كان الأستاذ هيكل يتجنب الكتابة عن السودان فى أغلب الأحوال ، وقد سألوه مرة عن السبب ، وكان جوابه الحذر ملفتا بمعانيه ، التى تصف الوضع السودانى بأنه غابة من التشابكات والخيوط المتداخلة ، ومن دون أن يغفل عن حساسية الإخوة السودانيين المفرطة ، وبالذات إن كان الكاتب مصريا .
وقد بدت هذه الحساسية مفهومة ، وإن كان مشكوكا فى صفاء نوايا ووعى دعاتها المثيرين للريب ، فقد جمع مصر
والسودان تاريخ معقد ، دفع قطاعات سودانية إلى ترديد نغمة مرذولة عما تسميه "الاستعمار
المصرى" ، فى إشارة إلى وقائع جرت منذ قرنين وأكثر ، حين اتجهت ملكية محمد
على وخلفاؤه فى مصر إلى التمدد جنوبا ، وبدوافع بينها استكشاف والحفاظ على أمن
منابع ومجرى النيل ، ورسم خرائط السودان بحدوده الأحدث ، ولم تدم روح التوسع
المصرى أغلب الأوقات الملكية ، فقد وقع السودان كما مصر فريسة للاحتلال البريطانى
، وابتدعت إدارة الاحتلال ما أسمته "الحكم الثنائى المصرى البريطانى" للسودان
، الذى كان موضع هيمنة مطلقة للبريطانيين ، ومن دون أن يكون للطرف المصرى دور يعتد
به ، فقد كان حاكم السودان تحت الاحتلال بريطانيا دائما ، ولم تقم فى مصر والسودان
حكومة واحدة أبدا تحت الاحتلال ، وإلى أن تحولت السيرة إلى مقام هزلى تماما ، كان "فاروق"
آخر ملوك العائلة العلوية ، يحمل فيه صفة "ملك مصر والسودان" ، بينما لم
تكن لفاروق سلطة تذكر فى مصر ذاتها ، وكان "المندوب السامى البريطانى" سيد
القرار فى القاهرة ، وإلى أن قامت "ثورة الضباط الأحرار" فى 23 يوليو 1952
، وأبرمت اتفاقية جلاء الاحتلال البريطانى عام 1954 ، بعد احتلال دام 72 سنة ،
وانحاز جمال عبد الناصر لحق السودان فى تقرير مصيره ، وهو ما حدث باستفتاء شعبى
سودانى أواخر عام 1955 ، جرى بعده إعلان استقلال السودان فى الأول من يناير 1956 ،
وقرر عبد الناصر وقتها منح كل الأسلحة المصرية المتواجدة فى السودان كهدية لجيش
الأشقاء ، وصار عبد الناصر زعيما شعبيا أعظم فى مصر والسودان والأمة العربية كلها
فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وجرى استقباله على نحو أسطورى فى قمة "لاءات
الخرطوم" عقب هزيمة 1967 .
ومن وقت استقلاله ، وتعاقب أنظمة الحكم عليه ، لم ينعم السودان أبدا بصيغة
حكم مستقر راسخ ، وتوالت فصول الدورة الخبيثة ، من حكم مدنى إلى حكم عسكرى يلحقه ،
وتطول فتراته بالتدريج ، من حكم العسكريين لست سنوات بعد انقلاب إبراهيم عبود ، ثم
إلى 16 سنة زمن انقلاب جعفر النميرى ، ثم إلى حكم الثلاثين سنة مع انقلاب عمر
البشير المتحالف مع جماعة الإخوان ، وبمجموع فترات حكم عسكرى ، وصلت إلى 52 سنة ،
هى أغلب وقت السودان "المستقل" من 65 سنة مضت ، بدا فيها التناقض ظاهرا
، بين حيوية الشعب السودانى الفياضة فى انتفاضات وثورات 1964 و 1985 و2018 و2019 ،
وبين حصاد المتاهة السودانية ، التى توالت فيها حروب أهلية ، قتلت وشردت الملايين
، وأدت لانفصال جنوب السودان عام 2011 ، ثم اشتعال حروب انفصال مضافة فى شرق وغرب
وجنوب ما تبقى من السودان ، وإلى أن جرى خلع حكم البشير ، وعقد اتفاقات "جوبا"
للسلام فيما بعد ، التى لم تلتحق بها حتى اليوم ، حركات تمرد مسلحة فى الغرب
والجنوب ، إضافة لتفاقم نزعات الانفصال فى "بورسودان" والشرق ، ودخول
أوضاع الخرطوم إلى متاهة عسكرية مدنية ، لا يبدو فيها من ختام سلس لفترة حكم
انتقالى ، كان متفقا عليها بعد نهاية ديكتاتورية البشير ، وصياغة "الوثيقة
الدستورية" فى أغسطس 2019 ، والاتفاق على سلطة مزدوجة عسكرية ـ مدنية ، جعلت
قائد الجيش "عبد الفتاح البرهان" رئيسا لما أسمى "المجلس السيادى"
، وكان "د.عبد الله حمدوك" رئيسا لحكومة مدنية ، جرى تعديلها مرات ،
وإشراك ممثلين لأحزاب من "قوى الحرية والتغيير" عنوان الثورة ، ودون أن
تتحسن الأوضاع الاقتصادية ، برغم نجاح "حمدوك" فى كسب تعاطف أمريكى
وأوروبى ، كان سندا لشخصه بعد إقالته بقرار "البرهان" فى 25 أكتوبر 2021
، ثم عودة "حمدوك" باتفاق مع "البرهان" فى 21 نوفمبر اللاحق ،
وإخفاقه فى التفاهم مع الأطراف السياسية المتناحرة ، وعجزه عن تأليف حكومة كفاءات
مستقلة على مدى قارب الشهرين ، ثم لجوئه أخيرا إلى استقالة نهائية ، أشهر فيها
يأسه من فرص نجاح حوار الأطراف المدنية
ذاتها ، وإن تخلص مؤقتا من صداع اتهامه بخيانة الثورة ، وعقد صفقة مع انقلاب
العسكريين والجنرال "البرهان" ، فى حين تواصل تدفق عشرات آلاف
المتظاهرين إلى شوارع العاصمة المثلثة ، وبذات الحيوية الفياضة المشهورة عن الشبان
والشابات فى السودان ، وشجاعة التصدى للقمع المتعاقب ، برغم سقوط مئات الشهداء
والشهيدات فى رحلة الثورة الأخيرة ، والتصميم على إسقاط سلطة البرهان والعسكريين ،
وترك الساحة كلها لحكم مدنى خالص ، تبدو عناوينه مجهولة غامضة حتى للمتظاهرين
والمتظاهرات ، بينما يواصل "البرهان" ومجلسه مشاوير البحث عن رئيس وزراء
مدنى يخلف "حمدوك" ، وسط مخاوف أغلب المرشحين من المجازفة بالموافقة ،
فشوارع الخرطوم لا تهدأ ، وسيول الغضب
الجارف لا تتوقف عن التجريف ، و"قوى الحرية والتغيير" تتواصل انشقاقاتها
، ومشاهد الاحتراب القبلى تخرج عن السيطرة فى "دارفور" و"غرب
كردفان" ، وحركات "عبد الواحد نور" و"عبد العزيز الحلو" و"جوزيف
توكا" لا تزال على تمردها المسلح فى
الجنوب والغرب ، و"قبائل البجا"
بالشرق تهدد بالانفصال وترك وحدة السودان ، والأوضاع الاقتصادية تتابع
تدهورها المأساوى وسقوطها الحر ، والشارع الساخط لا يريد الذهاب إلى انتخابات
مبكرة ، تفرز حكما مدنيا كاملا ، وقادة الجيش يحذرون من انزلاق إلى فوضى شاملة ،
وأجهزة المخابرات الدولية والإقليمية تعيث خرابا وتمويلا وفسادا فى الخلاء
السودانى الموحش الخطر ، وإملاءات الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم تجرى على الهواء
مباشرة .
والمحصلة بالجملة ، أن دراما السودان الراهنة تجاوزت من شهور حدود الصدام
بين عسكريين ومدنيين ، وجدوى المفاضلة أوالمفاصلة بين حكم عسكرى وحكم مدنى ، بل
وصيغ حكم السودان كلها ، وصار مصير السودان نفسه على المحك ، وربما يكون ضغط
الفترة الانتقالية التى طالت بأكثر مما ينبغى ، وتراكمت خلافاتها على نحو عدمى
متسلسل ، ولا تبدو لها من نهاية مأمونة ، بغير الإعداد لانتخابات عامة متعجلة ، قد
تسبق موعدها المقرر أواسط عام 2023 ، وتفرز رئيسا منتخبا وحكومة مدنية منتخبة ،
وهذا هو الاختيار المعلن للجيش وقائده "البرهان" ، الذى تعهد باعتزال
الجيش والسياسة ، بعد إجراء الانتخابات وتنصيب الحكم المدنى الجديد ، لكن المعضلة
المرئية ، أن هذه "الوصفة" التى تبدو منطقية فى ظاهرها ، لا تبدو مقنعة
ولا مقبولة من جماعات الشارع الغاضب ، خصوصا فى "تجمع المهنيين" و"لجان
المقاومة" ، وأطراف جناح "المجلس المركزى" للحرية والتغيير ، وكلها
جماعات لا ينكر أثرها ودورها فى تحريك الشارع المتظاهر ، لكن أوزانها السياسية
الانتخابية غاية فى الضعف ، ربما باستثناء أحزاب تقليدية قديمة كالحزب "الاتحادى"
و"حزب الأمة" وتفرعاتهما ، قد تجد موطأ قدم فى انتخابات قريبة تجرى ،
وتخشى عودة سيطرة "الكيزان" من جماعة الإخوان وأخواتها ، ومن تنامى نفوذ
جماعات وأحزاب مستجدة قريبة عموما من "البرهان" ودوائر الجيش والقوى
الأمنية ، إضافة لأدوار انتخابية منظورة لحركات اتفاق سلام "جوبا" وغيرها
فى دارفور والجنوب والشرق ، وكلها مخاوف تبدو مفهومة ، لكن التوقف عندها ، لا يعنى
سوى الشلل الكامل فى ماكينة الحكم بالسودان ، وترك الفراغ السياسى ليحتله الجيش ،
وهو القوة الوحيدة الأكثر تماسكا فى السودان اليوم ، فقد أدى الشجار السياسى
الحزبى الذى لا يتوقف ، وتوالى موجات التظاهر ، وما يصحبها من عنف ودماء ووقف حال
، إلى ضيق محتبس فى صدور أغلبية السودانيين الصامتة ، التى تعانى بؤس "المعايش"
وإغلاق الاقتصاد والغلاء وانسداد سبل الرزق ، والنفور من سيرة السياسة ودعاوى
الأحزاب جميعا ، وتراكم شعور متزايد ، قد يسأم فكرة الثورة نفسها ، بالذات مع تحول
قطاع من الثوريين إلى سلوك فوضوى ، يتحدث عن "مدنية كاملة" ، بدون مقدرة
على تشخيصها ، أو تقديم قيادات جاذبة جالبة لقناعة الرأى العام السودانى ، وهو ما قد يعيد "الدورة
الخبيثة" لدولاب العمل ، ويفتح الطرق سالكا لانقلاب عسكرى كامل ، لا يبدو من
بديل جاهز لتجنبه ، فى بلد عظيم الموارد الطبيعية والبشرية ، لكنه يفتقر إلى جهاز
دولة كفء قادر ، ومؤهل لتحمل صدمات وتقلبات السياسة ، وإدارة حياة طبيعية مع كل
هذا الاضطراب ، وقد بدا ذلك قدرا مفروضا للسودان منذ استقلاله ، نأمل أن ينفك عنه
، وأن تكون مصائر السودان بقدر أحلام وأشواق بنيه الأكثر بسالة عربيا ، وإن لم
يكونوا الأفضل حظا .
0 comments:
إرسال تعليق