• اخر الاخبار

    السبت، 16 أكتوبر 2021

    ليلى ... وحكاية الألف ليلة ..الفصل الخامس عشر والأخير ..بقلم الأديب عبدالباري المالكي

     

     


    لاحظ الطبيب أني لستُ على ما يُرام ، فقد رشح جبيني وسكن أنيني وأنا أمدّ يدي تحت القميص على صدري من جهة قلبي  ، فلما رآى الطبيب يدي  حيث أصابعي تتحرك ، فتح أزرار القميص فوجدني أمرّرها على جرح لم يندمل ، ومازال نديّاً للآن .

     

    كان ذلك منذ سنوات ...

    حين صرخت أمي صرخة عالية وقد رأت دماً ينزف من صدري من جهة القلب ، فقالت بصوت عالٍ وهي خائفة جداً :-

    ماالخطب يايوسف ؟

    قلت :- لاتخافي ياأمي ، ثمة جرح بسيط جاء خطأًً مني بموسى الحلاقة .

    قالت :- ياولدي ، ماذا جرى لك ؟ ... ماالأمر ؟

    أي حلاقة في القلب ؟

    لاادري ياولدي لماذا اشعر أنك لستَ بحال جيدة .

    وإنما نحن منكَ بين حالتين اثنتين :-

    الإشفاق عليك مما فيكَ مما لا نعلمه ، والخوف عليك أن تؤذي نفسك لأمر لا نعرفه  ، فما الخطب يابنيّ ؟

    قلت :- أمي ... لاشيء يستوجب الخوف علي ، إطمئني كثيراً .

    قالت :- كيف أطمئن وأنا أشاهد بأمّ عينيّ ولدي الحبيب وقد جرح نفسه متعمداً بسكينٍ ذات شيفرة حادة جداً ، ولدي الوحيد الذي أنجبتُهُ بعد دعاء عريض لسنواتِ عقمٍ مضينَ ، ثم احتضنتُه وأنشأته بين يديّ ، وكنت أراقبه عن كثب ، حتى إذا صار شاباً ، ونضج ،  رأينا منه العجب ، ولا نعلم مابه ؟

    فيا ولدي العزيز ، وروحي التي بين جنبيّ ،  أستحلفك بالله ... أخبرني لمَ فعلتَ ذلك ؟ ولأجل مَن ؟

    إن أباك لا ينفكّ عن سؤالي عنك كل يوم ، إذ يشعر بكَ وأنتَ تعيش ألماً لاندرك نحن كنهه ؟

    أخبرني.... أتعشق يايوسف؟

    ومَن هي هذه الفتاة المحظوظة التي تعشقها ؟

    أتحبها لهذا الحد ؟  مااسمها ؟

      أخبرني ... وسنزوجها إياكَ مهما كلّفنا الأمر .

    كنتُ على موعد مع ليلى في ذلك الوقت ، فتعجّلتُ في أمري وقد ابتسمتُ لأمي وقلت لها :- حسناً ، سأخبركِ بكل شيء في حينهِ يا أمي العزيزة .

    هربتُ من أمي بسرعة ، ورحت أمرّغ منديلاً أبيض بالدم النازف من صدري ، إدخرته لليلى ،  وأخرجتُ من أحد أدراجي زجاجة العطر التي نويتُ أن أهديها لليلى في ذلك اللقاء المرتقب ، ولم أكن أعلم أنه سيكون اللقاء الأخير ...

    بعد ساعة ... إلتقيتها ...

    كانت ابتسامتها أشبه بنار تستعر بقلبي وهي تمدّه بأشعة لهيبها دون أن تفكّ أواصرها منها ، فلا تخبو فيه ، وكلما حدّقت بي بعينيها زادت نارَه حطباً... وصاح :- هل من مزيد ؟

    شعرتُ حينها وكأن الجنة ذاتها تمثلت عندي الآن في ليلى ، وأنا أقف على أبوابها ، أرى أنهارها وحدائقها ، أتمعن بممالكها وقصورها ،  وأنتظر الإذن بالدخول إليها ، فإن أُذِنَ لي كنتُ من الفائزين .

    وأنا أقف قبالتها ... كنتُ كمن ينتظر أن يُسقى من رحيق مختوم ... ختامه ليلى .

