• اخر الاخبار

    الاثنين، 27 أغسطس 2018

    سعد الساعدي يكتب من العراق عن : البصرة بين عقاب جماعي ، و موت بطيء !



    لم يشهد التاريخ المعاصر ما تشهده مدينة البصرة الان، اذا استثنينا هيروشيما وناكازاكي التي مرّت ذكرى ابادتهما قبل ايام ولم تنسى . البصرة ميناء العراق الوحد ، ومركز خيراته التي لولاها لاصبح العراق في خانة الدول البائسة الفقيرة رغم ان تصنيفه الدولي الان في المراتب الاخيرة من دول الفقر . العراق كان سيتعرض لمجاعات وويلات لولا نفط البصرة التي يمكن ان تعد اغنى مدينة في العالم ، وهي سلة العراق الاقتصادية كما توصف.
    تعرضت في حرب الثمان سنوات لدمار شامل وهي تئن من آلام ضربات المدفعية الأيرانية الثقلية ، وصواريخها العابرة للحدود . مات المئات وجرح الآلاف جراء ذلك.واعيد بناؤها من جديد وسميت مدينة المدن ، لصمودها وبسالة اهلها الذين تشردوا في محافظات شتى اثناء عام ١٩٨٦ وما بعده بسبب الحرب وآهاتها .
    عاد البصريون ليعيدوا الحياة اليهم والى مدينتهم بعد انتهاء الحرب ، ومنهم من هجرها الى الابد وكأنه قرأ المستقبل بعينٍ مبصرة ، وعلم أن لا قائمة ستقوم لمدينته ، فكانت الحرب الثانية وغزو الكويت الذي خلف على البصرة وأهلها مئات الاطنان من اليورانيوم المنضّب الذي القته نفاثات الولايات المتحدة مع صواريخها على قطعات الجيش وجوار النواحي القريبة من ارض المعركة ، فكانت حصة الاسد على البصريين ومدينتهم التي مني اهلها باصابات سرطانية الى اليوم تعانيها بلا خلاص ولا علاج متوفر.
    بعد عام ٢٠٠٣ تحولت البصرة لصراعات داخلية ومعارك عشائرية الى اليوم لم تنهِ بسبب وفرة السلاح الخفيف والثقيل القادم من الخارج ، والمسروق من مخازن اعتدة الجيش العراقي المحلول بقرارات بول بريمر سيئة الصيت ، والسيء ذكره أيضاً لانه أسس لبلاء وشؤمٍ قاتل الى اليوم يعاني منه كل العراقيين .
    وجاءت صولة الفرسان كما اطلق عليها بطلها المغوار وايتمت الاطفال وشردت العوائل ودخل بسببها كثير من الابرياء السجون ، في حين لم نرَ من اي مغوارٍ قديم ، او جديد انه حاسب مفسداً او سارقاً او ظالماً .
    كلّ ذلك والبصرة باهاليها تعاني من موت بطيء، وخراب يزداد يوماً بعد آخر ، وكلّ من اتاها حاكماً ومسؤولاً رفع أبهى شعارات الحضارة والاعمار ، وتكلم باقدس الكلمات الالهية ليظهر أخير على حقيقته ويُعرف بانه من اكبر السراق ؛ فينهب مليارات من ميزانيات البصرة الاعمارية ويهرب من حيث أتى لدولته الاجنبية الحاضنة بلا رقيب ولا حسيب .
    والبصرة مازالت تحت العقاب ، لتاتيها جولة التراخيص النفطية التي قدها مايسمى بأحد علماء الذرة ، وتاخذ كل شركات الدنيا حقول نفط البصرة وتبدأ تنفث ابخرتها ودخانها السام من الحقول النفطية المشتعلة ، وبعد ان كانت تسمى الشعلة الازلية سابقاً تحوّل اسمها الى شعلة الموت البطيء التي حاصر البصرة من الشمال والشرق والغرب وكانها بيوت عنكبوتية من دخان مميت ، وسماء سوداء ، وحتى النخيل لم يسلم من اذاها وعقوبتها وكأنه الشر المطبق على المدينة حدّ الموت . فنقص عدد النخيل المثمر من اكثر من ثلاثين مليون نخلة الى ما يقارب المليون أو قل كثيراً ، واصبح العراق مستورداً للتمور بعد ان كان المصدّر الاول في العالم ، والحامل التي تشتهي التمر البرحي اثناء فترة وِحامِها ، لن تجده الا ان يذهب احدٌ من ذويها للاسواق الحرة في مدينة عبادان الايرانية التي فتحت أبوابها ليل نهار لاهل البصرة بلا سَمة دخول او ضريبة ، لتبيعهم بابخس الاثمان ما لذّ وطاب الذي لا تعرف مصادره ، من اجل تعطيل كلّ شيء في البصرة والحصول على عملة صعبة بطرق سهلة .
