إذا كان عالم أوروبا وأمريكا قد
انتهى من معضلة النَّهضة وشروطها، فإن العالم الثَّالث، كما كان يسمَّى سابقاً، لا
يزال منشغلًا، بإمكانياته جميعها، في حل هذه المعضلة.
إذاً، فمن المسوَّغ، على
المستويين: القومي والتاريخي، أن تنشغل أمَّتنا، وتسخِّر عقول أبنائها، وتحفِّز
قواهم الفكريّة، لتحديد عوامل النكوص، وبلورة عوامل النهوض وتحديد البنى النظرية
والفكرية لمشروعها النهضوي، وذلك لإقامة الحياة الكريمة للإنسان، والاستعداد
للدُّخول إلى القرن الواحد والعشرين بنظرية نهضوية ناضجة تحقِّق المتطلَّبات
المرجوّة منها.
ومن النّاحية التاريخية، يمكننا
أن نتصوَّر أن أمَّة العرب قد عانت من هذه المعضلة في مرحلة ما قبل البعثة
المحمّدية، فبحثت عن مخرج لأزمتها الحضاريَّة، فكان الإسلام، آنذاك، هو العلاج
الذي تحوَّل بعوامل التخلُّف إلى عناصر للنهوض والارتقاء، وبذلك اكتسبت أمَّة
العرب هويّة حضارية تاريخية تحوّلت إلى هوية إنسانية عامة
. وهنا يثار تساؤل مركزي: هل تلك
الهوية دائمة بدوام بقاء الإنسان، أو أنَّها مؤقتة كغيرها من الهويّات الحضارية
للأمم أو متغيرة تبعاً لتطور العقل البشري؟
وإذا حصل ـ لسببٍ أو لأسباب
متعدِّدة داخلية وخارجية ـ أن أصيبت عوامل وهذه الفكرة أروع ما يلزم أن يسعى
المفكّرون الإسلاميون من أجلها على أن تتم وفق القياسات الأصولية الشرعية. أما إذا
أعيدت صياغة الفقه ـ تصورات متكاملة ـ مع إطلاق العقل في الشكل والمضمون بحجة عدم
صلاحية النص ونضوبه، وعدم صلاحية مسالك الاستدلال ليصار إلى عقلانية جديدة، فهذا
معناه أننا نتقدم في الصياغة، ونخفق في المضامين، فتحسس المشكلات المعاصرة
ومتطلبات العصر وتلبيتها شيء، وتبديل ضوابط الاستفادة من النص شيء آخر.
إن التبديل يقع على «نتائج عامة» مُبرهن
عليها، درستها أجيال من علماء الأصول، فإذا أريد تبديلها فإن ذلك يتطلب وعياً
علمياً وحضارياً عالياً يثبت خطأ ما تقرر من قواعد أصولية وبطلانه، ويقيم البرهان
على القواعد البديلة، ويفحص علمياً إنتاجية تلك القواعد لتتقرر بعدها مشروعية
التبديل.
هذا على مستوى القواعد الأصولية،
مثل «مؤدَّى الأمر، ومقتضى النهي، وقاعدة الدوران... الخ». أما على مستوى القياس،
أو الاستفادة من النص الكلي والنص العام، فإن «افتراض كون المشكلات المعاصرة، لا
تشكل فروعاً متحدة العلة» مع أصول لوقائع سابقة، فهذا يواجهه التشكيك بعموم النصوص
التي اعترف بها الباحث، وجعلها مقدمة للركون إلى التطبيقات،
وهو موقف عقدي يحتاج إلى إعادة
نظر، وكذلك يحتاج إلى برهنة علمية على مثل هذا الفرض الهائل الخطورة الذي لم يقم
البرهان عليه بعد، لا من جهة تحليل عناصره، ولا من جهة عدم خضوعه لعموم النص. إنَّ
تبني «قضية» نضوب النص في استيعاب مشاكلنا المعاصرة، دعوة صريحة للإعراض عنه، لذلك
يحتاج الإسلام نفسه إلى تجديد، لا الفكر الإسلامي. وإذا كان هذا الإعراض مجملًا
بالعودة إلى المصلحة، فهل المصلحة مرجعية قطعية أو ظنية؟ وماذا لو تعارضت مصلحة
ومفسدة؟ من يدعي أن الإنجاز العقلي قادر على حسم مثل هذا التَّعارض؟ وإذا كان
مشروع الجابري امتداد لمشروع الشَّاطبي، فهو مباين له في تسلسل الأدلة وخضوعها
لضوابط اللغة والقياس.
