بعد وزير خارجيته "سيرجى لافروف" ، أعلن الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" أن هدف حربه فى أوكرانيا أبعد من حدودها ، وأنه يتطلع لكسر الهيمنة الأمريكية على مصائر العالم ، ولوحظ أن تصريحات مماثلة صدرت عن الصين فى الوقت نفسه ، وأن بكين اتهمت واشنطن بالكيل بمكيالين ، وأنها لا تتذكر قواعد القانون الدولى ومبادئ الأمم المتحدة ، إلا حينما تكون مواتية لمصالحها .
وربما لا يكون من جديد نوعى فى التصريحات ، ومثلها كثير سبق ، من تصريحات
بوتين فى مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2006 ، وإلى إعلان صينى روسى مشترك صدر قبل شهرين
فى بكين ، وكلها تتحدث صراحة عن الحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب ، وعن ضرورة تفكيك
الهيمنة الأمريكية الأحادية ومعاييرها المقلوبة ، كان ذلك قبل انطلاق العملية العسكرية
الروسية فى أوكرانيا ، التى تبدو كواقعة فارقة فى حياة العالم المعاصر ، انتقل
فيها الصدام الكونى من الأقوال إلى الأفعال الساخنة ، وبدا أن أمريكا تخوض حربها
الأخيرة ، وباستخدام كل ما ملكت لا تزال من أدوات هيمنة عسكرية واقتصادية ومالية
ودعائية ، حاولت بها حشر روسيا "بوتين" فى الزاوية ، واستزافها بسلاسل
عقوبات اقتصادية ومالية هى الأقسى بإطلاق فى التاريخ ، وجذبت إليها ما استطاعت من
حلفاء وتابعين ، واستدعت إلى جوارها جماعة حلف شمال الأطلنطى "الناتو" فى
أوروبا ، ودفعت إلى ساحة الحرب الأوكرانية بأكبر حملة نقل لسلاح "فتاك" ،
جاوزت فى قيمتها عشرات المليارات من الدولارات ، وإلى حد تصريح وزير الخارجية
الأمريكى "أنتونى بلينكن" ، أن واشنطن تتعهد بتسليم أوكرانيا عشرة أنظمة
من صواريخ "جافلين" ـ صائدة الدبابات ـ مقابل كل دبابة روسية ، ناهيك عن
صواريخ "ستينجر" وأنظمة الدفاع الجوى والمسيرات الانتحارية والمروحيات
وقطع المدفعية ، فوق تزويد أوكرانيا بقوات ظل سرية خاصة أمريكية وبريطانية وفرنسية
، تستتر من وراء لافتة "فيلق الأجانب" ، الذى أعلن عنه الرئيس الأوكرانى
"فولوديمير زيلينسكى" مع بدء الحرب ، وقد كان ذلك كله قائما منذ عام 2014
، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة "القرم" ، وزادت وتيرته على نحو جنونى فى
الأسابيع الأخيرة ، وكأن أمريكا تريد أن "تحارب روسيا حتى نهاية آخر أوكرانى"
كما قال المفكر الأمريكى "نعوم شومسكى" ، لكن هذا الحشد كله ، لم يؤد
إلا إلى متاعب وخسائر تحملتها القوات الروسية ، التى قررت الانسحاب من حصار
العاصمة الأوكرانية "كييف" ، وإعادة تركيز جهدها الأساسى فى اتجاه الشرق
والجنوب الأوكرانى ، واستكملت الاستيلاء على مدينة "ماريوبول" الاستراتيجية
على "بحر آزوف" ، ودفعت المجموعات الأجنبية إلى الهروب ، واحتفظت بما
تيسر من جثث وأسرى رجال المخابرات الغربيين ، فوق تدمير كتائب "آزوف" و"الجناح
الأيمن" العصب الأقوى فى الجيش الأوكرانى ، وجرى ذلك كله بهدوء وتحفظ نسبى ،
فى الوقت الذى لم تدفع فيه روسيا بعد بقوتها الحاسمة إلى الميدان ، وهو ما يتوقع
حصوله فى الأيام والأسابيع المقبلة ، وخوض معارك باتجاه "خاركيف" و"أوديسا"
، قد تستخدمها موسكو فى جولة ضغط واعتصار
أخيرة .
