ذهبت "السكرة" وجاءت الفكرة ، وصار على حركة "طالبان" أن تحكم ، والحكم أصعب من القتال ، كما تقول خبرات وتجارب التحرير الوطنى المسلح ، وهذا جوهر التحدى الذى يواجه زعماء طالبان اليوم بعد انسحاب آخر جندى أمريكى ، التحدى بدا ظاهرا على نحو رمزى مكثف فى مطار "كابول" ، فقد فاجأتهم القوات الأمريكية بإتمام الانسحاب على جناح السرعة ، وقبل 24 ساعة كاملة من الموعد المتفق عليه بنهاية أغسطس المنقضى ، ودخل "الطالبانيون" الفرحون إلى المطار فى زفة من الأنصار ، ليجدوا كل شئ تحطم ، فلم يترك الأمريكيون شيئا على حاله ، حتى المقاعد وزجاج الصالات كسروها ، كما أجهزة الكومبيوتر فى برج المراقبة ، إضافة إلى تفجير 73 طائرة لاستخدامات مدنية وعسكرية ، وكأن الاحتلال أراد أن يترك بصمته التدميرية قبل الرحيل الأخير ، وكأنه يقول لطالبان : أرونا إذن ماذا أنتم فاعلون بدوننا ، وبدون معداتنا المتقدمة .
بدا مشهد الحطام فى المطار المنكوب مختلفا ،
وعلى العكس تماما مما جرى فى أفغانستان قبلها ، حين تقدمت حركة طالبان لكسب عواصم
الولايات الأفغانية الأربعة والثلاثين ، باستثناء ولاية "بانجشير" حتى
الآن ، فقد كانت المدن تفتح دون قتال ، وحتى أكبر المدن "كابول" سقطت فى
مباراة ودية ، وبدا مقاتلو طالبان كأنهم فى نزهة خلوية ، فقد تبخر جيش الثلاثمائة
ألف جندى الذى أعده ودربه الأمريكيون على مدى عشرين سنة احتلالا ، ولم يفعل الجيش
الأفغانى (الأمريكانى) شيئا ، سوى أن ترك طوعا أسلحته الأمريكية الحديثة غنائم
لطالبان ، باستثناء عشرات الطائرات التى هرب بها طياروها إلى "طاجيكستان"
المجاورة شمالا ، ووجدت طالبان نفسها فائزة دون جهد بكنوز مغارة "على بابا"
التسليحية ، التى زادت قوتها القتالية لعشرين ضعفا فى أيام ، ودونما دفع "سنت"واحد
، فحسب التقديرات الأمريكية شبه الرسمية ، حصلت "طالبان" على أسلحة
أمريكية بقيمة 85 مليار دولار كهدايا مجانية ، بينها 75 ألف مركبة "همفى"
، و600 ألف قطعة سلاح صغير وخفيف متطور ، ونحو 200 طائرة مقاتلة وهليكومبتر ،
بينها عدد كبير من طائرات "بلاك هوك" فخر الصناعة الأمريكية ، تتفوق به
قوات "طالبان" على 85% من جيوش العالم ، إضافة لآلاف الأطنان من الدروع
الواقية وأجهزة الرؤية الليلية والمستلزمات الطبية ، وأجهزة "بيومترية" دقيقة
مع سجلاتها المختزنة فى عقدين كاملين من الزمان ، بما فيها بصمات الأصابع ومسحات
الجلد والسير الذاتية لملايين المواطنين الأفغان .
