لاحظ
الطبيب أني لستُ على ما يُرام ، فقد رشح جبيني وسكن أنيني وأنا أمدّ يدي تحت
القميص على صدري من جهة قلبي ، فلما رآى
الطبيب يدي حيث أصابعي تتحرك ، فتح أزرار
القميص فوجدني أمرّرها على جرح لم يندمل ، ومازال نديّاً للآن .
كان ذلك
منذ سنوات ...
حين
صرخت أمي صرخة عالية وقد رأت دماً ينزف من صدري من جهة القلب ، فقالت بصوت عالٍ
وهي خائفة جداً :-
ماالخطب
يايوسف ؟
قلت :-
لاتخافي ياأمي ، ثمة جرح بسيط جاء خطأًً مني بموسى الحلاقة .
قالت :-
ياولدي ، ماذا جرى لك ؟ ... ماالأمر ؟
أي
حلاقة في القلب ؟
لاادري
ياولدي لماذا اشعر أنك لستَ بحال جيدة .
وإنما
نحن منكَ بين حالتين اثنتين :-
الإشفاق
عليك مما فيكَ مما لا نعلمه ، والخوف عليك أن تؤذي نفسك لأمر لا نعرفه ، فما الخطب يابنيّ ؟
قلت :-
أمي ... لاشيء يستوجب الخوف علي ، إطمئني كثيراً .
قالت :-
كيف أطمئن وأنا أشاهد بأمّ عينيّ ولدي الحبيب وقد جرح نفسه متعمداً بسكينٍ ذات
شيفرة حادة جداً ، ولدي الوحيد الذي أنجبتُهُ بعد دعاء عريض لسنواتِ عقمٍ مضينَ ،
ثم احتضنتُه وأنشأته بين يديّ ، وكنت أراقبه عن كثب ، حتى إذا صار شاباً ، ونضج
، رأينا منه العجب ، ولا نعلم مابه ؟
فيا
ولدي العزيز ، وروحي التي بين جنبيّ ،
أستحلفك بالله ... أخبرني لمَ فعلتَ ذلك ؟ ولأجل مَن ؟
إن أباك
لا ينفكّ عن سؤالي عنك كل يوم ، إذ يشعر بكَ وأنتَ تعيش ألماً لاندرك نحن كنهه ؟
أخبرني....
أتعشق يايوسف؟
ومَن هي
هذه الفتاة المحظوظة التي تعشقها ؟
أتحبها
لهذا الحد ؟ مااسمها ؟
أخبرني ... وسنزوجها إياكَ مهما كلّفنا الأمر .
كنتُ
على موعد مع ليلى في ذلك الوقت ، فتعجّلتُ في أمري وقد ابتسمتُ لأمي وقلت لها :-
حسناً ، سأخبركِ بكل شيء في حينهِ يا أمي العزيزة .
هربتُ
من أمي بسرعة ، ورحت أمرّغ منديلاً أبيض بالدم النازف من صدري ، إدخرته لليلى
، وأخرجتُ من أحد أدراجي زجاجة العطر التي
نويتُ أن أهديها لليلى في ذلك اللقاء المرتقب ، ولم أكن أعلم أنه سيكون اللقاء
الأخير ...
بعد
ساعة ... إلتقيتها ...
كانت
ابتسامتها أشبه بنار تستعر بقلبي وهي تمدّه بأشعة لهيبها دون أن تفكّ أواصرها منها
، فلا تخبو فيه ، وكلما حدّقت بي بعينيها زادت نارَه حطباً... وصاح :- هل من مزيد
؟
شعرتُ
حينها وكأن الجنة ذاتها تمثلت عندي الآن في ليلى ، وأنا أقف على أبوابها ، أرى
أنهارها وحدائقها ، أتمعن بممالكها وقصورها ،
وأنتظر الإذن بالدخول إليها ، فإن أُذِنَ لي كنتُ من الفائزين .
وأنا
أقف قبالتها ... كنتُ كمن ينتظر أن يُسقى من رحيق مختوم ... ختامه ليلى .
