هذا ما قالته السيدة
هاجر الزوجة المؤمنة لزوجها إبراهيم عليه السلام .. سؤال نستشف منه متانة العقيدة
التى تكنها تلك المرأة العظيمة .. نرى فيه جميل رسوخ الإيمان فى قلبها .. تأبى أن
تتعلق بغريق وهى نفسها غريقة ولا تتعلق إلا بربها .. نرى كيف كان ظنها بزوجها المؤمن
الحبيب .. أنها فى وسط جبال لا زرع فيها ولا ماء ،، صحراء قاحطة يتركها ورضيعها
فيها.
تركها فيها "إبراهيم" عليه الصلاة والسلام مؤكداً أن هذا أمر
ربه فما كان منها سوى أن قالت "إذا" لن يضيعنا الله"، أى صبر
احتملته إمرأة برضيعها، يتركها زوجها النبى فى صحراء لا يوجد بها سوى شمس تلفح
جسديهما وتترك الأرض بعد مغيبها دافئة ليلاً؟، تركها إبراهيم فى خوف يعتصر قلبها،
لم يملك من أمره سوى أن يلبى صاغراً، ولم تملك هى سوى الامتثال، ولكنه التفت لربه
داعياً: ﴿رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ
عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
ربما لم تذكر كتب
التاريخ ما يكفى عن تاريخ قصة "هاجر" أم إسماعيل عليه السلام، ربما لم
يتمكن أحد المؤرخين ولا أبرع الكتاب من وصف مشاعرها كامرأة وأم ترى طفلها على وشك الموت
جوعاً، ربما لم يتخيل أحدهم كيف شعرت امرأة يتركها زوجها بناء على رغبة زوجته
الأولى، فتتنازل وتقبل راضية بقضاء الله وقدره، فمهما سرد المؤرخون ، ومهما كتبت
أقلام الكتاب قصة السيدة الكريمة "هاجر"
زوجة أبو المؤمنين، وام النبى "اسماعيل" فلن يتمكن أحد من الشعور بما
اعتصر قلبها من ألم لا تفهمه سوى امرأة تركها زوجها لتحمل المسئولية بمفردها،
قوية، صابرة، محتسبة .... ومن هذا الألم على وجه التحديد، من وجع المرأة والأم،
وليس من تعب ومشقة الظروف، كانت معجزة "هاجر" وولدها عليه السلام.
وما هو إلا قليل حتى
نفذ منها الماء وجفت عروق وليدها فتلوي من العطش والألم وتمرغ في الأرض ،
وانطلاقاً من أنوثتها التى امتزجت بالمسئولية المفاجئة...... بدأت "هاجر"
فى التفكير فى حلول بعد الأزمة، وانطلاقاً من أمومتها رسمت بخطواتها المتخبطة على
رمال الصحراء الساخنة خطوط للمسلمين لمئات السنوات القادمة، تحركت أمومتها وهى
التى لم يصمت انين قلبها بعد فانطلقت تهرول باحثة عن ماء ينقذ رضيها، أخذت قدميها
تدفعها بين جبلين هم "الصفا والمروة" جرياً مرة بعد مرة، ترى السراب
فتهرول نحوه ثم لا تجد شي ، فعلت ذلك سبع
مرات. ترى كم من الوقت أخذت وهي تسعي ؟! ترى كم عثرة عثرتها ؟! وكم دمعة ذرفتها ؟!
وكم روعة ارتاعتها علي وليدها ؟! وكم صرخة سمعتها منه ؟! وكم نظرة سرقتها إليه وهو
يتلوي يكاد يموت من البكاء عطشا وجوعا وألما وكم وكم وكم ؟!ولكن كل ذلك هان،
فقلبها مطمئن برب لن يضيعها أبداً ( لن
يضيعنا الله أبدأ) ، فجاء الفرج وفجر الله البئر تحت أقدام إسماعيل "عليه
السلام"، استجاب الله لدعاء خليله "إبراهيم" عليه السلام، وتحول
المكان الذى هرولت فيه "هاجر" أماً تدفعها غريزتها ولا شىء آخر إلى قبلة
المسلمين فى الأرض على مر التاريخ، ومازالت أقدام "هاجر" التى هرولت بين
الجبلين تدفع اقدام الأمة الإسلامية جميعاً للهرولة بحثاً عن حكمة الله فى اختيار "هاجر
المصرية" لمحنة خرج منها ركن من أعظم أركان الإسلام فيما بعد، فسلام على "هاجر"
من حركتها الأمومة فهرولت من خلفها أمة محمد.