والحق أنه دعوة مستندة إلى «الإضافة
النوعية» إلى مشروع الشاطبي لكن تنقصه: أ ـ ضرورة فهم العلاقة بين النص وثقافة
النص، والصلة بين التصوُّر العقدي، والتصوّر الفقهي (أصوله وفروعه).
ب ـ إيجاد البراهين على خطأ
النتاج الأصولي جلّه أو كلّه.
جـ ـ جهد مؤسس لقواعد وأدلّة
جديدة.
3 ـ في دعوة الجابري: إنَّ
الراشدين تصرَّفوا من منطق المصلحة معرضين عن النص مسامحة كبيرة، وإذا تقصَّينا
الأمثلة التي أوردها نرى:
ـ أن تصرف عمر في الأرض الخراجية
صدر عن نص ذكره أبو يوسف في الخراج، وهو الآيتان7 و8 من سورة الحشر {ما أفاء الله
على رسوله..} (69)والآية (9) التي أسست كون الخراج حقاً عاماً دائماً للمسلمين
جميعاً، ولم يكتف عمر بالنص، بل أجرى مشاورة علنية ليكون الإجماع عليه دليلًا، أما
المصلحة هنا فهي المعزِّز في صحة فهم النص، وليس الأصل في التشريع.
4 ـ في مبحث الجابري «الحدود
تُدرأ بالشبهات» تعويل على تطبيق غير مستوعب للحقائق، فالذي عليه التحقيق أنَّ
الإسلام لا يكون «فعلًا متكاملًا» إلَّا بعد توفير الظروف الاجتماعية والبيئية
لتركيز الاعتقاد والقيم الأخلاقية «البناءة لذات الإنسان»، ثم تشريع التكافل،
والضمان، والحريات الأساسية، ثم التطبيق للقانون الجنائي، وإن حصل عكس هذا في بعض
التجارب فذلك يعود إلى قصور في الفهم أو إلى دفع من قوى معينة.
5 ـ إن دعوى أن الشريعة لم تطبق
كونها لم تكتمل، في عصر الرسالة، هي شبهة مقابل بديهة؛ حيث أن «كل الأنظمة البشرية
لم تطبق لما يرد عليها من مكملات دائمية».
لقد أسس الإسلام في بدء نزوله منطلقات إقامة
الدولة والمجتمع في مكة، وطبقها فعلًا في المدينة، وملأ الثغرات والفراغ، وهذا
القول مبعثه توهم لتساوي المصادر والأدلّة، فالكتاب الكريم هو الأصل، والسنة
شارحة، والإجماع توافق على فهم دلالة النص، والقياس والعقل مسالك عقلانية داخل
النص، وتأسيس الدولة وسياسة المجتمع ـ كان يكفيها ـ اكتمال الأسس في النزول المكي
وورود الأحكام في وقائع المستجدات.
أما الدفع بأن تدرّج النزول
وظاهرة النسخ مسوغان للقول: إنَّ الشريعة لم تطبق كاملةً، فهو شبهة، لأن الدولة
أقيمت بما يكفيها من النصوص وما ورد بعد تكوّنها أجاب عن حوادثها، وظل سقفاً لكل
حادثة أو واقعة تحصل في ما بعد، ولم تكن، في لحظة ما من تاريخ المسلمين، آراء
الفقهاء والاجتهادات جزءاً من الشريعة، إنَّما ثقافة مؤسسة على النص، تتبع دليلها
فإن كان قطعياً قطع الخلاف فيه، وإن كان ظنياً جازت الرؤية له من زاوية أُخرى ضمن
دلالات الدليل. أمَّا النّسخ فالذي عليه أهل العلم، في الأغلب، أنه قليل جداً لا
يتعدى عدد الأصابع.. لا شك أن الفكر السياسي العربي بشقيه الإسلامي وغيره متورطّ
في أزمة لم يستطع الفكاك منها حتى الآن، فهو يعاني ازدواجية في الانتماء، وغياباً
كاملاً لدور «الأمة»، وهكذا فالانشغال بتحليل تلك الأزمة كان ولا يزال مطلباً
ملحاً، ومن هنا تأتي هذه الحلقة من (سلسلة حوارات لقرن جديد) المعروفة عن دار الفكر،
من خلال متخصِّصَيْن بالفكر السياسي العربي والإسلامي لمناقشة هذه القضية في
مستواها العميق. أن الإصلاحيين: الأفغاني وعبده ومن ينتمي إلى مدرستهم ينظرون إلى
مبدأ السيادة «سيادة الأمة» على أنه إسلامي، مطابقين بين مفهوم الشورى
والديمقراطية، كل ذلك تحت تأثير أفكار الثورة الفرنسية التي وصل إليهم إشعاعها.