    كنتُ على يقينٍ أني عاجز تماماً عن لملمة أحرفي ، واستحضار كلماتي ، وكيف لا أعجز ؟ وأنا في حضرة حوريةٍ استأذنت النزول الى الأرض ، لتصبيَني ، فيغشاني منها ما يغشى ، فأعيش فيها بين اثنينِ :-

    لهفةِ اللقاء .

    والعجزِ عن البوح فيه .

    قلت لها :- ليلى ... ماالجدوى أن يكون العشق مخبوءاً في حنايا الصدر دون ان يفتح العاشق لمعشوقه نوافذ قلبه وأبوابه ؟

    قالت :- صدقت يايوسف ... لا جدوى ، لكن ماالمناسبة لهذا السؤال ؟

    قلت :- أترين هذا النزف في صدري من جهة قلبي ؟

    صرخت ليلى وقالت :- ماهذا يايوسف؟ أأُصِبتَ بسوء ؟؟

    قلت :- لا ... لكني أردت ان يكون بيننا موثق  أمام الله تعالى وأمام قلبينا ... فمنحتُكِ دماً من صميم قلبي ليكون شاهداً عليّ

    أني أعشقك حد الجنون ياليلى ، وأني لن أخون عشقكِ ، ولا أتزوج سواكِ ما حييتُ ، فأحدثتُ في  صدري جرحاً بليغاً لتعرفي مقدار عشقي إليكِ ، وليشفع  لي هذا الجرح عند الله يوم  الحشر ... ياراهبتي الجميلة والجليلة .

    ثم أردفتُ القول لها ، وقلت :-

    ليلى ... إنه ورغم المسافات التي تفصلكِ عني ، فإني أجدني بالموضع الذي أنتِ فيه ، فوالله إني لأشعر بحرارة أنفاسكِ بين يديّ وأنتِ في مسكنكِ ، وأشعر بخصلات شعركِ الأشقر وهي ترفرف على وجهي رغم بعدكِ ، فلا يزيد ذلك إلا إحتراراً في  الكبد ، ولا ينقص من قلبي شيئاً من  الكمد ، فلا موضع إستئناسٍ لنفسي تألف فيه ، وتولَع به  سواكِ ، ولا منبع لخيالاتي إلّاكِ .

    قالت :- ويح قلبي يايوسف ، كيف فعلتَ ذلك بنفسك ؟ وشققتَ صدرك لأجلي ؟ فما أجملني بك  ، وما أشد خوفي عليكَ .

    أمَا والذي فلق الحبة يايوسف لن أجد رجلاً مثيلاً لك بهذا النبل وهذه المروءة ، أمَا والله ... لا امرأةَ أسعد مني الآن وذلك لِمَا وجدتُ من رجولة فيكَ وشهامة لا تضاهَيانِ  .

    قلت :- ليلى ... أنتِ الجمال كله ، فلا لون عندي أجمل من لون عينيكِ ، ولا طعم أشهى من طعم شفتيكِ ، ولا طيبَ أزكى من طيب رائحتكِ ، ولا لذة لي الا بوجودكِ .

    وقبل أن أهديها زجاجة العطر ، أخرجتُ  منديلي الممرّغ بالدم ، وأهديته لها ، فكان الجرح والمنديل أصدق شاهدينِ على عهدٍ لا ننكثه ، ووفاءٍ لا نخونه .

    ثم راحت ليلى تقلّب المنديل وتقبّله ، وهي تذرف الدموع ، لِمَا رأته مني من صدقٍ في المشاعر ، ونبلٍ في العشق .

    ومنذ ذلك الحين والى الآن مازال هذا الجرح يعبق برائحة الوفاء والعهد القديم .

     

    قال الطبيب :- آآآهٍ ياولدي ، إن جرحكَ مازال ندياً ، وكأنكَ اليوم قد أحدثتَه في بدنكَ .

    قلت :- نعم ياسيدي ... فإني أجدّد هذا الجرح ما بين آنٍ وآنٍ ، فتجديد البيعة لعشق امرأةٍ مثل ليلى واجب على رجلٍ عاشقٍ مثلي ، فالعشق ياسيدي هو أعلى درجات السموّ ، يسمو به العاشق حتى يتحوّل ذلك العشق عنده الى مَلَكةٍ راسخةٍ في نفسي .

    قال :- صدقت ياولدي ، فالعاشق كزهرة لاتنمو دون ان تضفي عليها الشمس شيئاً من أشعتها كل يوم .

    قلت :-  إن العشق الحقيقي ياسيدي هو ذلك الذي يخلق الإنسانية في نفس العاشق ، ويهبه القدرة على تحقيق ذاته في ذاته .

    قال :-  ياولدي ... ألا يكفيك جرح واحد ليكون عهداً ثابتاً أبدياً منك الى ليلى؟

    قلت :- لا ياسيدي ، من اليقين إنه لا يكفي ، إذ إنه لا يفي بالمراد نفسه . فكما يعرف جنابك ... إن الخلايا تتآكل وتتحاتّ من وقت لآخر ، وتتجدد خلايا غيرُها في موضعها ذاته ، فالخلايا التي انجرحت في جرحها الأول قد ذبلت وتلاشت وانقضى عهدها ، ووجب على الخلايا الجديدة أن تعقد البيعة لليلى ، وتجدد طاعتها لها بدمٍ عبيط ، وجرحٍ نديّ ... وهكذا دواليك تضمر وتتلاشى الخلايا القديمة ، وتنبت وتنمو خلايا غيرُها بين وقت وآخر .

    قال :- أرى أن في جرحكَ النديّ صورة الوجد الذي يغوص في فؤادكَ ،  فإذا أنّ هذا الجرح كانت فيه شهقة روحكَ ، وزفرة أشواقكَ .

    قلت :- سيدي ... إنه العشق الذي نزل بساحة قلبي حتى نَحتَ صورة ليلى فيه ، فأصبح الشوق أشد إيلاماً بي مما يُتصوَّر ، فقد كان يبثّ بي أوجاعه ، حتى نخر عظمي وهرّأ لحمي ، فلما هجرتني ليلى نزعت ما تبقّى فيّ من عافية ، وتركتني قطعة من الجمر اشتعلت ، فتحولت الى كومة من الرماد تلتهب ولا تخمد .

    قال الطبيب :- إن أعجب العجب فيكَ ياولدي إنك تعلم أن العاشق لايجني من ثماره سوى الجنون أو الموت ، وتأبى إلا أن يُحتسَب ذلك فيك ، وتصرّ عليه ، وهاهو الجنون بذاته قد أبرأكَ من علةٍ هي متجذرة فيكَ ، فتجذّر هو بكَ ، ولا أظن بإمكاننا ان نستأصله منكَ .

    قلت :- ولَعمري ياسيدي ... إنه في ليلى ، يكون العشقُ لا إسرافَ فيه وإن أسرفتُ ، والوحشةُ لا خبالَ فيها وإن خبلتُ  ، والخيالُ لا توهّمَ فيه وإن توهّمتُ ، والحقيقةُ لا إدراكَ لها وإن أدركتُ ، والجمالُ لا غاية له وإن إليه وصلتُ  .

    فإن ليلى عندي كالسماء تكاثرت فيها النجوم ، وتعددت كواكبها ، وتعسر عليّ معرفة الأجمل فيها من غيره .

    فبوجهها فاض الشعر مني ، وفي عينيها قامت رسائلي الخمسون ، فتفتّقت في ليلى قريحة كل عنصر من عناصر الحياة عندي ، بتوافقاتها وتناقضاتها ، فلكأنّ الله تعالى خلق ليلى لتلدَ الجمال كله ، ويورثَني التَيه كله .

    قال الطبيب :- إذن ... فاعلمْ  ياولدي ... أنك دخلتَ دنياك التي تنتظركَ ، دنيا الجنون ، حيث وجدتَ نفسك فيها لا في سواها ، فكن فيها ذلك العاشق المنقطع في الفلاة ، لا يرى لنفسه بها إلا عزّاً ،  ولا يعرف منها إلا أماناً ، وتزوّد من الوحدة فيها تزوّدكَ من الطعام ، وسِر وحيداً وأنت تفتش عن ليلاكَ ، لا يعينكَ في ذلك إلا قدماكَ الثقيلتانِ ، ولا يهديكَ إلا فؤادكَ المكلوم .