كنتُ
على يقينٍ أني عاجز تماماً عن لملمة أحرفي ، واستحضار كلماتي ، وكيف لا أعجز ؟
وأنا في حضرة حوريةٍ استأذنت النزول الى الأرض ، لتصبيَني ، فيغشاني منها ما يغشى
، فأعيش فيها بين اثنينِ :-
لهفةِ
اللقاء .
والعجزِ
عن البوح فيه .
قلت لها
:- ليلى ... ماالجدوى أن يكون العشق مخبوءاً في حنايا الصدر دون ان يفتح العاشق
لمعشوقه نوافذ قلبه وأبوابه ؟
قالت :-
صدقت يايوسف ... لا جدوى ، لكن ماالمناسبة لهذا السؤال ؟
قلت :-
أترين هذا النزف في صدري من جهة قلبي ؟
صرخت
ليلى وقالت :- ماهذا يايوسف؟ أأُصِبتَ بسوء ؟؟
قلت :-
لا ... لكني أردت ان يكون بيننا موثق أمام
الله تعالى وأمام قلبينا ... فمنحتُكِ دماً من صميم قلبي ليكون شاهداً عليّ
أني
أعشقك حد الجنون ياليلى ، وأني لن أخون عشقكِ ، ولا أتزوج سواكِ ما حييتُ ،
فأحدثتُ في صدري جرحاً بليغاً لتعرفي
مقدار عشقي إليكِ ، وليشفع لي هذا الجرح
عند الله يوم الحشر ... ياراهبتي الجميلة
والجليلة .
ثم
أردفتُ القول لها ، وقلت :-
ليلى
... إنه ورغم المسافات التي تفصلكِ عني ، فإني أجدني بالموضع الذي أنتِ فيه ،
فوالله إني لأشعر بحرارة أنفاسكِ بين يديّ وأنتِ في مسكنكِ ، وأشعر بخصلات شعركِ
الأشقر وهي ترفرف على وجهي رغم بعدكِ ، فلا يزيد ذلك إلا إحتراراً في الكبد ، ولا ينقص من قلبي شيئاً من الكمد ، فلا موضع إستئناسٍ لنفسي تألف فيه ،
وتولَع به سواكِ ، ولا منبع لخيالاتي
إلّاكِ .
قالت :-
ويح قلبي يايوسف ، كيف فعلتَ ذلك بنفسك ؟ وشققتَ صدرك لأجلي ؟ فما أجملني بك ، وما أشد خوفي عليكَ .
أمَا
والذي فلق الحبة يايوسف لن أجد رجلاً مثيلاً لك بهذا النبل وهذه المروءة ، أمَا
والله ... لا امرأةَ أسعد مني الآن وذلك لِمَا وجدتُ من رجولة فيكَ وشهامة لا
تضاهَيانِ .
قلت :-
ليلى ... أنتِ الجمال كله ، فلا لون عندي أجمل من لون عينيكِ ، ولا طعم أشهى من
طعم شفتيكِ ، ولا طيبَ أزكى من طيب رائحتكِ ، ولا لذة لي الا بوجودكِ .
وقبل أن
أهديها زجاجة العطر ، أخرجتُ منديلي
الممرّغ بالدم ، وأهديته لها ، فكان الجرح والمنديل أصدق شاهدينِ على عهدٍ لا
ننكثه ، ووفاءٍ لا نخونه .
ثم راحت
ليلى تقلّب المنديل وتقبّله ، وهي تذرف الدموع ، لِمَا رأته مني من صدقٍ في
المشاعر ، ونبلٍ في العشق .
ومنذ
ذلك الحين والى الآن مازال هذا الجرح يعبق برائحة الوفاء والعهد القديم .
قال
الطبيب :- آآآهٍ ياولدي ، إن جرحكَ مازال ندياً ، وكأنكَ اليوم قد أحدثتَه في
بدنكَ .
قلت :-
نعم ياسيدي ... فإني أجدّد هذا الجرح ما بين آنٍ وآنٍ ، فتجديد البيعة لعشق امرأةٍ
مثل ليلى واجب على رجلٍ عاشقٍ مثلي ، فالعشق ياسيدي هو أعلى درجات السموّ ، يسمو
به العاشق حتى يتحوّل ذلك العشق عنده الى مَلَكةٍ راسخةٍ في نفسي .
قال :-
صدقت ياولدي ، فالعاشق كزهرة لاتنمو دون ان تضفي عليها الشمس شيئاً من أشعتها كل
يوم .
قلت
:- إن العشق الحقيقي ياسيدي هو ذلك الذي
يخلق الإنسانية في نفس العاشق ، ويهبه القدرة على تحقيق ذاته في ذاته .
قال
:- ياولدي ... ألا يكفيك جرح واحد ليكون
عهداً ثابتاً أبدياً منك الى ليلى؟
قلت :-
لا ياسيدي ، من اليقين إنه لا يكفي ، إذ إنه لا يفي بالمراد نفسه . فكما يعرف
جنابك ... إن الخلايا تتآكل وتتحاتّ من وقت لآخر ، وتتجدد خلايا غيرُها في موضعها
ذاته ، فالخلايا التي انجرحت في جرحها الأول قد ذبلت وتلاشت وانقضى عهدها ، ووجب
على الخلايا الجديدة أن تعقد البيعة لليلى ، وتجدد طاعتها لها بدمٍ عبيط ، وجرحٍ
نديّ ... وهكذا دواليك تضمر وتتلاشى الخلايا القديمة ، وتنبت وتنمو خلايا غيرُها
بين وقت وآخر .
قال :-
أرى أن في جرحكَ النديّ صورة الوجد الذي يغوص في فؤادكَ ، فإذا أنّ هذا الجرح كانت فيه شهقة روحكَ ،
وزفرة أشواقكَ .
قلت :-
سيدي ... إنه العشق الذي نزل بساحة قلبي حتى نَحتَ صورة ليلى فيه ، فأصبح الشوق
أشد إيلاماً بي مما يُتصوَّر ، فقد كان يبثّ بي أوجاعه ، حتى نخر عظمي وهرّأ لحمي
، فلما هجرتني ليلى نزعت ما تبقّى فيّ من عافية ، وتركتني قطعة من الجمر اشتعلت ،
فتحولت الى كومة من الرماد تلتهب ولا تخمد .
قال الطبيب
:- إن أعجب العجب فيكَ ياولدي إنك تعلم أن العاشق لايجني من ثماره سوى الجنون أو
الموت ، وتأبى إلا أن يُحتسَب ذلك فيك ، وتصرّ عليه ، وهاهو الجنون بذاته قد
أبرأكَ من علةٍ هي متجذرة فيكَ ، فتجذّر هو بكَ ، ولا أظن بإمكاننا ان نستأصله
منكَ .
قلت :-
ولَعمري ياسيدي ... إنه في ليلى ، يكون العشقُ لا إسرافَ فيه وإن أسرفتُ ،
والوحشةُ لا خبالَ فيها وإن خبلتُ ،
والخيالُ لا توهّمَ فيه وإن توهّمتُ ، والحقيقةُ لا إدراكَ لها وإن أدركتُ ،
والجمالُ لا غاية له وإن إليه وصلتُ .
فإن
ليلى عندي كالسماء تكاثرت فيها النجوم ، وتعددت كواكبها ، وتعسر عليّ معرفة الأجمل
فيها من غيره .
فبوجهها
فاض الشعر مني ، وفي عينيها قامت رسائلي الخمسون ، فتفتّقت في ليلى قريحة كل عنصر
من عناصر الحياة عندي ، بتوافقاتها وتناقضاتها ، فلكأنّ الله تعالى خلق ليلى لتلدَ
الجمال كله ، ويورثَني التَيه كله .
قال
الطبيب :- إذن ... فاعلمْ ياولدي ... أنك
دخلتَ دنياك التي تنتظركَ ، دنيا الجنون ، حيث وجدتَ نفسك فيها لا في سواها ، فكن
فيها ذلك العاشق المنقطع في الفلاة ، لا يرى لنفسه بها إلا عزّاً ، ولا يعرف منها إلا أماناً ، وتزوّد من الوحدة
فيها تزوّدكَ من الطعام ، وسِر وحيداً وأنت تفتش عن ليلاكَ ، لا يعينكَ في ذلك إلا
قدماكَ الثقيلتانِ ، ولا يهديكَ إلا فؤادكَ المكلوم .
فلا
حقيقة تستأهل البحث والتنقيب عندك سوى عشق ليلى .
واعلم
ياولدي ... أن الناس سيشيرون إليك بأصابعهم ، لأنهم يدركون جيداً أنك مجنون ، تلوذ
بالصمت طريقاً لحياتك ، وهم فيك منشغلون ، فلا تأبه لغمزِهم ، ولا لِلَمزِهم ، ولا
تنتبه لإشاراتهم إليكَ ، فأنت وإن جننتَ حقاً ، فإنكَ ستخبرهم بما بصرتَ به صدقاً
، فالرائد لايكذب أهله .
وأمِت
جميع الناس في قلبكَ إلا ليلى ، فهي الحاضرة الغائبة فيكَ ، ولا تيأس من غايتكَ ،
وإن قلّت حيلتكَ ، ولا ترتعب من عمرٍ يمضي ، ولا ترهب من قضاءٍ يقضي .
فاخرج
الى ساحة العشق في الفلوات ، وناجِ ربك في كل الصلوات ، وابحث عن ليلى عساك تراها
قبل الفوت ، واسال الله ان تلقاها ولو على فراش الموت .
ثم قام
الطبيب من مكانه بكل حزنٍ وأسفٍ ، وأومأ إلى والديّ ، فهمس إليهما همساً خفيفاً ،
طرق مسامع أذني :-
العزاء
لكما بولدِكما ... فلا أمل في شفائه من الجنون ، وعلى الله المُعوَّل في الشدة
والرخاء ، ولاحول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم .
بعد
شهرينِ اثنينِ ... كان والداي يذويانِ كما تذوي الورقة في الضريم ، حتى توفّي أبي
لِمَا كان فيه مني من جزعٍ وجوىً ، ولم تعِش أمي بعده إلا أياماً قليلة ، إذ كانت
في تلك الأيام أقرب الى الميت منها الى الحيّ ، لِمَا حملته هي من حرقة قلبٍ وكدَر
.
وبقيتُ
في هذه الدار وحدي لفترة قليلة ، حتى إذا لم آلفها في وحشتي ، ولم أرَ منها صاحباً
لي ، وعرفتُ أنْ لا مقرّ لي فيها ، فررتُ بنفسي الى الطرقات ، أدور بين الأحياء
والأزقة ، وأتجوّل في الشوارع المظلمة ، أفتش عن ليلى في ليلٍ داجٍ وفي نهار مشرق
، في شتاءٍ قارسٍ وفي صيفٍ قائظٍ ، أبحث عنها في وجوه الناس ، وفي نور القمر وضوء
الشمس .
ومنذ
ثلاثين سنة ... وأنا أتخذ من الجنون خِلّاً ، ومن الوحدة نديماً ، فقد عهدتُ على
نفسي أن أستقصي أخبار ليلى في كل أرضٍ ماحييتُ ، وأتحرّى عن مكانها مااستطعتُ ،
فطفتُ العالم بأسره ، مدنِه وقراه ، شرقه وغربه ، عرَبِه وأعاجمِه ، وأنا أنادي
بين الناس :-
(أين
أنتِ ياليلى ...؟ هلمّي وانظري إليّ ...
فإنّهُ
لَيعِزّ عليَّ أن اخبركِ أنْ قد احدودَبَ الظهر ، وبَليَ العظم ، وهزلَ الجسد ،
ويبسَ الجناب ، وذبلت النضارة ، وضعفَ
البصر ، وصُمَّ السمع ، وقلّت الحيلة ، وخارت القوة ، وشاخَ الشباب ، وغارت
الأحداق ، وكثرت العِلَل ، وزادت الأسقام ، ودالت الأيام وتعاقبت السّنون ، وتولّى ربيع العمر ، وحلّ خريفه ، ولم يبقَ بي من ذلك العاشق إلّا اسمهُ ،
وفؤاديَ الملتهبُ شوقاً لرؤيتكِ وسماعِ صوتِك ) .
ومنذ
ذلك الحين ... والى الآن .... لم أجد ليلى .
0 comments:
إرسال تعليق