وأقامت هاجر بولدها
إسماعيل عليهما السلام إلى جوار بئر زمزم، وظلت هكذا ما شاء الله لها أن تمكث،
ربما شهورًا أو سنوات، حتى مرَّت بهم رفقةً من قبيلة جُرهُم أو أهل بيت من جُرهُم
مقبلين من طريق كِداء.. فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا لأنفسهم: إن
هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا رجلًا أو رجلين
فإذا هم بماء زمزم، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا وأُم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين
لنا أن ننزِل عندك؟وسؤالهم ينمُ عن أخلاقٍ عاليةٍ رفيعةٍ عند العرب، فهذه قافلة
تمرُّ بامرأةٍ وحيدةٍ غريبة، يستطيعون بسهولةٍ أن يُزيلوها من على هذا الكنز،
والماء قوام الحياة خاصةً في صحراء قاحلة.
ولهذا أتى بعد ذلك
بقرونٍ طويلةٍ من نسلِ إسماعيل عليه السلام، أتى سيد البشر صلى الله عليه وسلم
فقال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ» فبعثه الله ليُتمِّم
أخلاقًا كانت بعضها كريمة بالفعل عند العرب.
استأذنت القافلة هاجر
فأذنت لهم، لكنها اشترطت عليهم وقالت: "نعم ولكن لا حق لكم في الماء!"،
أي أنها أذنت لهم بحق الانتفاع فقط، وليس بملكية البئر. وإن المرء ليعجب من هذا
الوعي الفطري، وحسن إدارتها لشئونها، فقد عقدت عقدًا مع تلك القافلة فيه حكمة
التصرفٌ وحُسنُ إدارةٍ للموارد -بلغة عصرنا
الحديث .
فرِحَت أُمُ إسماعيل
وهي تُحِب الأُنس، فنزلوا فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل
أبيات وكونوا أول تجمُّع للبلدة المباركة، مكة المكرمة. وشبَّ إسماعيل عليه السلام
وتعلَّم العربية منهم وأنفسَهم وأعجبهم حين شبّ.
وما أن استقر المقام
بهاجر وابنها وصار لهم جيران يأنسون بهم ويتعاملون معهم، وما أن بدت الدنيا قد
أينعت واستقرت، فإذا بلاءٌ عظيمٌ يهبِط عليهم، وإذا بإبراهيم عليه السلام يزورهم
بعد سنوات ليرى ابنه الحبيب قد شبَّ وبلغ مبلغ السعي، ومع الأشواق الإنسانية
الحارة ، ومع اللقاء الذي كان بعد فراق سنوات، وفي اللحظة التي ظنت هاجر أن
سعادتها ستتم وتكتمِل بالتئام شمل أسرتها؛ إذا بإبراهيم عليه السلام يخبرهم بسبب
مجيئه وهو أمر الله تعالى له أن يذبح ابنه الوحيد .
ابنه الذي ضحت أُمه في
تربيته وتنشئته في غربة ووحشة - والله - ربما لا يتحملها رجال الأرض في زماننا هذا
،، فيأتيها الخبر المباغت الذي لم يكن في الحسبان ،، بالأمر بذبحه وبيد زوجها
عليهما السلام.
وربما كان هذا البلاء
العظيم أشد وطأة عليها من تركها أول مرة وحيدة غريبةٍ بواد غير ذي زرع. ولكن هذه
المرأة المباركة تعلم البشرية مرةً أخرى معاني الإيمان والثقة بموعود الله تعالى،
فتصبِر وتحتسِب.. ويزداد يقينها على الحقيقة الخالدة: "إن الله لا يضيع أهله".
هذه هي هاجر أم الذبيح
وأم العرب العدنانيين، رحلت عنا بعدما تركت لنا مثالا رائعًا للزوجة المطيعة،
والأم الحانية، والمؤمنة القوية ؛ فقد أخلصت النية للَّه تعالى، فرعاها في وحشتها،
وأمَّنها في غيبة زوجها، ورزقها وطفلها من حيث لا تحتسب.، وقد جعل الله - سبحانه -
ما فعلته السيدة هاجر - رضي الله عنها- من الصعود والسعي بين الصفا والمروة من
أعمال الحج.
هاجر المثل الأعلى لكل
زوجة ضيق على زوجها في الرزق فتصبِر معه سنوات محتسِبة راضية، ومثل أعلى لكل داع
إلى الله أبعدته دعوته عن أهله ووطنه ومألوفاته، ومثل أعلى لكل مؤمن يثق أن صلاحه
وفوزه في امتثال أمر الله وإن كانت عينه ترى غير ذلك وإن كان عقله يقصر عن إدراك حكمة
الأمر ومغزاه، وهي أيضًا مثلٌ أعلى لكل مسلم مكلف بالأخذ بالأسباب المباحة المتاحة
وهو متوكل على الله واثق به، ويأخذ بالأسباب قدر طاقته ويستفرغ فيها وسعه وجهده.
0 comments:
إرسال تعليق