كان الشعر في العصر الجاهلي أداة للتعبير عن التجارب الإنسانية المختلفة , و فسحة يجول فيها الشاعر بكل جوارحه , ملامسا بعض الموضوعات الحساسة , مستعيرا كل الألفاظ التي من شأنها أن توصل رسالته إلى الطرف المقصود .
فتغنى
الشاعر العربي بالمحبوبة , ووصف حبه لها وصفا دقيقا , و تغزل بها حتى وصل في ذلك
إلى أقصى درجات المجون في بعض أشعاره .
إلى أن
تهذب الشعر بمجيء الإسلام , و مع عصر النهضة ظهر جنس أدبي جديد وفد من الغرب , و
شهد بذلك الأدب العربي ميلاد الرواية , فتبناها العرب و اختاروها جنسا أدبيا
يستوعب كل الموضوعات و التجارب الإنسانية .
و مع
الحداثة , خلع الروائي العربي عباءة العمومي في معالجته للواقع , و دخلت الرواية
العربية مرحلة أخرى عرفت فيها أنماطا جديدة من الكتابات تختلف عن كتابات المرحلة الكلاسيكية .
عمل
الروائي العربي على بناء آفاق معرفية تتطلع إلى المستقبل , و ترفض التقليد في
صورته الكلاسيكية , التي تتعارض مع روح العصر , إيمانا منه ' الروائي ' أن الإبداع يجب أن ينطلق من المخالف
للسائد و المستهلك .
فما هي
أبرز الموضوعات المطروحة في الرواية العربية الحديثة و المعاصرة ؟
و هل تجد هذه الموضوعات إقبالا من طرف القراء ؟
و لماذا
يقتحم الروائي العربي اليوم الموضوعات الساخنة . هل لضرورة فنية أم لغاية ترويجية
؟
كان للمد الحداثي الغربي
أثره الواضح على الكتابة السردية العربية
, حيث انتقل الروائي العربي من النمط الروائي الكلاسيكي الذي يلتزم
بالواقعية المحافظة, إلى النمط الأدبي
الحديث الذي يجنح المخالف و غير المألوف .
امتزج
الخيالي بالواقعي ضمن المشروع الروائي التجريبي , وأصبح التجريب الروائي ضروريا , و
عاد الروائي العربي من جديد إلى الكتابة في مختلف الموضوعات التي كانت متداولة
سابقا , أي في المرحلة الكلاسيكية كالتراث التاريخي والديني و الأسطوري ... , و
توظيفها توظيفا حداثيا .
و
ظل الروائي العربي
بعيدا عن الكتابة في الموضوعات
المحرمة في العرف الأدبي ,على اعتبار أنها
تخدش الذائقة الأدبية لدى القاريء , كالمحظورات الأخلاقية .إضافة إلى المحظورات
السياسية و الدينية . ينجنب التطرق
إليها , لخلفيات تتعدد أسبابها و
مرجعياتها .
غير أن
هناك من الكتاب العرب من أحدث ثورة في الكتابة الروائية , بالتمرد على العرف
الأدبي و الإجتماعي و حتى الديني , باختراق التابوهات الممنوعة . نجد الروائي
القدير رشيد بوجدرة على سبيل المثال لا
الحصر , يعترف أنه كان أكثر الروائيين جرأة بادخال الجنس للرواية الجزائرية بعمق و تفصيل .
و على
نفس الوتيرة سار على نحوه عديد من الروائيين
العرب . حيث اعتنقوا
المذهب نفسه , فوظفوا المحظور الجنسي في كتاباتهم الإبداعية . لعل من
أبرزهم الروائي الجزائري أمين الزاوي , الذي راهن على موضوع الجنس في أعماله
الروائية .
فكبف
كان توظيف الزاوي للمحظور الجنسي في أدبه ؟ و كيف تمّ التعامل معه ؟
تجاوز
الروائي أمين الزاوي السائد في الثقافة العربية في أدبه , باختراقه تابو الجنس
الذي كان ولايزال من الموضوعات الحساسة في
الأدب العربي , لا يقترب منه إلا
من امتلك الجرأة الأدبية في الكتابة .