وبرغم أن خزائن أسرار ما جرى لم تفتح بعد ، فإن
مفارقة تحطيم المطار المدنى مع ترك الأسلحة العسكرية تبدو لافتة ، صحيح أن
المفارقة لها علاقة بتخبط الرئيس الأمريكى جوبايدن ، وتساقط أوراق شعبيته تباعا ،
بعد المذلة العسكرية الأمريكية ، التى ورثها عن أسلاف ، تركوا له تحمل وزرها ، لأن
النهايات المأساوية زحفت فى عهده ، وربما أراد بإصدار أوامر تدمير مطار كابول ، أن
ينتقم لنفسه ، خصوصا بعد مقتل وجرح 31 جنديا أمريكيا فى هجوم انتحارى مفاجئ لداعش
على المطار ، وفشل بايدن فى إقناع الرأى العام بأنه انتقم للدماء الأمريكية ، فقد
بدت ضربات طائراته "المسيرة" كأنها خبط عشواء لذر الرماد فى العيون ،
بينما انفتحت العيون مذهولة وذاهلة على هول ما جرى فى عملية تحطيم المطار ، وكأن
الرجل يتصرف على طريقة المريب الذى يكاد يقول "خذونى" ، فقد كان بوسع
القوات الأمريكية طبعا ، أن تسترد أسلحتها ، أو أن تحطمها ، أو أن تشترط على "طالبان"
تسليمها قبل الانسحاب الأمريكى ، لكنها لم تفعل ، ولم تصدر أوامر بايدن القائد
الأعلى للجيوش الأمريكية ، وبدا أن البيت الأبيض ومؤسساته غضت الطرف عن قصد ،
واستراحت لذهاب كل هذه الأسلحة إلى حركة "طالبان" ، ليس حبا بالطبع فى "عبد
الغنى برادر" رئيس مكتب طالبان السياسى ، ومفاوض الأمريكيين المفضل ، وقد ضغط
الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب لإخراج "برادر" من سجنه الباكستانى
قبل سنوات ، ووقع الأمريكيون معه على اتفاق الانسحاب فى فبراير 2020 ، ليس لكى
تحكم طالبان على طريقة الملا "هبة الله آخوند زاده" أمير المؤمنين كما
تصفه حركته ، بل غالبا لتدفع مقاتلى "طالبان" إلى حرب تحطيم ذاتى متجددة
لأفغانستان ، والسلاح الأمريكى المتفوق المتروك غفوا ، قد يغرى "طالبان"
بخوض حروب إقصاء واردة لخصومها ، وكلهم قتلة ومقتولون يرفعون رايات "إسلامية"
جريا على العادة الأفغانية فى عقود الدم الأخيرة .
والمعنى ببساطة ، أن "طالبان" قد لا
تجد نفسها مهتمة بالحكم ولا بالتنمية ، ولا حتى بتطبيق مبادئ الشريعة بحسب فهمها
القبلى البدائى ، وقد تجد من الأسهل عليها أن تعود للقتال ، هربا من مصاعب الحكم
ومآزقه وأسئلته التى لا تعرف جوابها ، بينما القتال والقتل هو الحرفة التى تفهمها
، خصوصا فى سياق أفغانى ملغوم تاريخيا ، لايسمح للإمبراطوريات الغازية بدوام
احتلالها ، ويحفر لها مقابرها الأفغانية ، لكنه لا يسمح فى الوقت ذاته للمفارقة ،
بأن تستقر أفغانستان على صورة حكم مركزى موحد قابل لاستدامة وقبول طوعى ، فقد هزم
الأفغان غزوات بريطانيا التى كانت عظمى فى 1919 ، لكن سلطات "الملكية" التى
أعقبت الاحتلال البريطانى لم تكن مسلما بها ، وشهدت اغتيالات وخيانات أسرية ، وإلى
أن انقلب الجنرال "داود خان"على ابن عمه الملك الأخير "محمد ظاهر
شاه" فى 1973 ، وبما فتح الباب بعدها لحكم الحزب الشيوعى ، الذى احتربت
فصائله منذ 1979 ، وفشل الغزو السوفيتى المساند ، وخرج مهزوما بعدها بعشر سنوات ،
ثم حل احتراب فصائل "المجاهدين" الإسلاميين ، وإلى أن أزاحتهم طالبان
جميعا فى 1996 ، ومن دون أن تنجح فى بسط سيطرتها تماما على كل أفغانستان ، فى مدى
خمس سنوات لاحقة انتهت بالاحتلال الأمريكى ، فقد كانت طالبان فى عداوة واحتراب
متصل مع ما يسمى تحالف فصائل الشمال ، وكلهم من الأعراق المناوئة لهيمنة "البشتون"
فى الجنوب ، ومع خروج الاحتلال الأمريكى ، تبدو الطاحونة نفسها مستعدة للدوران
مجددا ، وفى حروب قد تتسع من حول تمرد "بانجشير" الشمالية بزعامة أحمد
شاه مسعود الإبن ، فالأنجال يرثون الحروب ذاتها بعد هلاك الآباء ، ومحمد يعقوب ابن
الملا محمد عمر مؤسس طالبان ، يبدو كأنه الشخص الطالبانى الأقوى المستعد للقتال
دفاعا عن شرف القبيلة والعصبة الدينية ، خصوصا مع توحش "داعش" أفغانستان
، التى تستقطب أبناء "طالبان" ، وتتهم قادة الحركة بالردة عن دين
الإسلام ، وبالعمالة للأمريكيين ، وقد سبق لداعش أفغانستان المسماة " ولاية
خراسان" ، أن قاتلت الأمريكين وطالبان معا ، وتباهى متحدث داعشى فى حوار قريب
مع "سى . إن . إن " ، أنهم كانوا يقطعون رؤوس أسرى طالبان عندهم بحد
الفئوس.
وقد تحاول بعض قيادات "طالبان" البراجماتية
نوعا ما ، أن تعطى انطباعا أكثر انفتاحا ، وأن تمد خيوط تواصل مع آخرين ، وأن تشكل
حكومة تتسع لغير الطالبانيين ، وتشمل حتى أنصار حامد كرزاى وعبدالله عبدالله وغيرهم من خدم
وعملاء الاحتلال الأمريكى ، وجماعة "إخوان" قلب الدين حكمتيار
طريد طالبان السابق ، مع الحرص طبعا ، على ترك مفاصل الحكم الأساسية بيد رجال
طالبان ، وتشكيل من هذا النوع لن يدوم طويلا على أغلب الظنون ، وربما تتكرر بفضه
المتوقع ذات المقتلة القريبة القديمة ، التى لم تترك حجرا فوق حجر فى العاصمة "كابول"
، خلال حروب "المجاهدين" بين عامى 1989 و 1996 ، فقد تسلم الأطراف
الأخرى بغلبة "طالبان" عسكريا
لوقت قصير ، ربما لالتقاط الأنفاس والإعداد لثأر حربى ، خصوصا أنها لا تثق
فى وعود "طالبان" بتغيير السلوك ، ولا فى قرارات عفوها المتزاحمة ، التى
بدت أقرب لقرارات تأجيل انتقام منها إلى طى الصفحة ، ولا يثق أحد طبعا فى وعود
طالبان بالتسامح مع حقوق النساء ولا الحريات الاجتماعية ، ناهيك عن حقيقة أن
طالبان لا تتحدث عن ديمقراطية ولا عن أى انتخابات من أصله ، حتى لو جرى تزويرها ،
فطالبان قد تنجح فى قتال ، لكنها لا تبدو مهيئة لفوز فى أى انتخابات ، وكل وعودها
عن ضمان حقوق النساء ذهبت فى طرفة عين ، وفى "قندهار" عاصمة الملا هبة
الله الروحية ، ما كاد الملا يصل إليها من مسقط رأسه فى "أوزجان" ، حتى
صدر قرار قطعى بتحريم الاستماع لأصوات النساء عبر وسائل الإعلام ، فالمرأة فى
العرف الطالبانى ليست سوى "عورة" شيطانية ، يجب إخفاؤها بالكامل فى "البرقع
الأفغانى" السابغ ، وكأنه كتب على أفغانستان أن تظل فى دوامة الكوابيس ذاتها
، محو لحضور النساء وهم نصف المجتمع ، وترك النصف الآخر من الذكور وقودا لحروب لا
تنتهى ، تغرى بها وعورة تضاريس الجغرافيا وتضاريس البشر ، فى بلد منكوب بفقره
وبعصابات مزارع الأفيون .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق