ربما لن تتوقف أصوات بعينها عن إثارة لغط ، وضرب أخماس فى أسداس عن توقيت التقويض المصرى لخطر السد الأثيوبى ، وقد لا يهتم هؤلاء ولا ذبابهم الإلكترونى ولا "فيديوهاتهم" الساذجة بمصير مصر ولا بحساب النيل ، هم فقط يتصورونها فرصة لإحراج النظام المصرى ، برغم فشل ألف رهان ورهان سبق ، ولا أحد عاقل يلتفت إلى خزعبلات جنرالات المقاهى "السيبرانية" ، فقضية النيل أكبر من أى نظام ، ولا يملك حاكم ترف ولا نزق التفريط فى قطرة واحدة من مياه النيل ، ولم يفعلها أحد وراح سليما على طول التاريخ المصرى الألفى السنين ، فلمصر شعبها وجيشها العظيم ، وعقيدة مصر الوطنية الجامعة فوق اعتبارات السياسة المتغيرة .
ونظن ، وليس كل الظن إثما ، أن القرار الأساسى
جرى اتخاذه من زمن ، وبتفاصيله وخططه وبدائله ولوجستياته ، وأن الضربة محتومة ،
حتى وإن تحرك بندول ساعة الصفر إلى أمام أو إلى وراء ، ليس لأن مصر تريد الحرب
بطبعها ، فعقيدة مصر وجيشها دفاعية محضة ، والاعتداء على النيل ـ كما الأرض ـ يمس قدس
أقداس مصر ، ولم يعد من شك عند مصرى وطنى واحد ، مؤيدا كان أو معارضا ، أن أثيوبيا
ومن وراء أثيوبيا ، قد تجاوزوا كل حد مقبول ، بالتعنت والعجرفة وتضييع فرص الحل
السلمى ، بل وإعلان الحرب على مصر ، خصوصا بعد بدء الملء الثانى لخزان السد
الأثيوبى ، وبغير سابق اتفاق ملزم شامل طلبته مصر ومعها السودان ، وقد لا يهم هنا
حجم الملء الجارى ، وما إذا كان سيصل بحجم المخزون المائى خلف السد إلى 18 مليار
متر مكعب كما هو معلن ، أو أن أثيوبيا قد تخفق وتملأ أقل ، فلا شئ فى الحالين يعوق
الضربة النوعية المحتومة ، وقد لا يكون من أثر وقتى مباشر على أمن مصر ، ولا على
مواردها المائية ، لا فى هذا العام ، ولا فى أعوام تليه ، ولسبب معروف ، هو قدرات
مصر الهائلة فى التخزين المائى ، ببركة سدها العالى ، ومشروعات كبرى أضيفت إليه فى
السنوات الأخيرة ، وكلها قدرات مجربة من قبل ، وبالذات فى سنوات جفاف منابع النيل
بين عامى 1979 و 1987 ، وقتها ضربت أثيوبيا عوارض جفاف مريع ، لم يحس بها أحد فى
مصر عند مصب النيل النهائى ، لكن أثيوبيا وقتها ، لم تكن أقامت سدودا من نوع السد
المشئوم ، الذى يفترض أن تصل طاقة تخزينه الكاملة إلى 74 مليار متر مكعب ، مع خطط
لإقامة سدود إضافية من خلفه ، وهو ما ينذر بخطر ماحق على حصة مصر المقررة من مياه
النيل ، ومصر كدولة كبرى فى محيطها ، تزيد احتياجاتها المائية الفعلية على ضعف
نصيبها من النيل ، البالغ 55.5 مليار متر مكعب سنويا ، ولا تملك مصر رفاهية انتظار
الخطر حتى يقع ، فلا قيمة لجيوشها ، ولا لتفوقها العسكرى المنظور ، إن لم تدك
الخطر فى منابعه ، وفى توقيت مناسب ، تقدره القيادة المكلفة بحفظ أمن مصر ووجودها
، وبموازنات وعواقب محسوبة بدقة ، لا تكون بطبيعتها فائقة السرية موضوعا لنقاش
علنى مفتوح ، وإن كان من حق الشعب المصرى طبعا ، أن يقلق لتأخر المواعيد ، وشئ من
ذلك جرى فى سنوات التمهيد لعبور قناة السويس وتدمير خط بارليف ظهر يوم السادس من
أكتوبر 1973 ، وقد لا يعنى السد الأثيوبى شيئا ، إذا ما قورن بخط بارليف الأكثر
تحصينا فى تاريخ حروب الدنيا كلها ، والذى جرى تدميره فى ست ساعات لا غير ، وكان
الخبراء الروس وقتها ، يقدرون تيئيسا ، أن تدميره يحتاج إلى قنبلة ذرية (!) ، مع
الأخذ فى الاعتبار ، أن قدرات الجيش المصرى وقتها ، لا تقارن إلى قدراته اليوم ،
وأن قدرات الجيش الأثيوبى البدائى ، لا توضع فى موازين مقارنة عاقلة واردة ، مع
قدرات أى جيش محترف ، حتى لو باعهم الآخرون من الروس وغيرهم سلاحا متطورا ، فالجيش
الأثيوبى قد يحتاج إلى خمسين سنة مقبلة ، ربما لكى يصل إلى قدرات الجيش المصرى قبل
خمسين سنة مضت ، على حد تلخيص مقارن موحى لخبير عسكرى مصرى معروف .