فإذا
كانت ممارسة الجنس تتم في الخفاء لا في العلن , فالزاوي عمل على كشف هذه الممارسة
في كتاباته , و تعرية ما يحدث في عوالم الجنس الذي ينتمي إلى الثقافة المكبوتة حسب
التعريف الفرويدي . مزعما أن ذلك يعززمن
العملية الإبداعية , و يحقق التنوع الموضوعاتي الذي يأمله القاريء .
وعلى اعتبار أن الجنس أيضا موجود في حياة الإنسان
يمارسه بصورة تخضع للسياق الديني و الإجتماعي و الثقافي الذي ينتمي إليه الفرد .
و إذا
كان نجيب محفوظ و يوسف إدريس و غيرهما وظفا الجنس في أدبهم توظيفا دلاليا فالروائي
أمين الزاوي وظفه في صورته المباشرة دون تحرج
من ذلك .
من بين
أعمال الروائي أمين الزاوي نتناول رواية
الساق فوق الساق نموذجا تخطى فيها المحظور الأخلاقي بالوقوف على ما يحدث في
عالم الجنس من تجاوزات سكتت عنها الثقافة
العربية .
يحتفي
الروائي أمين الزاوي في الساق فوق الساق ,
مثلما عُرف في أغلب رواياته بالجسد باعتباره
كما يقول سعيد بكراد بؤرة للتجلي العملي و الغريزي و الوظيفي و الثقافي , يعيش
بشكل دائم تحت التهديد المستمر للإستعمالات . فالجسد أداة للإثارة ووسيلة لتحقيق
المتعة الغريزية .
الشخصية المحورية في رواية الساق فوق الساق تدعى ميمونة , أطلق عليها الروائي عدة أسماء ' زليخا اليهودية . فاطمة الزهراء . ميمونة ' . عُرفت ميمونة بلسانها السليط , و تبرجها حدّ السفور .
زوجها والدها دون مشورتها في سن مبكرة . لا تشعر نحو زوجها بأي عاطفة ' كانت ترى
فيه منذ الليلة الأولى الرجل الذي تنتهي علاقتها به مباشرة بعد مفارقته فراش الجنس
... كان إله السرير , فقد كان غزير الشهية الجنسية ' كانت ميمونة بالنسبة لزوجها مجرد جسد يحقق من
ورائه متعته الجنسية لا أكثر .
عاشت
ميمونة في قرية قصر المورو الواقعة ضواحي تلمسان . كانت تمارس حريتها في
البيت وفي الشارع ضاربة عرض الحائط بقواعد العرف الإجتماعي ' بخلخالها الفضي . برنينه
المثير و هو يرتجف حول قدميها , و ساقها المكشوف قليلا بإغراء أنثوي '.
لم
تمتثل ميمونة يوما لأوامر العائلة , ' الأب و الإخوة ' . اتخذت بعد وفاة زوجها من تحت شجرة التين
الموجودة أمام بيت والدها مكانا لإغراء الرجال , و إثارة غرائزهم برنة خلخالها , التي
تصل إلى الطريق فينتبه المارة , فيجيئون عندها جماعات وفرادى .
' عياش '
الملقب بـ ' عويشة ' كان يرتدي عباءة نسوية , و السبب أن أحد العساكر
الفرنسيين خطف زوجته ,و اعترافا منه بفقدان رجولته , و أمام هذه الحادثة عدَّ نفسه
ضمن خانة الإناث يقلدهن في كل شيء و يلبس لباسهن
.
تزوجت
ميمونة من عياش .وفي أول ليلة من زواجهما
اختفى عياش حيث لا رجعة . و دخلت ميمونة في حالة جنون متعمد . تخلع عنها ملابسها و
تسيح في أرض الله , متخذة من النهر المحاذي لقريتها كوثرا
تطهر فيه جسدها من الخطايا والذنوب .
عرفت
ميمونة البغاء لفظا وممارسة , و أغرت عشرات الرجال. أحبها ابن أخيها ' بوطشل
العريان سمي بهذا الاسم نسبة الى الحلزون العريان
' إلى درجة العشق .و قد وصف
الروائي بوطشل بعاشق عمته .
