خط أحمر وحيد لم يتم اجتيازه فى حرب أوكرانيا ، هو الانتقال إلى حرب عالمية نووية بدمار كونى ، فى حين جرى اجتياح كل الحواجز فى الحرب ذات الطابع العالمى، وصولا لوجود غير رسمى لقوات حلف الأطلنطى هناك ، فى صورة جماعات مرتزقة من العسكريين المتقاعدين المؤهلين ، وفى صورة جيوش شركات الحروب غير الرسمية ، تتقدمها "بلاك ووتر" الأمريكية ، إضافة لخدمات مئات الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية على مدار الساعة ، وجنرالات أمريكيين وبريطانيين وغيرهم ، يتولون تخطيط وإدارة العمليات المنسوبة ظاهريا للجيش الأوكرانى ، عدا التدفق الرسمى الهائل المعلن وغير المعلن لأحدث طرازات الأسلحة الأمريكية والغربية ، وبأرقام تمويل فلكية ، زادت فى مجموعها الأمريكى والأوروبى على 120 مليار دولار ، أضيف إليها نحو 50 مليار دولار ، رصدتها واشنطن وحدها لدعم أوكرانيا فى العام الجديد .
ولا يخفى الهدف من حمى السلاح
والمال ، وهو إضعاف روسيا وهزيمة الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، ومع ما
بدا من صعوبة إنجاز الهدف ، بينما العام الأول للحرب يكاد يطوى أوراقه ، لجأت عصبة
الأطلنطى وحلفاؤها بمجموع خمسين دولة إلى استنفار عام ، وفتحت كل مخازن سلاحها الفائق
التطور ، وأعلنت تباعا عن استعدادها لتزويد أوكرانيا بأسلحة ثقيلة دفاعية وهجومية ،
وانتقلت من أنظمة الدفاع الجوى ، ونظام "باتريوت" الأمريكى فى قمتها ، إلى
رفد قوات أوكرانيا بالمدرعات والدبابات ، ألمانيا التى انتظرت الآخرين الخمسين ، وتستضيف
اجتماعاتهم السرية فى قاعدة "رامشتاين" ، أعلنت اعتزامها تزويد أوكرانيا
بدبابات "ليوبارد" بعد دبابات “جيبارد" ، فوق مدرعات "ماردر"
، وبريطانيا سبقت بدبابات "تشالنجر" ، وفرنسا لحقت بدباباتها المدرعة القتالية
الخفيفة “AMX-10RC” ، وأمريكا فتحت المزاد بصفقة
عاجلة ، وصلت قيمتها إلى نحو ثلاثة مليارات دولار ، تضمنت 50 مدرعة من طراز "برادلى"
، مع تجهيزات أخرى سبقت وتلحق ، أشهرها منظومة "هيمارس" ، وقد يجدى ذلك كله
قليلا ، ويطيل أمد الحرب ، لكن روسيا على ما يبدو ، استعدت جيدا هذه المرة للنزال الأخير
، وتركت روح الاستهانة ، التى ميزت عملها العسكرى لشهور طويلة ، وأعادت تنظيم قواتها
العاملة فى أوكرانيا ، وزادت عديدها بالتعبئة العسكرية الجزئية ، التى تضيف نحو
350 ألف جندى ، شارف إعدادهم وتدريبهم على الاكتمال ، وقد تلجأ إلى تعبئة إضافية ،
بعد أن قررت مضاعفة إنفاقها الحربى ، ودفع مصانع السلاح للعمل بكامل طاقتها ، وزجت
إلى ميادينها فى أوكرانيا بأسلحة أكثر حداثة ، من نوع الطائرة الروسية الشبحية
"سو ـ 57" ، التى شوهدت على مقربة من مسارح العمليات ، فوق حل مشاكل الروس
السابقة فى الإمداد اللوجيستى ، وبتدرج يبدو مدروسا أكثر هذه المرة ، وبقيادة أكفأ
