِ
واليوم .. ذاتُ النائمين يتميّعونَ
وأرضُ الرسالات في غزةَ والقدس
تشربُ من نارِ المغتصِبين بقايا
خذلانِ
أهدى فيها النائمونَ لسيدهم أعنّةَ
مجدٍ
وآخِرَ ما تبَقّى من شظايا قالوا
أنها كرامتُهم
ليناموا دهراً يجدِّدهُ الصّمتُ, وأطلالُ الفاقةِ
فلا تشرين يوقظهم,
ولا أنين ينفعُ من تحتِ الأنقاض!
خانةُ النسيانِ لن تنفعها قائمةُ
الخيانةِ
في وصيةِ شهيدٍ وجدوا ذلك مكتوباً.
دأب الساعدي إلى التجديد من خلال
نظريته " نظرية التحليل والارتقاء مدرسة النقد التجديدية " وخلق طرق
حديثة لتحليل النص الأدبي تتماشى مع روح العصر ومواكبة التغيرات الاجتماعية
والنفسية التي ترافق الفرد وحياته اليومية وتسهم بشكل فعال في بناء المنظومة
الانسانية وأن لا نكون حبيسيّ المناهج
النقدية السابقة إلا بقدر كونها أداة مساعدة في البحث والتحليل للوصول إلى الغاية
التي من أجلها كتب الشاعر نصه مع الأخذ بنظر الاعتبار السياقات الخارجية وكل ما
يُحيط الكاتب من تأثيرات اجتماعية ونفسية خاصة به وعامة نابعة من رحم المجتمع الذي
يعيش فيه باعتباره أحد الافراد المسؤولين في رصد السلبيات والظواهر الاجتماعية
وتعرّية الواقع الأليم المُزيف من ذلك انطلقت عنونة القصيدة " متى يسمع النائمون ؟ " لتُمثّل لنا صرخة
وجدان وضمير واعي وتدفق حسيّ وطني وقومي
من ذّات الشاعر بأسلوب موجز متوهج وكما يقول الشاعر أنسي الحاج " لتكون قصيدة
النثر قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية, أو محملة بالشعر, شروط ثلاثة : الايجاز
والتوهج والمجانية "1.
وإني أرى العنونة هي الوهج البصري
الحسيّ الأول الذي يستثير مُخيلة القارئ ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية
المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد
عليه تفاصيل القصيدة وما تتضمنه من دلالات ومعانٍ واستعارات و انزياحات و متضادات وإيقاع موسيقي داخلي..
يعد الاستفهام الوارد في العنونة "
متى " استفهاماً مجازياً يخرج عن معناه الحقيقي حيث أن الناص لا يُريد السؤال
وإنما يُريد النفي الضمني وكأن الشاعر يقول ( لا يسمع النائمون ) حيث تخرج تلك
الدلالة إلى دلالات ومعانٍ أخرى كالتمرد والرفض لواقع شخصيات مؤثرة في المجتمعات
والتي من شأنها إن سكتت عن الظلم والطغيان سوف تكون شريكة في تلك الجرائم التي
طالت الشعوب المنكوبة حيث أن الشاعر لم يقتصر احساسه بشعبه وبلده وإنما تجاوز ذلك
إلى الاحساس القومي النبيل بأهل فلسطين وأرضهم المغتصبة منذ مئات السنين واستمرار
الاضطهاد والقتل والتهجير لذلك الشعب المظلوم كما في نصه :
واليوم .. ذاتُ النائمين يتميّعونَ
وأرضُ الرسالات في غزةَ والقدس
تشربُ من نارِ المغتصِبين بقايا
خذلانِ
استطاع الساعدي من خلال سريان تدفق
الصور الشعرية في النص خلق صورة حسيّة حركية عن طريق الانفجار الهائل في الأنا
الخاص والتشظي إلى عدة صور لكنها تجتمع وتتحد في هدف واحد أراد الناص ايصاله إلى
جمهور واعٍ مُدرك حجم المُعاناة التي تلحق الشعب العراقي, فقد ربط الشاعر بتقنية
فنية وجالية الألفاظ بين ثورة تشرين وأهدافها السامية ضد الظلم والفقر والفساد
والسرقات التي طالت كل مفاصل الحياة وبين ما يحدث في فلسطين من ثورة قادتها فتية
ثائرة ضد العدوان من أجل تحرير الأرض المغتصبة كما في نصه:
أمدّ يدي وأقلّبُ أوراق تشرين
الأسماءُ كثيرةٌ ..
القاتلُ واحدٌ لم يتغيّر
يُناشد الشاعر الضمير العربي للنهوض
من سباتهم ونومهم العميق اتجاه القضية الفلسطينية التي مضى عليها سنين طويلة
وتنتهك حرمة مقدساتها وتسلب ارادتها..
