في هذه المجموعة قطار احمر الشفاه ، نلاحظ القاص شوقي كريم حسن يهتم اهتماماً واضحاً في الشخصية ، فأنه يركز وغالبا ما يستخدم صوت الراوي الذي يفضح خبايا الشخصية ومنافذ تفكيرها ، تتشظى الاحداث في سردياته ، كذلك نلاحظ مشتركات في ثيمات النصوص وتقارب في مرتكزات السرد على الرغم من اختلاف توظيف اللغة في الدلالات والرموز ، نشاهد القصص تحمل في طياتها ثيمات رئيسية وأن اتخذت أشكالاً وأسماء مختلفة ، تتألف من 22 قصة قصيرة ، يتصدرها مقولة شكسبير عن البوس يوم كان بمقدوره ان يخادع غضب الطاغية وارادته المتعجرفة .
قصة قطار أحمر الشفاه
والتي تصدرت عنوان المجموعة ، العنوان جاذب وملفت يشد القارئ ، قصة متماسكة ، محبوكة بشكل جيد ، تتمحور القصة عن شخصية عواد عنيد سائق القطار الذي ينقل الموتى وهذه مهمته العسكرية ، يقوم بنقل التوابيت وحسب المناطق المدونة على التوابيت ، عالم فنتازي ، أصبح واقعاً كثيفاً ، وكلما يحاول الفكاك من قدره ، الحرب يقابلها الحياة البسيطة التي يعيشها ، اصبحت تجربته حقيقية اكثر من كونها تخييليه وان ما اعتقد ان دافع العالم البريء للحياة البسيطة التي يعيشها ، يشتغل سائق في القطار ، ظل يلعبها الى النهاية لا يستطع الخلاص منها كونه ادم على الحالة ، قطار أحمر الشفاه ، هو مصاص دماء نهم لا يرتوي من امتصاص دم الضحايا ، حاول ان يؤثر على أبنه أن يقوم بعمله بدلاً عنه عندما يتقاعد او يموت ، لكن أبنه رفض ان يسير بطريق والده عواد عنيد ، يحمل افكارا غير افكار ابيه الذي يعتقد بأن أبنه سوف يستلم مهنته لكن الابن ظل غارق في أحلامه بأن يصبح فنان مشهور.
(( بغتة وجدت جسدي محفوفاً بعطور الانتظار وثمة أصوات غريبة ، كان ( عواد عبيد ) يأمرها فتتحرك كيف يشاء، لم أستطع الانتظار ، أغمضت عيني وبدأت أعد أنفاس القطار وهو يعوي خائفاً صوب مجهول جعلني أرمي أوصالي واحدة ، واحدة ، حتى اني لم اكن انا عند المحطة الاخيرة ، كان ( عواد عنيد ) يضحك وهو يأمرني بالنهوض وكنت اتلمس حواف الخشب البارد وثمة صوت ينادي الرقم ...!! فأغدو مرتجفاً وكرنفالاً من التوابيت يتبع خطاي بإيقاع عسكري مدوي بنداءات متوجهة تأتي من قلوب كانت تتجه الى المقابر المسورة للمدن التي لم تعد مأهولة بغير قطار الموتى وطوابير المنتظرين !!))ص 216
ضمن القراءة النقدية الانتاجية الفاعلة لقصة قطار احمر الشفاه ، نرى القاص شوقي كريم حسن دون تفاصيل المكان ضمن الزمن السردي فقد برع في رصد ادق التفاصيل المكانية والشخصانية والنفسية وجعل للوصف رمزية دالة على معنى في أطار سياق الحكي فكانت في هذه المجموعة وظيفة الوصف متناغمة مع وظيفة السرد والحوار وغير متناشز معها .