    فلا حقيقة تستأهل البحث والتنقيب عندك سوى عشق ليلى .

    واعلم ياولدي ... أن الناس سيشيرون إليك بأصابعهم ، لأنهم يدركون جيداً أنك مجنون ، تلوذ بالصمت طريقاً لحياتك ، وهم فيك منشغلون ، فلا تأبه لغمزِهم ، ولا لِلَمزِهم ، ولا تنتبه لإشاراتهم إليكَ ، فأنت وإن جننتَ حقاً ، فإنكَ ستخبرهم بما بصرتَ به صدقاً ، فالرائد لايكذب أهله .

    وأمِت جميع الناس في قلبكَ إلا ليلى ، فهي الحاضرة الغائبة فيكَ ، ولا تيأس من غايتكَ ، وإن قلّت حيلتكَ ، ولا ترتعب من عمرٍ يمضي ، ولا ترهب من قضاءٍ يقضي .

    فاخرج الى ساحة العشق في الفلوات ، وناجِ ربك في كل الصلوات ، وابحث عن ليلى عساك تراها قبل الفوت ، واسال الله ان تلقاها ولو على فراش الموت .

     

    ثم قام الطبيب من مكانه بكل حزنٍ وأسفٍ ، وأومأ إلى والديّ ، فهمس إليهما همساً خفيفاً ، طرق مسامع أذني  :-

    العزاء لكما بولدِكما ... فلا أمل في شفائه من الجنون ، وعلى الله المُعوَّل في الشدة والرخاء ، ولاحول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم .

    بعد شهرينِ اثنينِ ... كان والداي يذويانِ كما تذوي الورقة في الضريم ، حتى توفّي أبي لِمَا كان فيه مني من جزعٍ وجوىً ، ولم تعِش أمي بعده إلا أياماً قليلة ، إذ كانت في تلك الأيام أقرب الى الميت منها الى الحيّ ، لِمَا حملته هي من حرقة قلبٍ وكدَر .

    وبقيتُ في هذه الدار وحدي لفترة قليلة ، حتى إذا لم آلفها في وحشتي ، ولم أرَ منها صاحباً لي ، وعرفتُ أنْ لا مقرّ لي فيها ، فررتُ بنفسي الى الطرقات ، أدور بين الأحياء والأزقة ، وأتجوّل في الشوارع المظلمة ، أفتش عن ليلى في ليلٍ داجٍ وفي نهار مشرق ، في شتاءٍ قارسٍ وفي صيفٍ قائظٍ ، أبحث عنها في وجوه الناس ، وفي نور القمر وضوء الشمس .

    ومنذ ثلاثين سنة ... وأنا أتخذ من الجنون خِلّاً ، ومن الوحدة نديماً ، فقد عهدتُ على نفسي أن أستقصي أخبار ليلى في كل أرضٍ ماحييتُ ، وأتحرّى عن مكانها مااستطعتُ ، فطفتُ العالم بأسره ، مدنِه وقراه ، شرقه وغربه ، عرَبِه وأعاجمِه ، وأنا أنادي بين الناس :-

    (أين أنتِ ياليلى ...؟ هلمّي وانظري إليّ ...

    فإنّهُ لَيعِزّ عليَّ أن اخبركِ أنْ قد احدودَبَ الظهر ، وبَليَ العظم ، وهزلَ الجسد ، ويبسَ الجناب ، وذبلت النضارة ،  وضعفَ البصر ، وصُمَّ السمع ، وقلّت الحيلة ، وخارت القوة ، وشاخَ الشباب ، وغارت الأحداق ، وكثرت العِلَل ، وزادت الأسقام ، ودالت الأيام  وتعاقبت السّنون ،  وتولّى ربيع العمر ، وحلّ خريفه ،   ولم يبقَ بي من ذلك العاشق إلّا اسمهُ ، وفؤاديَ الملتهبُ شوقاً لرؤيتكِ وسماعِ صوتِك ) .

    ومنذ ذلك الحين ... والى الآن .... لم أجد ليلى .

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: ليلى ... وحكاية الألف ليلة ..الفصل الخامس عشر والأخير ..بقلم الأديب عبدالباري المالكي Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top