وإذا فعلها "بوتين" ، وهو على الأغلب سيفعلها ، وربما يلجأ إلى
تكتيك إعلان هدنة لا وقفا دائما نهائيا لإطلاق النار ، بما يتيح له توجيه الضربات
الانتقائية كلما رغب إلى ما يتبقى من أوكرانيا ، وإذا فعلها الرئيس الروسى ، فربما
يكون قد كسب جولة أوكرانيا ، وبأقل تكاليف ممكنة ، ودونما انتظار لموافقة "كييف"
من عدمها على تأكيد روسية القرم ، وفصل منطقة "الدونباس" ، وربما ضمها
لاحقا باستفتاء يشبه ما جرى فى "القرم" ، واستنزاف قوافل السلاح الغربى
، والنزع العملى لسلاح أوكرانيا ، والحيلولة دون ضمها للناتو أو لأى حلف معاد ،
وتجنب استخدام "أوكرانيا" كمصيدة استنزاف ممتد للقوات الروسية ، ودفع
تناقضات الأرثوذكس والكاثوليك واليهود إلى مداها فى الغرب الأوكرانى ، الذى يصير
محروما من ثروة الشرق وموارده الطبيعية والزراعية والصناعية ، التى تضاف كلها كمدد
إلى روسيا ، وإلى حساب صمودها فى وجه الحصار الأمريكى الغربى ، الذى طال كل ما هو
روسى ، من الاقتصاد إلى السياسة والرياضة والثقافة والفن ، فوق سرقة الأصول
المالية الروسية فى عواصم الغرب جميعا ، ومن دون أن تؤدى أدوات العقاب الباطشة إلى
خسارة تقعد الاقتصاد الروسى ، الذى صعدت عملته "الروبل" إلى أرقام
قياسية غير مسبوقة ، بعد إعلان "بوتين" التوجه إلى تصدير الغاز والبترول
لأوروبا مقابل الروبل لا الدولار واليورو ، وربط قيمة "الروبل" بالغطاء
الذهبى ، وتطوير نظم دفع بديلة لنظام "سويفت" المالى العالمى ، الذى
تسيطر عليه أمريكا وبنوكها ، وتشجيع التبادل التجارى مع الآخرين باستخدام بالعملات
الوطنية ، أو بنظام المقايضة ، أو بغطاء "اليوان" الذهبى الصينى ، وكلها
اختراقات ملهمة ، وإن لم تكن وليدة ساعتها ، تؤدى مع استطراد عملها وصقله ، إلى
تفكيك ديكتاتورية الدولار ، التى بدأت بعد الحرب العالمية الثانية باتفاقية "بريتون
وودز" ، ثم بتحكم "البنك الدولى" و"صندوق النقد الدولى" ،
ثم بجعل الدولار عملة احتياط عالمية ، وبدون غطاء ذهبى مقابل ، وهو ما جرى أواسط
سبعينيات القرن العشرين ، بفرض الدولار أساسا لتسعير البترول والمعادن الأخرى ،
وهو ما مكن أمريكا من إدامة سيطرتها المالية ، بمجرد طباعة أوراق بنكنوت ، من دون
استناد إلى غطاء ذهبى ولا إلى إنتاجية اقتصادية عينية منظورة ، وبما خلق مفارقة
عبثية ، جعلت أمريكا نظريا فى وضع الاقتصاد العالمى الأول ، برغم أنها أكبر مدين
فى التاريخ الإنسانى ، وزادت جملة ديون اقتصادها إلى اليوم على الثلاثين تريليون
دولار .