مقطع من قصة النوم في الحجر: (( القدر هو الذي رماني في أحضان امرأة تاج عرشها جنون والم ومباهاة ، أمرأه تحاف ولوج أقبية الرجال المغمورة بالنور ، تنهش بلسان ثرثرتها ، محدقة باستقامة جسدها وأدمة الارض المرتجفة تحتها تعبنا نحن الاثنان يلوي الالم عنقي ، فأدفن رأسي مثل نعامة في ركام هزائمي ، تأمرني بصوت ملعون بالفرح
ــ قف
أمد أصابعي متلمساً عنقي كنت اسمع همسها الاتي من بعيد لسمعها تتحدث عن مديات المباهج ووساوس شياطين الاشتعال بصوت شذاة الشهوة ، تسألت : ــ مالك مثل ذئب فبلة ؟!!)) ص77
لقد أدت المفارقة السردية الى حالة ترقب وتشوق وهي الوظيفة الجمالية وكما يقول الدكتور قاس المقداد #1، لان القاص يقدم لنا من خلالها صفحة جميلة على الملفوظ الوصفي أيضاً ، وان يكون خادماً لنص أطول وبالتالي عليه ان يكون جزءاً من الدراما ويندمج فيها وهي ما نسميه الوظيفة الدرامية ، ولكون القاص شوقي كريم حسن سيناريست ، برع بهذه الدراما أو هذه الوظيفة الدرامية ، له باع طويل في كتابة المسلسلات والمشاهد التلفزيونية ، يتيح الفرصة للانتقال من مشاهدة عمل الى ممارسة عمل مطابق أو مماثل له.
(( تراودها عن نفسها كل حين ، تشعر بأصابعه وهي تدب بين خصلات شعرها، وتشعر بحرائق أنفاسه وهي تشب قريباً من شفتيها وتشعر ... لا يمكن بعد الآن أن تشعر بشيء ، لأنها قررت أن تطفئ نور وحدتها وتمضي راكضة باتجاه القطار الذي شق بطن الليل بصراخه ومضى !! )) ص172
بعض قصص المجموعة قطار أحمر الشفاه ، ذات بناء يعتمد على عنصر الحادثة وانعكاساتها على شخوص القصة فنجد القاص شوقي كريم حسن يركز على عنصر السرد وشرح تفاصيل الحادثة ويسرد المواقف المتوالدة من تفجر الحادثة ومدى تفاعلها مع الشخصية وتأثيرها في توجيه حركية النص القصصي وترابط ثيماته ، يكثر الوصف والتشبيهات أثناء السرد له القدرة الكبيرة بذلك .
(( وما أقسى الايام حين يعيشها الانسان مهجوراً ، وحيداً ضائعاً في بحر الاحلام والتوهمات التي لا جدوى منها ، حين يضع عينيه في عيني السيدة المتشحة بوشاح الصمت ، يتهم سياطاً تنهال دون رحمة ، يكركر صدره مبهوراً من جمالها ، تاجها الذهبي الذي يتمركز عند لمة الرأس بجلال ملكي ، عيناها اللتان تبتسمان بمكر نساء المدينة ودهائهن ، صدرها وهو يطارحها غرامه.)) ص61
كما هو معروف أن الاسلوب يحدد اتجاه الكاتب وجودة كتاباته هي الكفيلة بنجاح العمل كوحدة فنية متكاملة ، ان يكون غنى اللغة ، سرد متماسك ، بعيداً عن الترهل والاسهاب ، وله القدرة على اللعب بالألفاظ ، التي تدل على ثقافته الادبية .
يقول جوته : الاسلوب هو مبدأ التركيب النشط والرفيع ، الذي يتمكن له الكاتب النفاذ الى الشكل الداخلي للغته والكشف عنه .