، بانت كراماتها ، بعد تراجعات فى "خاركيف" و"كراسنى ليمان" ،
أغرت الغرب بإمكانية هزيمة الروس ، ولجأت القيادة الجديدة إلى انسحاب منظم من منطقة
فى "خيرسون" غرب نهر "الدنيبرو" ، بدا متوافقا مع خرائط
"بوتين" السياسية بعد قراره بضم المقاطعات الأربع شرق وجنوب أوكرانيا ، وعلى
جبهة سلاح طويلة فوق الألف كيلومتر، مع التركيز على هدف استكمال السيطرة فى مقاطعة
"دونيتسك" بالذات ، والتقدم المحسوب باتجاه مدن "باخموت" و"كراماتورسك"
و"سلافيانسك" ، برغم ظروف الشتاء الأكثر قسوة فى هذه المناطق ، والحرص على
خفض الخسائر البشرية للروس إلى أدنى حد ، واستخدام المدرعات والدبابات الروسية الأخف
حركة ، والاعتماد بالأساس على جماعة "فاجنر" والمقاتلين الشيشان والمحليين
والمظليين الروس ، واللجوء إلى تطويق "باخموت" عاصمة المناجم من الشرق والجنوب
، وصولا لمفاجأة السيطرة على "سوليدار" ، وتكمن أهميتها العسكرية فى تلالها
المرتفعة ، التى تمنح مجموعات القتال الروسى الصغيرة ميزة حاسمة فى السيادة النيرانية
، ربما تمهيدا لخنق خمسين خط دفاع أوكرانى فى "باخموت" الخالية من السكان
، وتكرار تكتيك "اصطياد الفئران" على طريقة ما جرى بمعركة "آزوف ستال"
فى "ماريوبول" ، مع تكثيف القصف الجوى والصاروخى وبالطائرات المسيرة على
كل مدن أوكرانيا ، وتدمير البنية التحتية العسكرية والمدنية ، خصوصا فى مدن "دونيتسك"
المتبقية تحت السيطرة الأوكرانية ، وتحصين خطوط الدفاع من اختراقات واردة ، وقد فاجأت
القوات الروسية أغلب المراقبين العسكريين ، وداومت على القتال المتمهل فى فصل الشتاء
المعيق فى العادة لحركة المدرعات والدبابات والجنود ، وتواصل إعداد المسرح الحربى لهجوم
كاسح على ما يبدو مع أوائل فصل الربيع ، تحتاج إليه لحسم الموقف العسكرى كله ، وقد
تتجه به إلى العاصمة "كييف" فى الشمال ، وربما إلى "أوديسا" فى
الجنوب ، بعد أن أعلنت شروطا حاسمة لوقف الحرب بالتفاوض ، تعرف أن الغرب لن يسلم بها
بسهولة ، من نوع نزع سلاح نظام "كييف" وقبوله لضم المقاطعات الأربع (دونبتسك
ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) إلى روسيا ، كما شبه جزيرة "القرم" ، التى
استعادتها روسيا أواسط 2014 ، وقد نصح "هنرى كيسنجر" أمريكا قبل أسابيع ،
ودعا لتقبل المطالب الروسية فى جملتها ، وإن اقترح إجراء استفتاء آخر فى المقاطعات
الأربع برقابة الأمم المتحدة ، مع التسليم طبعا بأحقية روسيا فى شبه جزيرة القرم ،
لكن الإدارة الأمريكية تتردد فى قبول نصائح "كيسنجر" ، وتستمر فى مطاردة
وهم هزيمة روسيا ، وتعتبر التجاوب مع المطالب الروسية هزيمة للغرب ، ونهاية لسلطانها
الأوحد فى النظام الدولى ، وإغواء للصين بضم "تايوان" بأسلوب الجبر العسكرى
.