وحتى قبل أن يعلن بوتين انتصاره المتوقع فى العملية الأوكرانية ، فقد بدا
فزع أمريكا من هزيمة تنتظرها ملحوظا ، وراحت تتصرف بشراسة "حلاوة الروح"
المعروفة عن الثيران وقت الذبح وطلوع الروح ، وقد أعادت تجريب الأساليب نفسها التى
اتبعتها فى زمن الحرب الباردة القديمة مع الاتحاد السوفيتى السابق ، ثم أعادت
تجريب أساليبها فى زمن القطبية الأحادية بعد انهيارات موسكو الشيوعية أوائل
تسعينيات القرن العشرين ، ومن دون أن تأخذ فى حسابها كثافة التغيرات الدولية ، وما
جرى من إعادة توزيع متسارعة لتوازنات الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح ، جعلت التفوق
الأمريكى واحتكاره لكرسى العرش العالمى ذاهبا بإطراد إلى خبر كان ، ثم جاءت عملية
أوكرانيا لتكشف الغطاء عن ما جرى ويجرى ، فقبل عشرين سنة ، كان بوسع واشنطن أن تهش
الآخرين بعصاها ، وأن تردد مقولة جورج بوش الإبن "من ليس معنا فهو ضدنا"
، وأن يؤتى تهديدها أكله ، وبما شجعها على خوض حربين استنزافيتين طويلتين فى
أفغانستان والعراق ، إضافة لعشرات الحروب والغارات الأصغر ، انطلاقا من مئات القواعد
العسكرية الأمريكية فى أربع جهات الدنيا ، وجاءت نتائج حروب واشنطن للمفارقة
إنهاكا لما تبقى من قوتها ، وتحطيما للهيبة الأمريكية الكونية المفترضة ، بدت
أماراته ظاهرة فى الانسحاب الفوضوى المخزى
المذل من أفغانستان قبل شهور ، وبما جعل حديث "جو بايدن" العجوز الخرف
عن استعادة "القيادة الأمريكية للعالم" محط سخرية واستهزاء ، ونزع خوف
التابعين من سطوة أمريكا المزعومة ، وعلى نحو ما بدا فى تصويتات الأمم المتحدة
نفسها فى مجرى العملية الأوكرانية ، فقد حشدت أمريكا كل قوتها وضغوطها ، وحملت 141
دولة على إدانة روسيا فى الجمعية العامة للأمم المتحدة مع بدء الحرب ، ثم تناقص
العدد إلى 93 دولة فى التصويت اللاحق لتعليق عضوية روسيا فى مجلس حقوق الإنسان ،
أى أن 48 دولة خرجت عن طاعة أمريكا فى أسابيع ، وفى المقابل ، رفضت أو امتنعت 82
دولة عن التصويت ضد روسيا ، وهو ما جعل دعوى أمريكا عن عزل روسيا محض هراء وطلقات
أوهام ، زادت من فزع أمريكا الغريزى ، خصوصا أن الدول التى رفضت أو امتنعت عن
إدانة روسيا ، تكون الجزء الأكبر من سكان العالم وطاقاته فى عوالم السلاح
والاقتصاد ، وبما دفع واشنطن لإشهار غضب منفلت ، قادها لتدبير ودعم انقلاب فى باكستان
لإزاحة "عمران خان" بعد لقاء الأخير مع بوتين فى موسكو ، تبعته الحملة
المحمومة على رئيس الوزراء الهندى "مودى" لوقف استيراده للغاز والبترول
من روسيا ، ومن دون أن تثمر الضغوط حتى على البلدين النوويين المتجاورين
المتحاربين تاريخيا ، فقد اندفع طوفان عارم من التأييد الجماهيرى الجارف لعمران
خان فى باكستان ، وصار بوسعه أن يكسب بسهولة أى انتخابات مقبلة فى "إسلام
آباد" ، وامتنعت الهند عن تقديم أى تعهد مريح إلى واشنطن ، والهند وباكستان
كما هو معروف ، تجمعهما علاقات تجارة واقتصاد أكثر تنوعا وتشابكا مع بكين حليفة
موسكو ، فوق ما ظهر من خسائر دول الغرب وشركاته الكبرى المقاطعة لموسكو ، وهو ما
قد يعنى ببساطة ، أن واشنطن تعاقب حلفاءها وتجدع أنفها .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق