إن الطبيعة الخاصة التي تتميز بها الجرائم التي تقع على العمليات الإلكترونية باستخدام الوسائل الإلكترونية المستحدثة لا تقف عند الطبيعة الخاصة بالأفعال التي تتحقق بها هذه الجرائم، وإنما تمتد هذه الطبيعة لتشمل أيضا البعد العالمي لهذا النوع من الجرائم،
فإذا كانت شبكة الاتصالات من بعد ذات نطاق عالمي لا يتقيد بحدود دولة معينة فإنه يتصور تبعا لذلك أن تتميز الجرائم التي تقع عليها أو تقع بسببها بالطبيعة العالمية، فيستطيع اي شخص في دولة معينة الدخول إلى شبكة الإنترنت العالمية،
ويمكنه ارتكاب نشاطه الإجرامي في دولة اخرى أو مجموعة من الدول الاخرى. ولذلك فإنه يمكن القول أن جرائم الحاسبات الآلية لا تعترف بالحدود بين الدول والقارات، فمن يتمكن من معرفة كلمة السر للوسائل الإلكترونية التي تتصل بالشبكات العالمية، يستطيع اختراق هذه الشبكات والعبث بمعلوماتها بغض النظر عن مكان تواجده.
فجرائم الوسائل الإلكترونية المستحدثة تعد تبعا لذلك شكلا جديدا من الجرائم العابرة للحدود الوطنية أو الاقليمية أو القارية .
ولا شك في أن الطبيعة العالمية التي تتميز بها الجرائم التي تتصل بنظم المعالجة الآلية للمعلومات قد تثير مشكلات كثيرة تتعلق بتحديد الاختصاص المكاني لهذه الجرائم، وبقواعد سريان القانون الوطني من حيث المكان . فإذا كان من المتصور أن تستخدم الوسائل الإلكترونية في ارتكاب جرائم الاعتداء على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي،
فإن ذلك يجعل الاختصاص بهذه الجرائم للقانون الوطني للدولة التي وقعت عليها هذه الاعتداءات وذلك تطبيقا لمبدأ العينية في سريان قانون العقوبات من حيث المكان الذي تطبقه الكثير من الدول لحمايتها من جرائم معينة تتميز بخطورة معينة، فتمد قانونها الوطني لتطبقه عليها حتى ولو ارتكبت هذه الجرائم خارج حدود اقليمها الوطني .
ولا مرية أن هذه الطبيعة الخاصة بهذا النوع من الجرائم ستنعكس أيضا على إثباتها جنائيا لأنها سوف تزيد من صعوبة لهذا الإثبات خاصة في تلك الحالات التي ترتكب فيها هذه الجرائم خارج النطاق المكاني للإقليم، إذ يصعب في مثل هذه الحالات جمع الدليل.
. لا تقف الطبيعة الخاصة بالجرائم التي تقع على العمليات الإلكترونية عن طريق الوسائل الإلكترونية عند الطبيعة الخاصة للأفعال التي ترتكب بها، أو أنها عالمية المكان، بل تتميز هذه الجرائم كذلك بأن الذين يرتكبونها هم فئة من المجرمين يتميزون بصفات خاصة، فقد يكون هؤلاء من المحترفين الذين يتميزون بالخبرة والمهارة العالية في مجال الحاسب الآلي ويعملون كمبرمجين أو محللين أو مشغلين،
ولذلك فإن طبيعة عملهم وخبرتهم في هذا المجال تسهل لهم ارتكاب هذا النوع من الجرائم . كذلك فإن هؤلاء الجناة يتميزون بالذكاء، الذي يستعين بالحاسب الآلي في السرقة أو في النصب أو في إتلاف المعلومات لا بد أن يتميز بمستوى مرتفع من الذكاء لكي يستطيع مواجهة العقبات التي قد تواجهه اثناء ارتكابه مثل هذه الجرائم أيضا فإن المجرم المعلوماتي لا يتميز بالعنف، فهو لا يلجأ إلى استخدام العنف في ارتكاب جرائمه ، بحسبان أن معظم الجرائم التي ترتكب منه قد تقع على الأموال، ويستخدم في ارتكابها الذكاء الحاد الذي يتميز به.