(( أحلامه ، منذ صباه وهو يلهث وراء مدنٍ من اصفرارٍ وقيء ، حين يأخذها الى ما كان يريد ، كانت تتوسله أن لا يحدثها عن الغربة والموت وسط شوارعٍ مهجورةٍ ، وسيول من الانتظارات ، ترعبها محطات ذكورته ، وترعبه أمكنة سكوتها ، ثمة لذةٍ أفقدتها ملامح وجهه ، لذة تذكر شيئا بعيداً كان بمرارة العلقم لكنه حلو ، كيف يمكن أن يحدث هذا ...!!))ص164
أغلب قصص المجموعة قطار أحمر الشفاه.. يكثر فيها الوصف والتشبيهات التي تثير الدهشة والاستمتاع ، أذكر بعضا منها :(( مثل حصان مكسور الساق / رجلٍ صامتٍ ، يغلي مثل قدر / وتلوب روحي مثل فارةٍ محاصرةٍ / الزمن حين يمر من أمام عينيك ، ثقيلا كالسلحفاة ))
احتوت المجموعة القصصية قطار أحمر الشفاه ، من ثراء في تجربة القاص شوقي كريم حسن فعلى اختلاف القصص في المجموعة من حيث النوع لكنها تترابط في مشتركات مضمونيه تشكل بؤر مركزية لتكون المجموعة مرتبطة بوحدة موضوعية من خلال تراكم كمي ونوعي لتجربة القاص الابداعية وتكون خير دليل على ما تقدم تمظهر ثيمة الحرب بسيمائيتها ، كذلك الموت حاضراً متوهجاً هيمن على بعض قصص المجموعة قطار أحمر الشفاه ، أستخدم القاص شوقي كريم حسن الالفاظ الدالة على ثيمة الموت على اكثر عدد من المعاني والايحاءات.
يقول ايفان بونين :( ان الموت جزء لا يتجزأ من الحياة ، وليس للإنسان عزاء أو سلوى ، لا في العمل ولا في الحياة الاسرية ، الحياة اليومية روتينية ومملة والعمل مرهق والناس غرباء بعضهم عن بعض )
(( رائحة الموت ، تصبح الليالي طويلة آسنة حين تدخل فراش امرأة وحيدة منسية مثلي ، أمرأه هجرتها الايام حتى باتت لا تفرق بين رائحتها ورائحة الموت))ص39
(( يخفق الموت مرفوفاً بجناحيه ويحس ان ذراعاً تطويه ، تمتد لتطويه وترفعه الى علوٍ ، ترميه خفافيش الليل باصطفاقٍ ، بادئة بامتصاص دمه ))ً63
(( الموت حلم مغلق.. الموت استدارات لا تنتهي !! )) ص263
الحوار عنصر مهم في القص لأنه يشكل الحدث الذي يتضمنه الى جانب الشخصيات والزمان والمكان ، الحوار يزيد من عملية التشويق وكذلك يساعد على تصوير حالات معينة مثل الخوف والكبت أو التردد وغيرها من الامور الكثيرة ، القاص شوقي كريم حسن أبدع في استخدام الحوار فكانت لغة مكثفة كان لها أعذب الاثر في تعميق دلالات النصوص ، لتبدو أكثر جمالاً خلف ضباب الكلمات.. نموذج من قصة مسرات خارج اللحظة .
(( تقول : منذ صباي وأنا أراقب جنونك !!
يقول : ما كان عليك ان تخفي كل تلك المآسي!!
تقول : حين كنت تمر .. ترتجف أعماقي وأضيع في لجج من الاسئلة ما الذي صيره هكذا!!
يقول : الاسى ينتج عذابات الاجابات التي لا تؤسس لسؤال ، وهذا ما يجعلني أخاف
تطوي جناحيها الى صدرها فيمسك بها متوسلاً ، استعدادها الى الابتعاد ، ما الذي يجري بينهما ، ولماذا ؟!!) ) ص168
((المكان في القصة عنصر من عناصر البناء القصصي الذي تدور فيه الاحداث وتتحرك الشخصيات ، ويقوم بدور المناظر الخلفية في المسرح ، كما يلعب دوراً أساسياً في اظهار المضمون الاجتماعي والسياسي للقصة ، وقد يجعل الكاتب المكان مقدمة للقصة وتمهيداً لها)) #2
المجموعة القصصية قطار أحمر الشفاه ، كثرت الامكنة التي تحدد هوية الاشخاص وعيشهم ، مثل الاهوار واماكن المدينة / الصحراء / القطار نموذج من قصة الولد في الاسمنت .