كما لجأ الساعدي إلى لغة انفعالية
ناتجة من غليان وتوهج الأنا الشعرية الثورية وتشظي الصورة الشعرية إلى قطع بلورية
تحمل كل جزيئة منها صورة صادقة تُمثّل ذلك الفيض الشعري المتدفق من نفس مترعة
بالألم وذلك الاحساس الصادق والمرتبط بقضية الوطن والأمة العربية والمناجاة
الصادرة من قلب مجروح وينزف دماً عبيطاً للدعوة إلى تحرير الشعوب التي باعها
ساستها وليس أسيادها وقد عبر عنها الشاعر بصوت وحروف ومقاطع موسيقية حزينة كأنها
تراتيل قُدسية كما في نصه :
أهدى فيها النائمونَ لسيدهم أعنّةَ
مجدٍ
وآخِرَ ما تبَقّى من شظايا قالوا
أنها كرامتُهم
ليناموا دهراً يجدِّدهُ الصّمتُ, وأطلالُ الفاقةِ
اتسمت القصيدة بعمق الدلالات اللغوية
المفهومة المعنى وبعيدة السفسطة الألفاظ المبهمة وبلغة منسجمة ومترابطة تتسم
بالجمالية وبذلك فإن وجهة نظر الساعدي تتفق مع قول البحيري على أنَّ النص بشكل عام
هو " إبداعات لغوية يستدعيها واقع معين, أو وجهة فعلية معينة, ويجب أن تدرك
في إطار هذه الخاصية على أنها أبنية للمعنى "2.
وبذلك استطاع الشاعر دفع مخيلة
القارئ إلى التفاعل الحقيقي والتأثري مع بُنية النص والفكرة الأساسية الذي تضمنها
وفي مفهوم آيزر " نوع من التفاعل الوجودي بين الذّات القارئة والبنية النصيّة
لتوليد معنى ما وقيمة أدبية ما لا تعودان بالتحديد إلى ملكية خاصة بالنص ولا إلى
ملكية خاصة بالقارئ ولكنها تعود فقط إلى تلك النقطة التواصلية التي توجد بينهما
بهذا المعنى هو فعل منتج للدلالة وليس مستهلكاً لها"3.
استعمل الشاعر أداتيّ نفي الأولى
مهملة ( فلا تشرين ) والثانية ( ولا أنين عاملة دخلت على الجملة الأسمية ويريد به
انكار ونفي جملة وهو عكس الاثبات لغرض تحريك مخيلة المتلقي من خلال إثارة بصرية
تسهم بشكل فعال في تثبيت الرؤيا الشعرية التي تُمثّل ذلك الهيّاج والقلق الحقيقي
النابع والمتفجر من وجدان الشاعر لتحقيق التلاحم مع تفاعلات الواقع ليُرسخ لنا
فكرة مُعتمرة في نفسه عن تدفق الصور الشعرية لخلق حالة التوازي والاتزان بين تجربته
التي تمخضت عن ارهاصات نفسية وتأثيرات اجتماعية نابعة عن اليومي والمتغير في مجتمع
عَرف أساليب العيش فيه وكيف تتحرك دفة الأمور على كافة الأصعدة وهو مؤمن بقضيته
وهدفه المنشود وهذا ينطبق مع قول الرسول (ص) الذي ورد : عن أبي عبد الله (ع) أن
النبي (ص) قال : من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم, ومن سمع رجلا ينادي يا
للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم" 4.
وقد خلص لنا الشاعر بأن كل الثورات
امتداداً من ثورة الشباب في تشرين وامتداداً إلى ثورة الفلسطينية لم تُحرك مشاعر
الضمير العربي ولم توقظهم من سباتهم العميق وهذا يدل على عمق الوعي والاحساس
الوطني والقومي بأبناء شعبه واتصاله الحقيقي بقضية الشعوب المتحررة وهي القضية
الفلسطينية كما في نصه :
فلا تشرين يوقظهم,
ولا أنين ينفعُ من تحتِ الأنقاض!
خانةُ النسيانِ لن تنفعها قائمةُ
الخيانةِ
في وصيةِ شهيدٍ وجدوا ذلك مكتوباً.
المصادر
1-
رشيد يحياوي: قصيدة النثر ومغالطات التعريف, علامات , م8, ح32, آيار 1999, ص56.
2-
سعيد حسن البحيري, علم لغة النص(المفاهيم والاتجاهات) 1977 ط1, مكتبة لبنان
, الشركة المصرية العالمية للنشر , لونجمان , ص105.
3-
حميد لحمداني, القراءة وتوليد الدلالة , م. ث. ع ( بيروت ) ط1, 2003, ص70.
4-
الحر العاملي- وسائل الشيعة (آل البيت) , ج 16, ص 337.
-
0 comments:
إرسال تعليق