    لم يتوقف زحف الموت البطيء على البصريين وارضهم وسمائهم ، بل سممّ مياههم بمخلفات كيميائية كنفايات تلقيها الانهر الايرانية في شطهم العريق – شط العرب - الذي طالما تغنى به الشعراء ، والى الان يحرسه السياب المتعب ، والمريض بادهى انواع المرض لذي حمله اليه شط العرب العليل بعلل سببها جفاف الانهر القادمة اليه سابقاً من الشرق بماء عذب ، لكنها اليوم اتت بماء الموت الذي – إن بقى هكذا – سيهلك الجماد قبل الانسان والحيوان.
    لم اصدق ما قيل عن ملوحة ماء البصرة هذه الايام ، وقلت لعلها رسائل اعلامية مغرضة ، نظراً لمماحكات وصراعات الاحزاب الحاكمة ، فقررت قطع مسافة اكثر من الف كيلو متر ذهابا وايابا الى البصرة قبل ايام ، وفي هذا الحر الملتهب . رايت نار الابار النفطية جعلت الليل نهارا وهي تضيء من كثرة ما فتح من آبار نفطية بالمئات بعد ان كان القادم للبصرة لا يرى سوى ثلاثة مشاعل نارية ، واحدة من بئر الرميلة الشمالي ، والاخرى بعيدة جدا بالكاد ترى من بئر الرميلة الجنوبي ، وما ان تقترب من المدينة حتى تطالعك شعلة ثالثة وهي شعلة بئر حقل الشعيبة النفطي..
    ذهبت لأتأكد من ملوحة الماء لا من عدد الآبار النفطية ، لان امرها محسوم ، ومعروفٌ سبيل ذهاب دولاراتها ، وجدت الماء ملحاً أجاجاً يقتل شاربيه ، ويسقم طاعميه ، غسلت وجهي ببعضٍ منه واذا بعينيّ الى الصباح تؤلماني ، بقيت هناك ليوم ونصف اليوم ، لم يعرف جسدي ماهو الماء ، ولم اغتسل لحين عودتي للبيت ، سوى وجهي ويديّ من عرف لون الماء وطعمه والحرقة ما تزال في العينين .
    وصفَ لي صديق طبيعة الماء ، واراني اناءً وقد تيبست عليه قطعة سميكة من الملح الأسمر ، وليس الابيض وقال :
    انا يومياً اضع في ربع هذا الاناء كمية من الماء ، واذا هي بعد ساعات تتحول الى ملح متحجر قريب لونه من السواد . تكلّفتُ مشقةً واموالاً كي اتأكد ، لاني كنت بين الشكّ واليقين من حقيقة ماء البصرة، ولا اكثر من اليقين برهناً ودليلاً حصل لديّ .
    آلاف الاطفال تسمموا بسبب الماء المخلوط بمخلفات ربما نووية كلها مواد مسرطنة ، والتصريح الصحي الرسمي يؤكد بانه لا يوجد اكثر من ١٥٠٠ طفل مصاب بحالات اسهال وتسمم ، وكأنّ هذا الرقم بالمقلوب اي كانه ١٥ طفلاً مصاباً ، وإن كان كذلك ، فهذا يعني الاهمال ولا خدمات هناك تذكر .
    اما منظمة حقوق الانسان فقد اكدت كل الحالات والاصابات وما يعانيه اهالي البصرة ، ودَعتْهم لرفع شكاوى على الوزارات المعنية والتي بسببها تقترب الحالة الى كارثة بشرية بعد اصبحت كارثة بيئية شديدة الوطأة .
    هذه هي البصرة ام الخيرات ، وهذه هي الهدايا التي تقدم اليها كل يوم من موت وتسمم واسهال وامراض جلدية واختناق آلاف المصابين بالربو والحساسية ، ففي يوم واحد امتلأت كل مستشفيات البصرة الحكومية والاهلية الخاصة بالمرضى بسبب موجة ترابية محملة بابخرة الغازات النفطية حيث وصل العدد الى اكثر من اربعة آلاف مريض تزاحموا على شهقةٍ ونَفَسٍ من اوكسجين نقي من اجل الحياة ..
    الكل ينتظر الحلّ من الحكومة ، والحكومة تنتظر تشكيل الكتلة الاكبر، والكتلة الاكبر كل ساعة متغيرة بين موافقة ومعارضة ، وتسويات وتنازلات ، والموت يقترب كل ساعة من البصرة واهلها ، وكإننا امام احجية لا حلّ لها ابداً ..
    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: سعد الساعدي يكتب من العراق عن : البصرة بين عقاب جماعي ، و موت بطيء ! Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top