( بغتة انهارت بيوت الطين ، وانطفأت نار التنانير ، وفاضت الازقة بنداءات متوسلة ثمة ليل كان يمحو ملامح وجودنا ، مثل زرازير نافرة أخذنا الى ما تحت جناحيه ) ص133
القاص شوقي كريم حسن أعطى صفات انسانية من خلال الوصف لبعض عناصر الطبيعة الجامدة بما يعرف ب ( أنسنة الاشياء) الشجرة تتكلم ، وهذه من خصائص الانسان ، كانت صورة متوهجة ومكثفة المعاني ، مثال مقطع من قصة عدسة الورق.
( وتقول الشجرة ... هي الوحيدة بعد ضجيج الحروب ، واختلاف الازمنة ، ظلت تلازم حضورها اليومي ، لولاها لأسقطني الجفاف حتى نهايتي ) ص267
ومقع نفس القصة والصفحة ( تبكي الشجرة ، وتبكي الام ، وكلاهما تقولان ــ الموت أهون من متاهتنا!!)
الاديب الامريكي ( ادغار الات بو ) الذي يعرف بأنه ابو القصة القصيرة قال: ( ان البداية الناجحة هي التي تحدد نجاح القصة أو اخفاقها ، أما النهاية ففيها يكمن التنوير النهائي للقصة وهي اللمسة الاخيرة التي تمنح الكشف عن الشخصية أو السلوك أو المتعة ، وفيها قد تثير السخرية أو الابتسام أو الارتياح أو حتى القلق والتساؤل )) هذا ما نجده في أغلب قصص المجموعة قطار أحمر الشفاه ..
قصة التخثر (( لحظة خاضت قدماها في جداول الوحل ولفحتها انفاس المدينة الضاجة بصراخ الباعة المتجولين ولغط النسوة الواهمات كان الليل يزحف دون ان تشعر به فاصلا بغطاء كثيف ضوء عينيها الواسعتين مثل صحراء عن مساحات تعبق برائحة الاحلام التي ادمنتها تراقبها بافتتان وتضغط على حنجرتها مثل كتلة صخر )) ص45
معرفتي الجيدة بالقاص شوقي كريم حسن له القدرة المتميزة في اختيار كلماته ووضعها في المكان المناسب ، لغة متكاملة وممتعة يكثر فيها الايحاء وفيها انسيابية ، يختزل الصراع الذي يعيشه الانسان مع ذاته ومع الاخر وكذلك، لان القصة الواعية المبدعة نتاج قاص واعٍ ، لان الوعي والابداع يفتح للخيال نوافذ جديدة وعوالم جديدة تفجر موقفاً سياسياً واجتماعيا ونفسياً وعاطفياَ .
(( تدق اكفنا التي تشبه كرب النخل ابواب محطات الاندهاش ، لا شيء يؤكد ان لحضورنا معنى لا شيء يشدنا الى ما يحدث هناك ، سوى دموع الامهات ، وصمت الاباء وبكاء الوهن ما ان ينتصف الليل ، تمتلأ مسافات النحيل بالهمس ، ومن بين ثياب الخوف نشم روائح الابتعاد، اطوي احلامي الى صدري ، فالظلمة لا تمنح امثالنا غير حطامات من اللهاث وراء مدن تشتعل بنيران الغدر)) 277
أخيراً
المجموعة القصصية قطار احمر الشفاه ، تعددت ثيماتها وجوانبها الانسانية التي تناولها القاص شوقي كريم حسن ، تشعبت احداثها ، وتناثر الحزن في طياتها ، كل الحوادث والتوصيفات مصاغة بدقة تعبيرية لخدمة رؤية محددة ، هي قراءة لواقعنا ، تميز اسلوبها بالبساطة والوضوح مبتعدة عن الغموض الذي يشتت المتلقي وبالتالي يفقد العمل الادبي وظيفته.
يذكر ان المجموعة طبعت في مؤسسة ثائر العصامي بغداد / المتنبي بواقع 282من الحجم المتوسط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#1 عوالم تخييليه الدكتور قاسم المقداد ص67
#2 ايفلين فريد جورج يارد ، نجيب محفوظ والقصة القصيرة دار الشرق للنشر عمان ص217
0 comments:
إرسال تعليق