" المقدّمة "
عندما
تبحر في قصائد ديوان مرايا الحروف، للشاعر اليمني عارف النزيلي، فإنّ أوّل ما يلفت
نظرك براعة الشاعرِ وقدرته على تصوير الحدث، من خلال رسم صورةٍ حرفيةٍ له بكلّ
مافي كتابة الشعر من براعةٍ وشاعرية، ومُكنةٍ أدبية، في استخدام الشاعر لمفرداته
وتسخيرها في شدّ هيكلة القصيدة البنيوية ؛ على عدة قوائمَ تقوم على انضباط الوزن
العروضيّ لديه، وعلى الدّقّة اللغوية، والبلاغة البديعية، فليس ثمّة زحزحةٍ
عَروضيّةٍ وإن كانت وقعت سهوًا ، وليس ثمّة ركاكةٍ لغويّة ، وإن دلّ هذا على شيءٍ
فإنُه يدلّ على مدى ما يملك المؤلّف من حضورٍ ذهنيّ ٍ فائق، بالإضافة إلى عفوية
الإنطلاقة الفكرية لديه، والخالية من التُكلف المعقد في استخدام المفردات ،
والمنتفية عن ترهلات الإقتباس المتكرر ، وسوف تشعر بأنّ كلّ حرفٍ كان يخرج عبر
أنفاسه المتدفّقة من بين أضلاعه الموجوعة على وطنه الحبيب يخاطب فيك إنسانيتك ، ووطنيتك
، وضميرك ، حيث تغلب على الديوان القصائد الوطنية، والتي تشقّ طريقها إلى قلب
القارئ ، ووجدانه ، وأحاسيسه ، وتشعره بتلك الشظايا المخترقة بحدّةٍ بقلب الشاعر
المتوجّع حدّ الإدماء .
إنّها
روح الإحساس بجراح شعبه، وبصرخات وطنه المدوية ، آملًا بأن تحلّق حمامات السلام
عبر قصائده فوق خارطة وطنه الجريح، فهل من آذانٍ سامعةٍ وقلوبٍ واعية ؟!.
" تجلياتٌ في شعر عارف النزيلي "
عندما
يخاطب الشعرُ الضمائرَ البشريةَ عن محنة وطنٍ وشعبٍ أحاطته النكبات الأمنية، واﻷزمات
المعيشية، وندرة الرعاية الصحية، وهجمة الوباء القاسية ، والآلآم النفسية الناتجة
عن الظروف العصيبة ، وبات يشرق بالماء ، ويغصّ باللقيمة، وما من حيلةٍ لتلك اﻷزمة
العالقة، وما من سبيلٍ لاحتوائها ، تبقى صرخات اﻷلم تضجّ المضاجع، وتقتحم دهاليزَ
الضمائر الحية ، فتفجّر الطاقات الكامنة في الكاتب، والشاعر، وكلّ صاحب قلمٍ حرٍ ،
وهذا ما حدث لمؤلف هذا الديوان المكتظّ بقصائد الوجع الوطني ، وبألم المواطن
اليمني، بانطلاقةٍ عفويةٍ من الشاعر لا تكلّف فيها، فحمل قلمه وهو سلاحه الوحيد
محاولًا سدَ فوهة البركان عن وطنه، وإخمادَ فتيل الفتنة التي أكلت اﻷخضر واليابس
في " اليمن السعيد، ومن انطلاقة هذا القلم جاءت قصائد هذا الديوان حاملةً
أسمى تلك المعاني، وأوجعَ صرخات الوجع،
ودموع الحسرة على الوطن الجريح ، وفي جولةٍ قصيرةٍ أدعو القارئ الكريم
لوقفةٍ في تجليات هذا الديوان النازف :
يقول المؤلف في قصيدته " في وجه العاصفة "
:
هذا
الخريفُ المرُّ ينهشُ في دمي
عمرًا
يصدّ الفجرَ عن أسفاري
تتجلى
الصيغة الإيمائية الثلاثية الأبعاد للصورة الشعرية في الشطر الأول منطلقةً من
الدّال على مدلولٍ أبعد منه لتأتي بعدهما دلالية النتيجة
" هذا الخريف المرّ ينهشُ في دمي " قمة
التشبيه البلاغي حيث يشبه الشاعر نفسه بالخريف الذي فقد اخضراره، وبالمرّ الناهش
،وهنا تشبيهٌ استعاريٌ يبين فيه الشاعر مستوى درجة مرارة الحياة التي يعيشها .
ينهش في
دمي : النهش لا يتأتى إلّا بشيءٍ حادٍ ، وحتمية المنهوش أن يكون كتلة، بينما يصف
الشاعر هنا بأن دمه ذلك المنهوش ! وإن دلّ هذا التعبير المجازي فإنه يدلّ على مدى
مكنة المؤلف اللغوية والبلاغية، حيث أنّ أُثمن مايملك الإنسانُ هو دمه مؤكدًا ذلك
في الشطر الثاني من البيت
عمرًا
يصدُّ الفجرَ عن أسفاري : وما يصدّ الفجرَ عن إسفارِهِ على الإنسان إلّا الموت،
وهذه المطابقة اللغوية والبلاغية تفكّ الشفرة الثلاثية في الشطر اﻷول من البيت.
إن
قصّتِ الأوجاع أجنحتي فلن
تطفي
الرياحُ بداخلي إصراري
سأظلّ
كاليمن الحبيب مكابرًا
رغم
الجراح وحزنهِ الموّارِ
في هذين
البيتين من الإصرار والعزيمة الشيء الكثير، والمطالع لقصائد هذا الديوان سيعرف
حتمًا مصداقية الشاعر في كل حرفٍ كتبه، وفي البيت تشبيهٌ ضمنيٌّ ، والأجنحة هنا
كناية عن القدرة الحركية لدى الإنسان ، وحتى مع فقدانها، يبقى الإصرار بداخل قلب
الشاعر نورًا لا تستطيع الرياح إطفاءَه.
سأظلّ
كاليمن الحبيب مكابرًا
رغم
الجراح وحزنه الموّار
يعتز
الشاعر هنا بوطنه المكابر، والصامد، رغم تلك المحن الصعبة التي داهمته،
سأظلّ
كاليمن : إستخدم الشاعر هنا إسلوب التشببيه البياني من خلال استخدامه لأداة
التشبيه " ك"، ليكون واضحًا وغير خاضعٍ للتورية .
رغم الجراح وحزنهِ الموّار : وهنا تشبيهٌ تمثيليٌّ ينقل الصورة التشبيهية
لذهن القارئ لمدى تأثير تلك الجراح على الشعب اليمني وعلى الشاعر، فبرغم ذلك الحزن
الموّار، وما تحمله العواصف الموّارة المحملة باﻷتربة القوية سيبقى وطنه اليمن
راسخ الصمود قوي التحمل.
وحدي
هناك وليس ثمّة ثانِ
فعلام
ياحزن المدى تغشاني
في
حديثٍ مع النفس والآه يحاول الشاعر التخفيف عن نفسه المتوقدة بالحزن،
وطرد
الحزن عنه في عتابٍ معه ، لكن هيهات
هيهات، فكلّ قصائدِهِ كتائب نضالٍ تثقيفيّ ٍ ، وخطّ ٍتوعويّ ٍ لا يخلو من
الحزن ، وكلّ مدادِهِ من قارورة قلبه الجريح ، تشهد عليه أبياته هذه في قصيدة لا
تطرقِ الباب :
لا
تطرقِ الباب إنّ البابَ موجعةٌ
والقهرُ
ملء دموع الدّهرِ ينسكبُ
فالبدرُ
منخسفٌ، والنّجمُ منكسفٌ
والحزنُ
ليلٌ تصلّي خلفهُ السّحبُ
وفي
قصيدة المؤلف "قصيدة بلا عنوان "
لنا في
وطني العربيّ طفلٌ
يُعذّبهُ اﻷسى
والذّكرياتُ
لبيعُ
الورد في وطني حرامٌ
وذنبٌ ليس
يغفرهُ الغزاةُ
في هذين
البيت جرحٌ نازفٌ، ومغزىً نافذٌ يقف القارئ أمامهما وفي عينيه تترقرق الدموع على
ماحلّ ببعض الخريطة العربية من الجراح والتناحر، ونرى في البيت اﻷول قول الشاعر :
لنا في
وطني العربيّ طفلٌ
يعذّبُهُ
اﻷسى والذّكريات
في
صرخةٍ مدويةٍ وتلميحٍ قد بحّ صوته إلى الوطن العربي بكافة أطيافه ، وطن اﻷم ، وطن
اﻷب ، وطن العروبة والانتماء، بأنّ هنا لهم طفلٌ متعذّبٌ، وفي حضن والديه ! ومن
بطن الوطن العربي كان الجرح والأسى !
وبعيدًا
عن إسلوب الاستعطاف والذي ليس من شيم أهل اليمن، إستخدم الشاعر أسلوب تحريك الغيرة
والنخوة العربية على اخوتهم العرب بوطنه
اليمن والذي شبههه بالطفل.
لبيعُ
الورد في وطني حرامٌ
وذنبٌ
ليس يغفرهُ الغزاةُ
وهنا
يختار الشاعر أبسط الوظائف والأعمال، وأجملها أيضًا فليس أجمل للمشتري من شراء
الورد بعطره الفواح ، فهو هدية القلوب، ولغة الحبّ والسلام،
وبرغم
أنّ الورد لغة الحبّ والسلام لدى الشعوب كلها، إلّا أنّ الغزاة تراه ذنبًا لا
يُغتفر كما صوّره المؤلّف، إلى هذا الحدّ
القاسي استطاع الشاعر أن يصوّر مدى الويلات التي انصبّت على وطنه الحبيب اليمن،
والذي مازال ينزف.
وأختتم
هذه التجليات في ديوان "مرايا الحروف" للشاعر الكبير عارف النزيلي بهذين
البيتين أدناه، حيث أنّ الحديث عنه يطول فقد تجاوزت قصائده 80 قصيدة من أروع ما
قرأتُ من القصائد الوطنية تأثيرًا على النفس البشرية، وعبر إسلوب طرحٍ حضاريّ ٍ
وموضوعيّ ٍ مميز ، يُشكر عليه الشاعرُ ، ينمّ عن تمتع الشاعر بالحرص الشديد على
وطنه، وعلى لحمة شعبه، وعلى انتمائه
العربيّ، من خلال محاولاته الإصلاحية والتي سيلاحظها القارئ الكريم أثناء مطالعته
لهذا الديوان الجريح " مرايا الحروف ".
شيءٌ
منَ اللاشيء يشبهُ موطني
وحطامُ
تاريخٍ ودهرٍ فانِ
ولمن
سأبحر يا حروف قصيدتي
ولمن
سأشكو يا هوانِ
0 comments:
إرسال تعليق