في
هذا المشهد يقفز الروائي
على القيم التي جاءت بها الأديان السماوية و الأعراف . فبوطشل متيم عاشق
لعمته يقول ' أحب عمتي ميمونة أعشقها , أريدها زوجة حين أصير
رجلا ' .
و العشق
شعور يقتحم قلب الشاب ' الرجل ' فيحب امرأة من غير محارمه . فكيف لـ ' بوطشل ' أن
يعشق عمته , وهو الناضج الذي يبلغ الرابعة عشرة من العمر كما جاء في الرواية ؟ . العشق كما هو معروف لا يحدث إلا بين رجل و امراة
اجنبيين . و قد عرفته القواميس اللغوية بأنه الغرام . يقال شاب عاشق أو ولهان يحب امرأة غير زوجته ,
يمكن له أن يتزوجها .
الشذوذ
السردي الذي عمد الروائي على الإشتغال
عليه يتقاطع فيه مع عقدة أوديب , تمثل في الشبق الأوديبي الذي تجسد في اللازميتين '
بوطشل عاشق عمته ' و 'أنا عاشق عمتي ' .
سكينة, شخصية أخرى نسوية جاءت في الرواية . تزوجها
ادريس قبل أن يهاجرخلف الضفة و يعيش حياة
عبثية مترددا على على الحانات ودور الدعارة,
يشتغل قناصا يغوي زوجات و عشيقات المسؤولين العرب , حتى يقعن في شباكه . تكبره
سكينة بثمانية أعوام ' من ليلة وصولها إلى السرير تقمصت صورة الأم . تطلب منه ما
يجب القيام به وما لايجب , من طريقة و ممارسة الجنس إلى ساعة سقي الماء '.
في الساق فوق الساق يخترق الزاوي الخصوصيات الشخصية للعائلات , و
يقتحم جدران الغرف الزوجية يكشف ما يقع خلفها ,ليخلق منها موضوعا روائيا , يؤكد
على جرأته في توظيف المحظور الأخلاقي ' الجنس
' في الرواية بصورة مباشرة , و أيضا تمرّده على المفاهيم و القيم التي تقوم عليها الثقافة
العربية .
اليامنة
أو كوليت شخصية
من شخصيات الرواية . سارت هي
الأخرى في طريق الرذيلة , و عرفت أصنافاعدة من الرجال . كانت تعيش في قرية قصر المورو
. و بعد أن حملت بطريقة غير شرعية سافرت إلى المغرب و منها
إلى بلاد الغرب . وظفت جسدها سلعة تسترزق من ورائه . فالجسد تعده اليامنة
نعمة وإثارة تعيش منه . لا بد من الإعتناء به . تختزل الكيان الأنثوي في مفهوم
واحد هو الجسد الحامل للذة , و تلغي الوظيفة السامية للمرأة 'الأنثى ' في علاقتها
بالرجل ' زوجة وأيضا أما لأولاد يحملون اسمها ' .
ثلاثة
أشكال للمرأة قدمها الزاوي في الرواية , جسدت ثلاثة مفاهيم لا تخرج عن عن القاموس
الجنسي ' المتعة , العشق , الجسد '. نجد
المرأة بؤرة لتحقيق المتعة و اللذة للرجل ' الذكر ' , كما تمثّل
رمزا للعشق الذي عدته بعض الثقافات محظورا أخلاقيا . و المرأة كجسد (سلعة )
للإسترزاق .
تعد
رواية الساق فوق الساق ضمن كتابة التعرية , باشتغالها على تقنية المحظور الجنسي
بشكله المباشر , الذي أصبح ضرورة فنية و ترويجية , ضمن مغامرة الكتابة السردية , تستلزم
الخروج عن القيم الأدبية السائدة , و التخلص من الضغوطات الخارجية ' الأعراف
الاجتماعية ' التي باتت تعرقل العملية
الإبداعية .
فهل هذه الكتابات
التي تتطرق لمثل هذه الموضوعات ' المحظورات ' , تساهم في تطور المنظومة الثقافية الخاصة
بالأبداع الروائي , أم تؤدي إلى تقهقره و تراجع مستوى الكتابة الروائية العربية ؟
0 comments:
إرسال تعليق