برغم تواتر كلام "فولكلورى" رسمى عربى فى الموضوع الفلسطينى ، من نوع الدعوة لمفاوضات لا تأتى ، والسعى لإقامة دولة فلسطينية عاصمتها "القدس الشريف" على حدود 1967 ، إلا أن أحدا ممن يلوكون العبارات إياها ، ربما لا يقصدها حرفيا ، وإن جرى استسهال نطقها تمويها على مأزق مستحكم ، لا تبدو فيه حكومه العدو الإسرائيلى مستعدة ، ولا راغبة فى أى تفاوض ، ولا لسماع كلمة " دولة فلسطينية" من أصله ، فحكومة " نفتالى بينيت" أكثر تشددا وصهيونية من حكومة " بنيامين نتنياهو " ، وسندها الأمريكى مشغول هذه الأيام بإيران لا بالفلسطينيين ، وجو بايدن يدعم ما يسمى " اتفاقات إبراهام " مع الدول العربية ، بأكثر مما كان يفعله دونالد ترامب ، ولا مانع عند الإسرئيليين والأمريكيين من منح تسهيلات وايحاءات لتهدئة الغضب الفلسطسينى ، وفى حدود اقتصادية لا سياسية .
ومشكلة واشنطن وتل أبيب مع طهران مرشحة للتفاقم
، ودونما أفق قريب للعودة إلى الاتفاق النووى ، اللهم إلا بشروط تقبل بها إيران ،
التى تحظى بدعم مؤثر من روسيا والصين ، بينما لا تبدى موسكو وبكين اهتماما بالوضع
الفلسطينى ، اللهم إلا من زاوية الإبقاء على خطوط
تواصل مفتوحة مع الفلسطينيين ، ومع الإسرائيليين بالذات ، فبكين مهتمة
بعلاقاتها الاقتصادية والتكنولوجية مع الكيان الإسرائيلى ، وهو ما يثير امتعاض
واشنطن ، وموسكو مهتمه بإبرام اتفاقات أمنية مع الكيان الإسرائيلى حول الوضع فى
سوريا ، وحرارة ترحيب الروس بنفتالى بينيت ، لا تقل وتيرتها عن التفاهم السابق مع
نتنياهو ، و "إسرائيل" مهتمة بجمع القواسم المشتركة ضد الخطر الإيرانى ،
وهى تضمن فى كل الأحوال دعم واشنطن اللامحدود ، وقد أثبتت مجددا قبل أسابيع
مقدرتها على ضمان أصوات الحزبين الجمهورى والديمقراطى فى الكونجرس ، وتكريس الولاء
الأمريكى لخدمة وتجديد صواريخ قبتها الحديدية ، وضمان الحصول على ضوء أخضر أمريكى
، وربما مشاركة محتملة فى خطط عسكرية واستخباراتية لتدمير أو إعاقة المنشآت النووية الإيرانية ،
وتحويل سوريا إلى جبهة صدام متقدمة مع طهران ، وعلى طريقة الغارات التى صارت طقسا
روتينيا ، قد تزيد واشنطن نارها اشتعالا ، بعد إعلان القيادة الوسطى الأمريكية عن
تعرض قاعدتها فى "التنف" لهجوم مفاجئ منسق بالصواريخ والطائرات المسيرة
.