ويتحدث "الكرملين"
كثيرا عن الحوار والمفاوضات ، وكنوع من المناورة والعمل السياسى ، وربما كسب وقت إضافى
للإعداد والحسم العسكرى ، ودفع الغرب ودميته الأوكرانية "فولوديمير زيلينسكى"
للاستسلام ، خصوصا مع الإرهاق الأوروبى الظاهر فى الاقتصاد ، مع استفراغ مخازن السلاح
لتقديمها إلى أوكرانيا ، ولجوء الاتحاد الأوروبى إلى اتفاق شراكة جديد مع حلف شمال
الأطلنطى ، بهدف توفير الحماية البديلة من أخطار محتملة ، وبالذات مع تزايد التلويح
الروسى بحرب دمار نووى ، وتحول صادرات موسكو إلى أسواق طاقة بديلة للسوق الأوروبى ،
وتوثيق التحالف الاقتصادى والعسكرى مع الصين الزاحفة بإطراد إلى عرش العالم ، واللقاء
المنتظر بين الرئيس الروسى والرئيس الصينى "شى جين بينج" ، والذى قد يطور
العلاقة "بلا حدود" بين موسكو وبكين إلى "تحالف بلا حدود" ، تدفع
إليه "شراسة بلا حدود" ، يبديها الغرب باتجاه البلدين معا ، تعجل بالانتقال
رسميا من عالم "القطب الوحيد" إلى العالم المتعدد المتواجه الأقطاب ، فيما
تبدو حرب أوكرانيا كجسر عبور إجبارى ، لا خيار لروسيا سوى أن تجتازه ، وتحقق نصرا فيه
، يبدو كقضية حياة أو موت للرئيس الروسى ، الذى يغريه ماجرى حتى اليوم ، فلم تنجح خطة
واشنطن فى تحويل أوكرانيا إلى مقبرة استنزاف لروسيا ، وكادت تتحول الحرب إلى استنزاف
معاكس للغرب ولهيبة أمريكا ، التى لن يقتنع حلفاؤها بجدوى التعويل عليها حال انتصار
روسيا ، فيما لا تبدو واشنطن مؤهلة لكسب حرب سعت إليها ، ولا تبدو الإدارة الأمريكية
فى أحوال مريحة ، فقد استنفدت كل مراحل الدعم الممكن بالمال والسلاح ، ولم يبق سوى
أن تعلن دخولها الحرب رسميا وبجيوشها ، والقفزعلى
نظرية الحرب بسلاحها ، وبأرواح الآخرين حتى آخر أوكرانى ، ولا تملك الإدارة الأمريكية
أن تخاطر بفتح أبواب الجحيم النووى مع موسكو ، التى تواصل تعبئة دروعها النووية الأقوى
بامتياز ، والمحصلة أنه ما من بديل آخر متاح عند واشنطن ، سوى أن تواصل ما تفعله ،
وبحماس واندفاع قابل للعرقلة ، مع انتخاب الجمهورى "كيفن مكارثى" لرئاسة
مجلس النواب ، ومع الانتعاش النسبى لحركة "دونالد ترامب" غريم الرئيس العجوز
"جو بايدن" ، الذى صدم أخيرا باكتشاف وثائق رسمية حساسة فى مكتب مؤقت فى
جامعة "بنسلفانيا" ، اختاره بعد نهاية ولايتيه كنائب للرئيس الأسبق
"باراك أوباما" ، وهو ما نظر إليه كفضيحة للرئيس ، الذى يحرص على الظهور
فى صورة رجل الدولة المنضبط مقابل تسيب وعشوائية سلفه "ترامب" ، الذى ضبطت
وثائق سرية مماثلة فى قصره الخاص بولاية "فلوريدا" ، ومقابل تنكيل مجلس النواب
السابق بزعامة الديمقراطيين ومحاكماتهم الصاخبة لسلوك "ترامب" ، فقد انفتح
الباب هذه المرة لمجلس النواب الجديد بزعامة الجمهوريين ، الذين يتربصون للأخذ بالثأر
، وإقامة محاكمات تستهدف "بايدن" والفساد المنسوب لنجله "هانتر"
فى صفقات مريبة بأوكرانيا والصين ، وتمزيق الصورة السياسية لبايدن ، الذى يحلم بإعادة
ترشيح نفسه فى انتخابات رئاسة 2024 ، كان "ترامب" أعلن رسميا عن ترشحه فيها
، إضافة لإعاقة تصرفات "بايدن" المالية فيما تبقى من مدة رئاسته الحالية
، وتقييد دعمه بالمال والسلاح فى حرب أوكرانيا ، خصوصا أن رئيس مجلس النواب الجديد
، سبق أن أعلن عن نيته وقف منح "شيكات على بياض" للرئيس الأوكرانى ، وهو
ما قد يؤجج الصدام فى أروقة واشنطن ، ويحول
الرئيس إلى "بطة عرجاء" مشغولة بإعاقاتها عن أوكرانيا وغيرها .
0 comments:
إرسال تعليق