ومما يزيد من خطورة هؤلاء المجرمين أنهم قد يرتكبون جرائمهم ويفلتون من العقاب، فخبرتهم وتخصصاتهم الفنية تساعدهم في إخفاء جرائمهم ومن ثم يتعذر الوصول إليهم، فهم يستخدمون الإمكانيات والأساليب المعلوماتية، ليس فقط من اجل ارتكاب افعال الغش والتزوير والتزييف، بل وللتهرب من كشف أمرهم أو على الاقل إعاقة الملاحقة القضائية التي قد تتم قبلهم ولا شك في أن هذه الطبيعة الخاصة التي تتميز بها تلك الفئة التي ترتكب جرائم الاعتداء على العمليات الإلكترونية تنعكس على إثبات هذه الجرائم مما يزيد من صعوبته، ومن ثم تعذر جمع الدليل الذي يكفي للإدانة عنها
. أن الجرائم التي تقع على العمليات الإلكترونية باستخدام الوسائل الإلكترونية تحتاج إلى تأهيل فني وعلمي خاص يجب توافره في جميع الأشخاص الذين تتصل أيديهم بهذه الجرائم بدء من مرحلة التحري وجمع الاستدلالات ومرورا بمرحلة التحقيق الابتدائي وانتهاء بمرحلة المحاكمة. فإذا كان هذا النوع من الجرائم يتميز بطبيعة فنية معقدة وقد لا يخلف وراءه آثار تكشف عنه، فإنه يحتاج لكشفه والوصول إلى مرتكبيه إلى خبرة معينة فيمن يتصلون بهذه الجرائم كرجال الشرطة، وأفراد سلطة الادعاء، وقضاء الحكم. ولذلك فإنه يجب تدريب الضبط القضائي واعضاء التحقيق الابتدائي،
والقضاة الذين تتصل أيديهم بالجرائم التي ترتكب بالوسائل الإلكترونية أو تلك التي تقع على هذه الوسائل، بحيث تتوافر لديهم الإمكانية الفنية التي تمكنهم من القيام بأعمال وظائفهم في مثل هذا النوع من الجرائم . فلا يوجد ادنى شك في أن التقدم العلمي كما أنه يؤثر على النصوص التشريعية بحيث أنها قد تبدو عاجزة عن مواجهة الظواهر الإجرامية المستجدة التي يتسبب فيها التقدم، فإنه قد يؤثر أيضا على عقلية القضاة بحيث يجب عليهم الفصل في المنازعات التي تعرض عليهم والتي قد تزداد في تعقيدها وطابعها الفني يوما بعد يوم بسبب الثورة العلمية التي يشهدها عالم اليوم
فلا مرية أن التقدم الهائل الذي نشهده اليوم بسبب ثورة الاتصالات عن بعد، لا يؤتي أكله إلا إذا تواكب معه تطور في الفكر البشري بحيث يستطيع ان يحافظ على آثاره الإيجابية ويتلافى الآثار السلبية التي قد تترتب عليه، وهذا يتطلب تدريب سلطات التحري وجهات التحقيق والقضاة بحيث تتوافر لديهم القدرة الفنية، التي تمكنهم من القيام بأعمال وظائفهم المختلفة بشأن هذا النوع من الجرائم الذي يرتكب باستخدام الوسائل الإلكترونية المتقدمة ولعلنا نصل من خلال هذا العرض الذي سلط الضوء على الطبيعة الخاصة التي تتميز بها الجرائم التي تتمخض عن الآثار السلبية لثورة الاتصالات عن بعد إلى حقيقة مؤداها:
إن هذه الطبيعة ستكون لها انعكاساتها الواضحة على الإثبات الجنائي لهذه الجرائم وهو ما سنفصله بالبيان في المطلب الثاني المطلب الثاني أثر الطبيعة الخاصة بالجرائم الإلكترونية على إثباتها جنائيا من الحقائق المسلم بها أن التقدم العلمي له تأثيره البالغ على القانون وعلى الواقع الذي يطبق عليه هذا القانون.
ولكي تتحقق الفائدة المرجوة من هذا التقدم، فإن القانون يجب ألا ينفصل عن الواقع الذي يفرزه ويطبق عليه ، بل يجب أن يكون متجاوبا معه ومتطورا بتطوره.
ولا شك في ان التطور الحالي الذي لحق ثورة الاتصالات عن بعد وما افرزته هذه الثورة من وسائل الكترونية متقدمة ومتعددة قد انعكس اثره على الجرائم التي تمخضت عن ذلك بحيث تميزت هذه الجرائم بطبيعة خاصة من حيث الوسائل التي ترتكب بها، ومن حيث المحل الذي تقع عليه ومن حيث الجناة الذين يرتكبونها على النحو سالف الإشارة إليه، بحيث يمكن القول أن الأساس في خطر هذه الجرائم يكمن في أنها في طبيعتها تجمع بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري، مما يجعل إثباتها جنائيا قد يكون في منتهى الصعوبة فالتطور الحالي الذي انعكس اثره على قانون العقوبات،
قد انعكس اثره ايضا على قانون الإجراءات الجنائية، بحيث ان هذا القانون الأخير قد لا يطبق بسبب عجز القانون الأول عن استيعاب الجرائم المستحدثة التي ترتكب بالوسائل الإلكترونية، كما وأن الإثبات الجنائي
وهو احد الموضوعات الهامة لهذا القانون قد تأثر بدوره بالتطور الهائل الذي لحق الأدلة الجنائية بسبب تطور طرق ارتكاب الجريمة، الأمر الذي يتعين معه تغير النظرة إلى طرق الإثبات الجنائي لكي تقترب الحقيقة العلمية في واقعها الحالي من الحقيقة القضائية فإثبات الجرائم التي تقع على العمليات الإلكترونية باستخدام الوسائل الإلكترونية سيتأثر بطبيعة هذه الجرائم، وبالوسائل العلمية التي قد ترتكب بها،
مما قد يؤدي إلى عدم اكتشاف العديد من الجرائم في زمن ارتكابها، أو عدم الوصول إلى الجناة الذين يرتكبون هذه الجرائم، أو تعذر إقامة الدليل اللازم لإثباتها مما يترتب عليه إلحاق الضرر بالأفراد وبالمجتمع.
0 comments:
إرسال تعليق