رغم أن التكنولوجيا سهلت حياتنا، يأتينا النور بالضغط على زر في الحيطة، ومياه باردة من التلاجة من غير لوح ثلج، وعربيات تنقلنا بدلا من الحمير، وتليفزيون شغال 24 ساعة وفيس بوك رابطنا بالدنيا كلها.
صحيح كل شيء بقى سهل ومتاح على حس التكنولوجيا، لكن فقدنا طعم وبراءة كل شيء...لهذا تأتي مناسبة كبيرة وتذهب بشكل باهت وكأنها لم تأتي.
لا يشعر بهذا الشعور إلا من عاش الزمن الجميل، زمن اللمة وجلسات السمر، ولمبة الجاز بنورها الخافت، والسكون الساحر الذي يدعو للتفكر، وجلسات السمر بين أفراد الأسرة، التي غرست فينا كافة القيم التي نحملها في صدورنا وفي معاملاتنا الآن...الخ.
العيد...وما أدراك ما العيد...ده حكاية لوحده...فالعيد والفرحة لم تكن يوم العيد نفسه، ولكن الاحتفال كان يبدأ قبل العيد بأسبوع على الأقل...
الكل في حالة استنفار...السيدات يرتبن مع بعضهن ترتيبات الكعك والبسكوت....والرجال مابين حلاق وترزي. ..الخ.
اليوم الأول لمراسم كعك العيد مقدس، في بيت الحاجة كبيرة العيلة، فيتجمع الجميع نساء وأطفال العائلة في بيت الكبيرة، لتبدأ مراسم الاحتفال الحقيقي بالعيد...
تتولى الفتيات اليافعات أعمال تجهيز العجين للكعك في "اللقان" وهو عبارة عن قدر كبير مصنوع من الفخار وليس من المعدن، فيعجن فيه للكعك والبسكوت.
بعد العجين...توضع الطبلية أو الطبالي، ويلتف جميع أفراد الأسرة حولها، ثم يتم تكوير العجين، ثم فرده وتشكيله في المناقيش، المصنوعة من الالومنيوم على أشكال مختلفة....والتي تحتفظ بها كبيرة العيلة من العيد للعيد.
يجلس على رأس هذه الجلسة التاريخية كبيرة العائلة، ويبدأ الرغي والضحك والتنكيت، وطبعا الأمر لا يسلم من سيرة فلان وعلان وان الله غفور رحيم....المهم...أن الوقت يمضي كالبرق...النساء والشباب لهم دور، والأطفال لهم دور وهو إدارة ولف ماكينة البسكوت...والكل في مرح وسعادة.
وهكذا...طوال الاسبوع...اليوم عند أم أحمد وغدا عند أم محمد بنفس تشكيلة الفريق...ثم في صباح يوم الوقفة...تتبادل النساء والجيران إنتاج الكعك والبسكوت...وكل واحدة منهن تعتقد أنها اخترعت الذرة، واثقة تماما من أنها أنتجت الأفضل وخاصة أمام زوجها...وأحيانا كنا ناكله استخسار أو خوف.الخ.
ليلة وقفة العيد كانت ليلة مزدحمة جدا، ما بين طابور عند حلاق القرية، الذي كان يحلق لشباب ورجال لأسرة كاملة مقابل كيلة قمح أو أرز (مقايضة بلغة الاقتصاد)،
وما بين ترزي، يشعرك بأنه رجل الموضة الأول، وأنه حزين وقلق على المهنة في حال رحيله...وكنا نصدق هذا...والحقيقة أن ملابسنا كانت مابين كم طويل وآخر قصير...الخ...المهم.
ثم تنتهي رحلة ليلة الوقفة بحماية، أي دش العيد...قبل أن يأتي صباح العيد لابد أن يكون كل أفراد الاسرة قد نعموا بحماية العيد.
يستيقظ الجميع، كبيرا وصغيرا، قبل أذان الفجر، لنصلي الفجر، ثم نتبارى لارتداء هدوم العيد، وتشعرنا الأمهات بأن ما نرتديه هو الأفضل والأجود...وهكذا كنا نشعر...رغم ان اغلب ملابسنا في الطفولة كانت من قماش الدمور أو الكاستور...ولكننا عرفنا طعم السعادة في أحضان تلك البساطة.
بعد صلاة العيد، ننطلق بعد تقبيل يد الوالد والحصول على العيدية، لزيارة الأقارب والحصول على العيدية منهم....ثم التجمع في مكان المراجيح المصنوعة من الخشب ومن يفترشون الأرض لبيع لعب بلاستيكية بسيطة. أو ركوب العجل والدراجات المكسرة، مع رهن شباشبنا البلاستيكيه ليضمن عودتنا دون تأخير...!!
أنا شخصيا، وفي أكثر من عيد أتذكر وأنا طفل، أنني كنت أجهز قبل العيد بعض الأشياء من لعب وغيرها لبيعها في يوم العيد، وكنت اكسب والحمد لله (غاوي اقتصاد)...القاسم المشترك في كل هذا هو السعادة الحقيقية.
وفي الختام، أعتقد أننا رغم شظف العيش وضيق الحال كنا أسعد من أبنائنا، المحاطون بالتكنولوجيا من كل جانب...ربما يستهين أبناؤنا بتلك البساطة التي عشناها...لذا يوم العيد بالنسبة لهم مثل أي يوم آخر...فكل شيء معلب وجاهز، من كعك وبسكوت وحتى الضحكة، جاهزة في فيديو على اليوتيوب!!!
أما نحن فقد عرفنا وعشنا الحب النقي الحقيقي والجمال الطبيعي والسعادة الحقيقية، والأهم البراءة التي لا تعرف الزيف أو الكذب أو الخداع.....كل عام وأنتم بالف خير وسعادة.
0 comments:
إرسال تعليق