ورغم تنازع الإسلاميين بعد ذلك
حول مبدأ «السيادة» ذاك، فإنه في الثمانينيات والتسعينيات عادت الفكرة إلى محط
اهتمامهم، لكن في كل ذلك كانت السيادة تمرّ عبر «نخبة» (أهل الحل والعقد)، وظلت «المرجعية»
العليا التي لابد أن يستند إليها الدستور والتي تميّز الفكر السياسي الإسلامي عما
عداه دون مناقشة في العمق، إلى أن ظهرت أحداث سقوط الخلافة العثمانية وبروز
الاستعمار، ثم صعود الدولة الوطنية العلمانية، فأفضى الحديث عن «المرجعية» إلى
الحديث عن «الحاكمية» الذي اشتهرت نسبته منذ مطلع الستينيات إلى أبي الأعلى
المودوي وسيد قطب. وفي كل الأطوار كان
يُنظر إلى «الدولة» (سواء من الإسلاميين أم من غيرهم) على أنها أداة ذات طابع
وظيفي، امتداداً لفقه «السياسة الشرعية» الذي رأى واجتهد في شرعية السلطانية على
أساس بقاء وظيفتيها: الكفاية والشوكة، وبذلك قامت الخلافة.
وهكذا مع سقوط الخلافة (أو
إسقاطها) وصعود الدولة العلمانية وتجربة الاستعمار المريرة أصبحت «الخلافة» أو
استعادة الخلافة مطلباً طالما تأزم الفكر السياسي الإسلامي في طريقه إليه، وأنفق
أكثر من عقدين لأجل تلك الاستعادة بصيغتها القديمة أو المؤوّلة (الدولة الإسلامية)،
بل إن الشيخ تقي النبهاني وحزبه لم يتجاوزا هذه المسألة إلى اليوم!. جمع الماوردي
ما سبقه من إشارات وتلميحات في مسائل الفقه السياسي في هذا الكتاب. والكتاب ليس
مجرد تتبع لهذه الإشارات والتلميحات، بل إن صاحبه ينطلق من هذه الإشارات مؤسساً
لنفسه إطاراً فكرياً سياسياً، مستنداً في ذلك إلى المقارنة بين حجج وأدلة سابقيه،
محاولاً أن يكون عملياً في كتابه لتسير عليه السلطة التنفيذية.
يعد تفسير الماوردي “النكت
والعيون” من أوجز التفاسير التي عنيت باللغة والأدب، ونقل فيه الآراء التفسيرية
السابقة له، ولم يقتصر على نقلها بل نقدها. والتفسير يندرج تحت مدرسة التفسير
بالرأي؛ حيث أعمل الماوردي جهده ورأيه في شرح وتفسير الآيات، نافياً أن يكون فعله
مما يعدّ تفسيراً بالهوى والرأي المنهي عنه.
وفي هذا يقول: “تمسك بعض
المتورّعة ممن قلّت في العلم طبقته، وضعفت فيه خبرته، واستعمل هذا الحديث على
ظاهره، وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده عند وضوح شواهده، إلا أن يرد بها
نقل صحيح، ويدل عليها نص صريح.. وهذا عدول عما تعبد اللّه تعالى به خلقه في خطابهم
بلسان عربي مبين، قد نبه على معانيه ما صرّح من اللغز والتعمية التي لا يوقف عليها
إلا بالمواضعة إلى كلام حـكـيم أبان عن مراده، وقطع أعذار عباده، وجعل لهم سبلا
إلى استنباط أحكامه، كما قال تعالى: لعلمه الذين يستنبطونه منهم. ولو كان ما قالوه
صحيحاً لكان كلام اللّه غير مفهوم، ومـراده بـخـطابه غير معلوم، ولصار كاللغز
المعمّى، فبطل الاحتجاج به، وكان ورود النص على تأويله مغنيا عن الاحتجاج بتنزيله..
وأعوذ باللّه من قول في القرآن يؤدي إلى التوقف عنه.” وقد نال تفسيره هذا عناية
المفسرين المتأخرين عنه ونقلوا عنه، كابن الجوزي في “زاد المسير”، والقرطبي في
تفسيره “الجامع لأحكام القرآن.
0 comments:
إرسال تعليق