ما نقوله ليس فى مقام الاستهانة بأحد ، بل فى مقام
الثقة بأننا نستطيع ، وشعوب أثيوبيا ليست عندنا من حلف الأعداء ، وأغلبها ضحية
لقيادة مقامرة ، تصور لهم أن السد إياه سيجلب الازدهار ، وأن خمسة أو ستة آلاف
ميجاوات كهرباء متوقعة منه ، سوف تضئ بيوت نصف سكان أثيوبيا الغارقين فى الظلام ،
بينما لم يسأل أحد عن مصير عشرات آلاف من "الميجاواتات"
، قالت السلطة الأثيوبية متباهية ، أنها تنتجها من عشرات السدود المقامة على
أنهارها الداخلية ، وعند منابع النيل نفسه كسد "تكزى" ، ومن دون أن تضئ
نصف أثيوبيا المظلم ، بل وجهت الكهرباء للتصدير مقابل دولارات ، ضاعت مع الريح ، ومن
غير تغيير ملموس فى أحوال شعوب أثيوبيا ، اللهم إلا إلى الأسوأ بامتياز ، فوق أن
السلطة الأثيوبية على تعاقب عهودها ، صارت مشهورة موصومة بخطط السدود الفاشلة ،
فقد أقامت فى العقدين الأخيرين نحو سبعين سدا ، إنهار منها خمسة وأربعون سدا ،
والبقية فى الطريق ، وفى انتظار أشباهها من المئة سد التى وعد بها آبى أحمد رئيس
الوزراء الحالى ، الذى يبيع للأثيوبيين وهما اسمه "سد النهضة" ، تقول كل
الدراسات العلمية الرصينة التى جرت بشأنه ، أنه معرض هو الآخر للانهيار فى أى لحظة
، وأن معامل أمانه لا يزيد على الواحد ونصف بمقياس ريختر للزلازل ، وأن مكان
إقامته خاطئ وخطر لاعتبارات جيولوجية بركانية وزلزالية ، وأن أساسه الهزيل لا
يحتمل ارتفاعه المقرر ، وأن طاقة تخزينه المبالغ فيها ، ومن دون أى إضافة تذكر
لقدرته على توليد الكهرباء ، وكل ذلك قد يطيح به مع تراكم الطمى ، أو أى فيضان كبير
يأتى ، أو مع زلازل واردة ، فى منطقة شهدت عشرة آلاف زلزال قوى عبر الثلاثين سنة
الأخيرة ، وهو ما يضيف إلى خطر السد الأثيوبى مصائب وكوارث ، فاندفاع المياه
المخزنة خلفه عند انهياره المحتمل ، يحوله إلى قنبلة مائية ، تكتسح السودان بكافة
قراه ومدنه وعواصمه على خط النيل ، ويصل بخطر المحو إلى جنوب مصر أيضا ، وقد
امتنعت السلطة الأثيوبية عن تقديم أى بيانات عن درجة أمان السد وتصميماته ، ورفضت
الاحتكام إلى دراسات تجريها مكاتب استشارية دولية ، فوق تعنتها وإعاقتها الوصول
إلى أى اتفاق تفصيلى ملزم يتعلق بملء وتشغيل السد ، بينما حرصت مصر ومعها السودان
على إبداء الحدود القصوى من المرونة ، وصولا إلى عرض مصر تزويد أثيوبيا بما تحتاجه
من الكهرباء ، ووصولا إلى عقد جلستين فى عامين متواليين لمجلس الأمن الدولى ، لم
تنتهيا إلى شئ ذى معنى لردع التعنت الأثيوبى ، ومن دون أن تتوقع مصر شيئا آخر ،
ولا أن تثق فى العودة لمفاوضات عبث بلا نهاية ، استهلكت عشر سنوات بكاملها ، لم
يعد لمصر بعدها سوى أن تتصرف بما تراه ، وأن تعد ليوم الحسم ، ولمصلحة الشعبين
المصرى والسودانى ، ولمصلحة شعوب أثيوبيا ذاتها .
نعم ، المهمة المطروحة على الدولة المصرية اليوم
، ليست فقط فى إخراج السد الأثيوبى من الخدمة ، والعودة بقصته إلى نقطة الصفر قبل
عشر سنوات مضت ، بل ربما تصل القصة إلى ما هو أبعد ، وإلى تقويض الخطر الأثيوبى من
منابعه الأصلية ، وليس قصة أجنحة الخطر عند منابع النيل وحدها ، فالقضية أكبر من
حفظ موقوت لمياه النيل على ضروراتها الحياتية والوجودية ، وأكبر من مصير النيل ،
الذى لا يحفظه على المدى الطويل ، سوى موازين استراتيجية جديدة ، وتقويض سجن
الشعوب المسمى "أثيوبيا" ، وفيه عشرات القوميات والأعراق الأسيرة ،
انفصل بعضها وتحرر كإريتريا من عقود ، وشارفت قومية "التيجراى" على
الانفصال والتحرر هى الأخرى ، بعد أن هزمت وأذلت جيش آبى أحمد ، وتصاعدت بنوبات
الغضب والتمرد المسلح على قومية "الأمهرة" الحبشية ، التى لا يزيد عددها
على العشرين مليون نسمة ، يتحكمون فى مصائر وأقدار مئة مليون آخرين من قوميات
حبيسة ، بينها قومية "الأورومو" التى تمثل ثلث سكان أثيوبيا بكاملها ،
وغالبيتهم الكبرى من المسلمين المتمردين على سلطات "آبى أحمد" وجماعة "الأمهرة"
، فوق تصاعد هجمات المقاومة المسلحة فى إقليم "بنى شنقول" المقتطع
تاريخيا من أراضى السودان ، والمقام على أرضه سد الخراب ، وقد لا تكون الحكومة
المصرية مهتمة بانفجارات الداخل الأثيوبى
، وإن كان لا شئ يصح أن يبقى على مبعدة من
أيادى الضربة المحتومة
0 comments:
إرسال تعليق