في منطقة أقرب إلينا من شراك حزن، وأبعد عنا من شرايين نهر، اندلعت فاجعة ليستالأولى في تاريخ أحزان المناصير ولن تكون الأخيرة. لكن أجفان الأطفال المسدلة وبطونهمالمنتفخة بماء النهر لن تثير من الحكومة السودانية كالعادة إلا الشفقة ومن المسئولين المحليينكالروتين إلا الرثاء. يهتز جوف النهر ألما وتفيض جوانبه حزنا، وتبكي السماء ضحكاتتحولت خرسا مقيما وبكما دائما، لكن هكذا أمور معتادة لا تحرك في ذقن مسئول سودانيشعرة، ولا تحثه على تحريك قدميه الغليظتين في أي اتجاه لحل الأزمة.
"كبنة" إحدى قرى منطقة المناصير ، والمناصير لمن لا يعرف قبيلة في شمال السودان تمتهجيرها عنوة منذ عشر سنوات تقريبا عندما قررت الحكومة بناء سد مروى. ولما اعتصمبعض المتضررين وسط ميدان الدامر ووقفوا على أطراف مخاوفهم يهتفون "تنهد تنهدعصابة السد"، و"حقنا كامل وما بنجامل"، طمأنهم المسئولون بأن مشاريعهم التي غمرتهاالمياه ستعود للعمل، وأن المدارس التي أغلقت فصولها ستعود لتفتح أبوابها عما قريب، وأنالطرق الممزقة ستعبد ولن يضطر أطفال المناصير لاعتلاء الأخشاب المتهالكة لالتماسالعلم. وصدقت قلوب الناس كالعادة وكذبت الحكومة.
عاد الثائرون إلى أزقتهم الضيقة ليتقاسموا الماء الملوث والطرق غير المعبدة والمنازل الآيلةللتآكل، ليربطوا أحزمة الأمل فوق بطونهم الخاوية في انتظار مواعيد عرقوب. وفجأة، وبعدأعوام بليدة من الانتظار الممض، يأتي الخبر الصاعقة: "أيها الناس اخرجوا من مساكنكملتجمعوا ما طرحه النهر من فلذات أكبادكم." وهناك، على ضفاف نهر لطالما ردد ضحكاتالأطفال العالية ولهوهم البريء، اجتمع أهل المناصير يتراكضون تراكض خيول جريحةليجمعوا ما تناثر من بقايا أطفالهم: "هذا حذاء ولدي، وتلك حقيبته، بالله هل رأى جثته أيهاالمفجوعون أحد؟" وفوق الطين اللزج، تتزحلق الأقدام الخشنة وتنهمر الدموع.
المشهد ليس جديدا أيها البائسون التعساء. ولن يكون أخيرا أيتها الحكومات اللاهية. فماالمواطن في بلادنا الحزينة إلا رقم على يسار مركب متآكل يغزوه الماء من كل جانب. حتماسيشيع جثمان اثنين وعشرين ربيعا مندوبون عن حكومة نهر النيل، ويقينا سيذرفون الدموعوالخطب الرنانة في مواكب الوداع. لكن حزنا آخر صامتا لن تستطيع صياغته الأفئدةالموجوعة إلى كلمات سيعود من المقابر ليستوطن الديار والطرقات، وسيبقى جاثما فوقصدور أمهات لن تضطر إلى النهوض باكرا لإعداد الفطور لأطفالهم قبل الذهاب إلىمدارسهم النائية.
أعدوا لأهل كبنة أيها السودانيون الطيبون الطعام، فقد أتاهم اليوم ما يشغلهم، وشاركوهمالحزن على أطفال لن يعودوا للتسابق في أجران القمح ولا لتسلق الأشجار العالية والتلصصعلى أسرارهم الصغيرة. شاركوا أهل كبنة بؤسا ليس غريبا عنهم ولا عنكم، فلطالما شهدتمالفواجع، ولطالما مشيتم في مواكب الحزن أفرادا وجماعات. شاركوهم وجيب قلوبهم ونيرانصدورهم وجفاف حلوقهم، ولا تعودوا إلى بيوتكم بعد الوداع لتتناولوا ما لذ على موائدكموطاب.
بقي أن أقف صامتا أمام حزن عمر سليمان، ذلك الرجل الذي غيب الموت خمسة من أطفالهفي الصباح، ونهش قلب زوجته في المساء، صمتا يليق بفجيعته. فماذا تعني الحروف وماتقول الشفاه لرجل كان يصرخ في أطفاله كل يوم ليكفوا عن الصراخ والمزاح والبكاء، ثميجد نفسه اليوم فريسة صمت يأكله الحزن من كل جانب ولا يشاركه فيه أحد، حتى امرأتهالتي لم يحتمل قلبها الفاجعة؟ ماذا تعني الكلمات الممطوطة والحروف المتمايلة فوق السطورأمام عيني رجل لن يوقظ بناته في الصباح للمدرسة ولن ينتظر أحضانهم عند الظهيرة؟ أيازوج خنساء الشمال، لك الله، ولنا الوعود الكاذبة والصبر غير الجميل.
Shaer129@me.com
0 comments:
إرسال تعليق