والمحصلة المرئية ، أن لا شئ يضغط اليوم على
السياسة الإسرائيلية ، ويدفعها لاستئناف حوار أو تفاوض فى الموضوع الفلسطينى
المتروك جانبا ، اللهم إلا فى قضايا جزئية متناثرة ، تطلب فيها قدرا من الهدوء ،
يفيد فيما تسميه السياسة الإسرائيلية الراهنة بنهج "تقليص الصراع"، وليس
حله ولا حتى إدارته ، فليس لدى حكومة "بينيت" أى استعداد لوقف الاستيطان
والتهويد، ولا لفتح ملف القدس طبعا ، ولا للجلاء عن شبر أرض محتلة ، وما دون ذلك
قد يكون النقاش واردا فيه ، على طريقة زيارات وزير الخارجية الإسرائيلى
"يائير ليبيد" إلى رام
الله ، وعرض قروض إسرائيلية للسلطة
الفلسطينية ، والسماح بآلاف من تصاريح العمل للفلسطينيين ، واعطاء أذون بناء لبعض
المنازل الفلسطينية ، والتفكير فى خطط أشمل لتقليص احتكاك الفلسطينيين مع جيش
الاحتلال ، عبر اقتراحات يطرحها المؤرخ "ميخا جودمان" مستشار بينيت ،
بمد شبكة طرق فى المنطقتين (أ) و (ب) من الضفة الغربية ، وتوسيع " جسر
الكرامة " الرابط مع الأردن ، وتخصيص صالة مغادرة للفلسطينيين فى مطار بن
جوريون ، وتصدير بضائع فلسطينية عبر الموانى الإسرائيلية ، إضافة لتخفيف قيود
الحصار المفروض على غزة ، والتفاوض على صفقة تبادل أسرى مع " حماس" عبر مصر
غالبا ، وامتصاص التوتر فى القدس المحتلة من حول المسجد الأقصى ، وتراهن الحكومة
الإسرائيلية على فعالية إجراءات التقليص ، وبحسابات منظورة ، أهمها استمرار
الانقسام السياسى الفلسطينى المزمن ، وتردى مواقف الجامعة والدول العربية ، ونجاح
حكومة " بينيت" فى شق صف فلسطينيى الداخل ، ودعم حركة الإخوان الجنوبية
(جناح منصور عباس ) لها فى الكنيست ، وتزايد عدد الحكومات العربية المتورطة فى
اتفاقات " إبراهام " ، واستبدال العداء لإيران بالعداء لإسرائيل ، وبما
دفع مسئولا اسرائيليا للسخرية من تصريحات الرئيس الفلسطينى محمود عباس فى دورة
الجمعية العامة الأخيرة للأمم المتحدة ، التى منح فيها إسرائيل مهلة عام واحد
للانسحاب من الضفة والقدس مع غزة ، أى ترك 22% من مساحة فلسطين لدولة مستقلة ،
وإلا جرى التحول الفلسطينى الرسمى إلى سحب الاعتراف بكيان الاحتلال الإسرائيلى ،
والعودة إلى قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 ، الذى يعطى
الفلسطينيين دولة على مساحة 44% من أرض فلسطين التاريخية ، أو فتح الأقواس إلى هدف
آخر أوسع ، هو إقامة دولة واحدة فى فلسطين التاريخية كلها ، اعتمادا على الأغلبية
العددية المتزايدة للفلسطينيين ، وخوض نضال النفس الطويل لإقامة دولة ديمقراطية
واحدة .
والحقيقة ، أن كلام الرئيس عباس يبدو معقولا ،
لولا حكاية مهلة العام هذه ، التى لن يهلك فيها الذئب ولن يفنى الغنم ، وقد قررت
المؤسسات الفلسطينية مرارا سحب الاعتراف بإسرائيل ، وإلغاء الالتزام باتفاقات
أوسلو ، التى لا تمنح الفلسطينيين سوى سلطة اسمية على 18% من مساحة الضفة الغربية
(المنطقة أ)، فيما تمنح سلطة جيش الاحتلال 61% من مساحة الضفة الغربية (المنطقة ج)
، إضافة لوجود جيش الاحتلال فى 21% من الضفة (المنطقة ب) ، ولم يحدث أبدا ، أن
التزمت إسرائيل حتى بسلطة الفلسطينيين الاسمية فى المنطقة (أ)، ونشرت الاستيطان
والتهويد فى القدس والضفة كلها ، ومن دون أن يتغير شئ فى مفاوضات اتصلت عبر عشرين
سنة بعد عقد اتفاق أوسلو ، ثم توقف التفاوض نهائيا عام 2014 ، ودونما أمل فى
العودة إليه ، حتى مع وجود خطوات رمزية أخيرة من جانب واشنطن ، بينها ابداء
الاستعداد لإعادة فتح قنصلية تعامل مع الفلسطينيين فى القدس ، لا تعدو كونها ذرا
للرماد فى العيون ، بينما لا تفيد قرارات الأمم المتحدة إلا على نحو معنوى ، ولا
تفيد التحركات الدبلوماسية من بعض العواصم العربية ، التى لا تعتبر القضية من
همومها الفعلية ، اللهم إلا من باب المجاراة والاستهلاك المحلى ، خصوصا مع تخلخل
الإرادة الفلسطينية الرسمية ، وترددها فى اتخاذ إجراءات نضج أوانها من زمن طويل ،
وبما يفتح الباب لتداول صيغ وبدائل لصفقة ترامب ، على طريقة دعوة نشرتها مجلة
" فورين بوليسى " أخيرا لرجل أعمال أردنى من أصل فلسطينى ، تتبنى ترك
القدس مفتوحة وبيد إسرائيل ، وضم الضفة وغزة إلى الأردن الملكى(!) .
ليست القصة إذن ، أن الرئيس الفلسطينى ، بمهلة
العام ، صعد إلى أعلى شجرة ، ولن يستطيع النزول عنها ، كما تقول التعليقات
الإسرائيلية الساخرة ، بل ربما يكون الأمر على العكس بالضبط ، لو جرى شفع الأقوال
بالأفعال فلسطينيا ، ومن دون أن يعنى ذلك وقفا لأى نشاط دبلوماسى ، ولا التوقف عن
مطاردة جرائم إسرائيل فى المحاكم الدولية ، ولا إضعاف الاهتمام بتحولات إيجابية فى
الرأى العام الغربى ، كان أحدثها إدانة مؤتمر حزب العمال البريطانى لجرائم
"الأبارتهايد" الإسرائيلى ، وتطور موقف قطاعات من الحزب الديمقراطى
الأمريكى ، وغيرها من مواقف مساندة للحق الفلسطينى ببركة معركة "سيف
القدس" ، فالعمل الدولى مطلوب فلسطينيا فى كل الأوقات ، لكنه لايثمر بغير
إطلاق كل صنوف المقاومة على الأرض الفلسطينية أولا ، وقد أثبت الشعب الفلسطينى
مقدرته الهائلة على الإبداع الكفاحى ، وعلى التكامل الملموس بين المقاومة الشعبية
والمقاومة المسلحة وبطولات الأسرى ، وهذا ما يصح أن تستهدى به القيادة الفلسطينية
، لا أن تنتظر تغيرا فى مواقف قيادة كيان الاحتلال ، فليس فى صراعات التاريخ
الدامية منح ولا عطايا ، ولا فى سير الاحتلال تراجعات مجانية ، و"ماحك جلدك
مثل ظفرك" ، كما تقول الحكمة المأثورة عن الإمام الشافعى ، وما من طريق سالك
لكسب الحق الفلسطينى إلا بالفلسطينيين أولا ، ولن يخسر الفلسطينيون شيئا غير
قيودهم ، إذا هم قرروا طلاقا بائنا مع اتفاقات أوسلو وتوابعها وسلطاتها ، وسحبوا
اليوم ، وليس بعد عام ، اعترافا سابقا فى غير محل بشرعية مدعاة لوجود كيان
الاغتصاب الصهيونى ، فبرغم ما يبدو على السطح من ظواهر مريحة لكيان الاحتلال ، إلا
أن أزمة الكيان تتفاقم فى العمق ، فكل كيان إستيطانى إحلالى ، يحتاج إلى مادة
بشرية تكفل استدامته وتوسعه ، والكيان الإسرائيلى يعانى من نضوب موارد الهجرة
المستعدة للذهاب إليه ، وقد وعد "بينيت" بجلب نصف مليون يهودى إضافى ،
وهو هدف لا يبدو قابلا للتحقق ، بينما يزيد عدد الفلسطينيين بإطراد وثبات فوق أرضهم
المقدسة ، وربما لا ينقصهم سوى روح جديدة وقيادة جديدة ، تقرر الخروج عن النص ووقف
سياسة المشى فى الحذاء القديم نفسه .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق